“هبدأ بآخر نقطة ذكرتها عن حقوق الإنسان، والمرة دي السؤال هرد عليه بشكل مختلف، واسمح لي أدعوك ومعك كل من يهتم بهذا الأمر يجي عندنا ويشوف الحريات الدينية، وحقوق المرأة، وبرنامج حياة كريمة للمواطنين، وحرية الرأي التعبير، وجلسات الحوار الوطني، وسنتيح لك فرصة تلتقي مع الجميع وتتحدث معهم، وما تراه أرجو أن تنقله هنا لألمانيا بكل شفافية”. خطاب مختلف تمامًا عن خطابات السنوات الماضية وردود مغايرة على الأسئلة نفسها، وبكلمات حداثية منتقاة بعناية، ألقاها الرئيس عبد الفتاح السيسي على أسماع الصحافة العالمية خلال زيارته ألمانيا قبل أيام.

حسب وصف الرئيس، رده على سؤال حقوق الإنسان جاء هذه المرة بشكل مختلف عما اعتدناه خلال السنوات الماضية. فمن حيث أولويات الدولة المصرية ورؤيتها بالأساس لمنطق حقوق الإنسان وكيفية تلبيتها، اختلفت الرؤية المصرية جذريًا. بل ويبدو أنها عادت أو أصبحت تنتمي بشكل أو بآخر تعريفات الخطاب الدولي لقضايا حقوق الإنسان وحق الرأي والتعبير.

كان لافتا أن الرئيس يحاول الوصول مع الغرب إلى تفاهمات على أرضية مشتركة لا تتعارض ولا تتضارب ـ لأول مرة ـ في واحد من أعقد الملفات التي واجهت الدولة المصرية خلال السنوات الماضية. إذ كان الملف يطرح سواء في الغرف المغلقة بين السيسي وزعماء الغرب ـ أو في المؤتمرات الصحفية من خلال وسائل الإعلام التي كانت تتعمد إحراج قادة البلاد خلال زياراتهم الخارجية، بالحديث عن الأوضاع الحقوقية للدولة المصرية.

مراحل تطور الخطاب الرسمي

حتى العام الماضي فقط كانت مصر تتعامل في المحافل الدولية مع الانتقادات الحقوقية الغربية تجاه مصر بنوع من التحفز والرفض في كثير من الأحيان.

الخطاب الرسمي المصري أوصل دائمًا شعورًا بالاستهداف وعدم تقدير الغرب للمخاطر التي تحدق بالدولة من كل اتجاه. لاسيما الإرهاب وتحديات الفقر والتعليم والبنية التحتية. إلى جانب مخاوف العودة لنقطة الصفر في عدم الاستقرار السياسي والأمني، بعد أن دفعت مصر ثمنًا غاليًا لذلك.

في أكثر من مناسبة طالب الرئيس الأوروبيين بتفهم حقيقة ما يحدث في مصر. فالسعي للخير والتقدم أيضًا من حقوق الإنسان. ولم يكتف بذلك، بل أشار إلى أحقية كل دولة في تبني تعريفات تناسبها في حقوق الإنسان. ولهذا قال حاسمًا خلال قمة فيشجراد بالمجر في أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي: “رفضنا المزايدة على استضافة اللاجئين ونتعامل معهم كضيوف، والحقوق لاتتعلق فقط بالممارسة السياسية والتعبير عن الرأي ولا نحتاج لأحد يقول لنا ما هي حقوق الإنسان لديكم”.

استكمل السيسي رؤيته: “دولة مثل المجر فيها 10 ملايين مواطن وهولندا فيها 40 مليون مواطن. لكن عندنا فأنا مسؤول عن 100 مليون مصري والحفاظ عليهم. وهذا أمر ليس باليسير خاصة أن 65% من شعب مصر شباب ولديه أمل ورغبة في الحياة”.

