بين الجسد والدين علاقة تظهر التشدد أو اللين. فهذا هو البابا تواضروس الثاني -بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية- يمسك بالإنجيل في قداس بمؤتمر شباب أوروبا القبطي وعلى يمينه شماس بحلقة شعر غريبة وعلى يساره مَن ربط شعره كذيل حصان. فيما لم تمنع هيئة الرجلين مشاركتهما البطريرك في الصلاة.
الصورة التي نشرها المتحدث الرسمي باسم الكنيسة المصرية ضمن تغطية فعاليات المؤتمر الذي أقيم بالنمسا أثارت جدلًا واسعًا. ما بين من اعتبر صورة البابا رسالة ضد من يتمسكون بالشكل فينفرون الشباب من الكنيسة. وبين من اعتبروا قبول البابا لذلك إهانة لقدسية الكنيسة.
الجسد والدين في علاقة مرتبكة
مارك فيلبس الباحث الأرثوذكسي يرى الصورة من خلال العلاقة المرتبكة بين الدين والجسد. ففي الدين يصير الجسد أداة لتنميط الإنسان ومجال لفرض القيود والتحكمات والطاعات. وقد يكون هذا بقصد “تطهيره” من الدنس كمستودع للنجاسات والغرائز. ولكن غالبًا ما يقود هذا إلى تأطيره وقمعه وضبطه والتسلط عليه. مشيرًا إلى ضبط الجسد هنا من أجل إخضاع الروح وتدجينها في إطار المؤسسة الدينية التي تتولى تقديمه للإله والنيابة عنه في أمور الدنيا كما الآخرة.
يعتبر “مارك” أن الجسد في الأخلاقيات الكنسية يتخطى حدود كيانه كـ”جسد” نحو كونه تجسيدًا للشخص. ومعبِّرا عن وجوده في هذا العالم. موضحًا أن مفهوم الجسد في الكنيسة هو “حياة للمادة” مطبوعة بشخصية متفردة مميزة وواعية ترتقي مع بقية قوى الذات في معارج الروح. فالإنسان لا يصبح إنسانًا إلا في بيولوجيته أولا -حسب قوله.
ويؤكد “مارك” أن هناك أمرين يحكمان وصايا الكنيسة عن المظهر الجسدي. أولًا ألا يكون هذا المظهر يُعبِّر عن هوى داخل النفس يدل على عدم توبة الإنسان واستعداد من أجل قبول الأسرار الإلهية. وثانيًا هو عدم تشابه هذا المظهر الجسدي مع مظاهر العبادات الوثنية/غير المسيحية. أو أن يكون خاصًا بحضور مظاهر احتفالات عالمية مثل المسارح وصالات الرقص.
ومن هنا نفهم عظات القديس يوحنا ذهبي الفم في توبيخ المسيحيين الذين يحضرون للكنيسة بالحلي والثياب والضفائر والزينة كأمور تتعارض مع الغرض من الصلاة أصلًا. وهو التوسل والحكمة والورع. مضيفا: “أي إن تلك أمور كان يفتعلها البعض من الطبقات الأرستقراطية خصيصًا وكأن ذهابهم للكنيسة كذهابهم للمسارح والأعياد العالمية. وهنا أتساءل: أي هوى تًعبِّر عنه لحية شاب صغير أو طريقة تصفيفه لشعره؟ خاصًة أنه لا يقصد أن يكون هذا المظهر خاصًا عند حضوره إلى الكنيسة للاستعراض. بل هو مظهر عام اختاره هو لنفسه سواء في الكنيسة أو خارجها.
هل تعتبر صورة البابا رسالة للمتشددين؟
الكاتب بيشوي القمص -مقيم في الولايات المتحدة- يروي وقائع استبعاد متعددة تعرض لها زملاء له في الخدمة الكنسية بأسيوط حين كان مراهقًا في تسعينيات القرن الماضي. إذ منع القساوسة أحد الشمامسة من الصلاة بسبب عدم تهذيب ذقنه. ثم تبين بعدها أن هذا الشماس قد فارق والدته في الأسبوع نفسه دون أن يحصل على رعاية كنسية واجبة. مؤكدًا أن المسيحية ديانة تنظر للجوهر وليس للمظهر. ولكن بعض التعاليم التي انتشرت خلال الأربعين سنة الماضية قد غلبت الشكل على المضمون. ما تسبب في ترك العديد من الشباب الكنيسة القبطية نحو كنائس أخرى أبدت تسامحًا مع المسألة.
القمص لا يرى أن صورة البابا مع الشمامسة رسالة للقبول بقدر ما يشير إلى طبيعة الكنيسة في أوروبا والغرب عمومًا. فلا يمكن للكهنة التعليق أو التنمر على شكل أو ملابس رعاياها لأن ذلك يدخل في بنود المخالفات القانونية في تلك الدول. مؤكدًا أن صورة البابا كانت ستصبح رسالة بلا شك إن تم التقاطها في مصر.