الخطاب الرسمي في الأعوام السابقة.. من الحدة إلى الهدوء

بالعودة للأعوام السابقة، يتكشف لنا أن كل مرحلة لاحقة كانت تحمل لغة أهدأ في الخطاب الرسمي المصري من المرحلة التي سبقتها تجاه النبش الغربي في هذا الملف.

خلال فبراير/شباط من عام 2019 وأثناء حضور الرئيس فعاليات القمة العربية الأوروبية، قال الرئيس في المؤتمر الصحفي: “الأولويات تختلف في أوروبا عن مصر. بالنسبة للمصريين الأهم هو حماية البلاد من الدمار والانهيار”.

انتقد السيسي بشدة الاهتمام المبالغ فيه من الصحافة الغربية بالملف الحقوقي المصري. وأشار إلى اختلاف الثقافات والظروف. وطالبهم بأهمية التعامل مع الواقع المصري ضمن سياقات ما يحدث في المنطقة. إذ تعرضت مصر لمئات وربما آلاف العمليات الإرهابية خلال السنوات الماضية. بما يوجب التعامل من أجهزة الدولة بطريقة مختلفة ـ دون تجاوز للقانون ـ واستكمل متحديًا: “انتم مش هتعلمونا. لدينا إنسانيتنا وقيمنا وأخلاقياتنا كما لديكم ونحترمها، فاحترموا أخلاقايتنا وأدبياتنا”.

اعتمدت مصر لاسيما خلال الفترة الثانية من الحكم الحالي الظهور من أعلى المنصات العالمية بخطاب يتحدي الضغوط الخارجية. خاصة بعد ترتيب أوراق المنطقة، وظهور تحالف عربي قوي، قادر على مواجهة الانتقادات التي يراها الحكام العرب ليست أكثر من ابتزاز سياسي.

حسب مصادر، تملك المؤسسات السيادية المصرية قناعة أن الغرب لاسيما الولايات المتحدة يلجأون لهذا الملف فقط كلما احتاجوا إلى تمرير خطط إقليمية جديدة أو إنشاء تحالفات أو تغيير سياسات.

اقرأ أيضًا: ملفات الحوار الوطني| أبرز القضايا والتحديات وفرص النجاح (الإصدار الكامل)

توضح المصادر أن القيادة السياسية المصرية تشعر بمزيد من القوة بل والتفوق الأخلاقي في مواجهة الغرب المستمرة على جبهات عدة في الملف الحقوقي. وأن القيادة الحالية ترى أنها تسعى بكل قوة لتمكين المواطنين من حقوقهم في التعليم والصحة والسكن. أما سجالات التعبير عن الرأي والعودة لأنشطة ثورة 25 يناير الاحتجاجية فهي رفاهية لا تناسب المصريين في الوقت الحالي.

متى بدأت الاستجابة؟

في سبتمبر/أيلول من العام الماضي، بدا لافتًا أن القاهرة تخلت عن تصلبها في الرد على الانتقادات الحقوقية، وألقت حجرًا في المياه الراكدة، بإعلانها عن سلسلة من الإصلاحات تحت عنوان “الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان”.

كانت الأمة العربية تحتاج إلى نموذج، والتجربة المصرية بها إيجابيات وإنجاز واضح سريع وكفء في مسائل العمران والطاقة. لكن طبع العمل الإنساني يحتاج إلى تطوير ومواجهة تحديات.. يقول عبد الحليم قنديل، الكاتب الصحفي، في تعليق على إطلاق الاستراتيجية.

يستكمل قنديل: “الذي يتصور أنه وصل إلى حدود الكمال، فقد وصل إلى حدود الموت، وتطوير التجربة المصرية وجعلها مثالا هاديًا لمنطقة تنتظر صوتًا قادمًا من مصر، يأتي في القلب منه فكرة حقوق الإنسان بالمعنى العام . يضيف: لم يعد هناك جدوى من إجراء أي مقايضة بين الحقوق السياسية والمدنية والشخصية من جهة، والحقوق الاقتصادية والاجتماعية من جهة أخرى”.