وعلى العكس من ذلك فإن مارك فيلبس يشير إلى أن الصورة محل الجدل لا تدل إلا على “كنيسة المسيح”. التي تقبل كل شخص بفرادة تعبيره الجسدي طالما لا يحمل هوى الاستهانة أو الاستعراض عند الحضور إلى الكنيسة. مضيفًا: “لأنه أي مظهر كانت فيه المرأة الخاطئة صاحبة قارورة الطيب التي سكبتها على رجلي السيد ومسحتهما بشعر رأسها أي حالة جسدية كانت فيها المرأة التي أُمسكت في ذات الفعل التي غفر لها المسيح. أو المرأة النازفة الدم أو المفلوج أو مريض بركة بيت حسدا الذي لم ينزل الماء طيلة 38 عامًا”. مشددا على أن التعبير الجسدي في الإنجيل بل حتى الهوى الروحي قد منع المسيح من التلاقي مع الإنسان. فما بالنا بشباب يطلب الرب ويتلمس الحضور في معيته!.
القس شنودة إسكندر -كاهن كنيسة العذراء- يتفق مع ما ذهب إليه مارك فيلبس في تحليله لصورة البابا. إذ يرى أن البابا تواضروس اقتدى بالمسيح الذي تقبل الجميع في حضوره. لأن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله. ومن ثم فإن دور الكنيسة دائمًا هو تقديم المحبة والرعاية والاحتضان لكل من أراد أن يمارس حياته المسيحية داخلها.
المظهر الخارجي ارتداد للفكر اليهودي
وشدد “مارك” علي أن منع الناس من القدوم إلى المسيح بحجة عدم اللياقة هو استمرار لذلك التراث الديني القبطي المتعلق بانتهاك الجسد. وهو انتهاك مفاهيمي لاهوتي معيب. يغيب الإنسان كله ويحتقر جسده الذي هو جزء أصيل من وجوده في العالم. ويمحو كرامته. ويجعلها ثانوية لصالح الفقه والارتداد إلى اليهودية بشريعتها الموسوية. والتي من المفترض أن تكون قد تخلصت منها الكنيسة إلى الأبد.
وهو ما يعيدنا -حسب قوله- إلى الكلمة التي قالها يسوع المسيح لليهودي: “وَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ الْمُرَاؤُونَ! لأَنَّكُمْ تُنَقُّونَ خَارِجَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ، وَهُمَا مِنْ دَاخِل مَمْلُوآنِ اخْتِطَافًا وَدَعَارَةً.، َأيُّهَا الْفَرِّيسِيُّ الأَعْمَى! نَقِّ أَوَّلًا دَاخِلَ الْكَأْسِ وَالصَّحْفَةِ لِكَيْ يَكُونَ خَارِجُهُمَا أَيْضًا نَقِيًّا. هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا: مِنْ خَارِجٍ تَظْهَرُونَ لِلنَّاسِ أَبْرَارًا، وَلكِنَّكُمْ مِنْ دَاخِل مَشْحُونُونَ رِيَاءً وَإِثْمًا”. (مت 23: 25-27)
الملابس والدين والكنيسة
صورة البابا القادمة من النمسا تعيد فتح جدل متجدد في الكنيسة القبطية في السنوات الأخيرة حول قضية الملابس. ففي الوقت الذي تنشر فيه صفحة محبي الأنبا يؤانس -أسقف أسيوط- مشيدة بقبول البابا لأولاده شمامسة المهجر الذين رفضوا كل مغريات الدنيا وارتموا في حضن الكنيسة فإن الأنبا يؤانس -أسقف أسيوط- ذاته قد منع الفتيات من دخول قداسات الإكليل أو نصف الإكليل بملابس غير محتشمة فى الكنيسة قبل سنوات. بل أمر بتفصيل “بورنس” للحشمة ترتديه الفتاة قبل دخولها الكنيسة.
وهو ما أثار أزمة في إيبارشيته بأسيوط. حيث اعتبر الكثير من الأهالي أن إجبار فتياتهن على ارتداء مثل تلك الملابس “إهانة شخصية” لهم. الأمر الذي دفع الكنيسة لمراجعة القرار بعد صعوبة تطبيقه بسبب معارضة الفتيات والأهالي معا لمثل تلك الممارسات. وهو الأمر الذي يشير إلى اختلاف الرؤى بين قبول شمامسة النمسا الذكور في المجتمع الكنسي وبين التضييق على الفتيات وإلزامهن بكود ملابس.
وفي صيف عام 2019 انطلقت حملة تبناها القس غبريال محب -كاهن كنيسة العذراء بدماريس بالمنيا- تسمى “بنت الملك”. وشعارها “بنت الملك لا ترتدى إلا ملابس الملوك”. وتدعو الحملة بنات الكنيسة إلى ارتداء ملابس طويلة بأكمام كاملة ومحتشمة خلال فصل الصيف. وهى الحملة التي تقبلتها بنات كنيسته بالمنيا باعتبارهن ينتمين لمجتمع محافظ في صعيد مصر. معربا عن سعادته باستجابة الفتيات لتلك الحملة.
فيما يعتبر كمال زاخر -الكاتب المتخصص في الشئون القبطية- أن الكنيسة كجزء من المجتمع المصري تأثرت بتعاليم سلفية محافظة تهتم بالمظهر على حساب الجوهر. ومن ثم زادت جدالات الملابس بين أروقة الكنائس في السنوات الأخيرة كجزء من مناخ عام لم يعد متسامحًا مع فرض التعاليم الأبوية القديمة دون تأصيل من اللاهوت المسيحي. لا سيما القبطي. معتبرًا أن صورة البابا جوار الشمامسة وما خلقته من جدل “حلقة في سلسلة نقاش مفتوح حول الكنسي والاجتماعي والحدود بينهما”.