تضمنت الاستراتيجية 4 محاور عمل أساسية تتكامل مع بعضها البعض عن الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. إلى جانب حقوق المرأة والطفل والأشخاص ذوي القدرات الخاصة والشباب وكبار السن. فضلًا عن التثقيف وبناء القدرات في مجال حقوق الإنسان.

استقبلت المعارضة المدنية ومنظمات المجتمع المدني المبادرة بنوع من التقدير الموضوعي وزادت عليها ببعض الأفكار ودعت إلى تفعيلها. بيد أن الأشهر الماضية حملت كثير من الانتقادات بسبب ملف السجون المختلف عليه بين السلطة والمعارضة، والقيود المفروضة على وسائل الإعلام.

هذا الشد والجذب جعل المنصات الدولية تعود لإطلاق قذائفها على الاستراتيجية والرؤية المصرية لهذا الملف الشائك.

الحوار الوطني.. آمال وتحديات

في إبريل/نيسان الماضي فاجأ الرئيس السيسي الجميع وأعلن عن حاجة مصر إلى حوار سياسي يستوعب طاقات الجمهورية الجديدة التي أعلنها أيضًا في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي خلال الحديث عن العاصمة الإدارية الجديدة.

وفي حفل إفطار الأسرة المصرية الذي نظم بعد أيام قليلة من التصريحات الرئاسية عن الحوار السياسي،  دعا الرئيس رموز المعارضة لأول مرة للحوار، على رأسهم حمدين صباحي والمخرج خالد يوسف والكاتب الصحفي والسياسي خالد داوود، كتأكيد من الرئيس على دلالات حديثه في إعادة لحمة معسكر ثورة 30 يونيو الذي كانت المعارضة المدنية أحد أهم أركانه.

لقد تعامل الرئيس مع طبيعة التحديات الراهنة بحزمة إجراءات ذات طبيعة اقتصادية وثقافية وأخيرًا سياسية..  يقول الدكتور عبد المنعم سعيد رئيس المجلس المصري للدراسات.

بحسب سعيد، فإن الجديد في الحوار الذي نادى به الرئيس أنه ضم أطرافًا لم تكن متداخلة مع الترتيب السياسي الموجود في مصر والممثل بطريقة مختلفة داخل مجلس النواب أو الشيوخ. لهذا جرى التمهيد للخطوة بالإفراج عن محتجزين على ذمة حبس احتياطي وأسباب أخرى.

اقرأ أيضًا: بعد عبد الناصر.. لماذا اتسعت الفجوة بين الرئيس والمثقفين؟

كما أعاد الرئيس تفعيل لجنة العفو الرئاسي التي كانت تشكلت في أحد مؤتمرات الشباب سابقا لإعادة النظر في من يستحقون الخروج من الحبس.

يرى رئيس المجلس المصري للدراسات أن الرئيس وبالرغم من إعلان الحاجة للحوار السياسي. إلا أنه كان واضحًا في الحديث عن التكلفة التي تكبدتها البلاد من الإرهاب والفوضى خلال العقد الماضي. ولفت إلى أن مصر تملك خطة تمتد حتى عام 2030 والحوار يجب أن يكون حول هذا البرنامج الذي أصبح أمرًا واقعا على الأرض.

‏التوتر الذي عاد

مع التفاؤل الكبير الذي بدت عليه المعارضة في بداية استقبال عرض السلطة الحوار، عاد التوتر ليخيم على المشهد. وقد تصاعد مؤخرًا بإعلان استقالة أحمد الطنطاوي البرلماني السابق من رئاسة حزب الكرامة.

خرجت الكواليس والتصريحات تؤكد أن هناك اختلافات تتزايد بشدة حول موقف المعارضة من الحوار السياسي، وإن كانت الحركة المدنية الممثلة داخل الحوار يجب أن تنسحب فورًا بسبب تصلب ملف المحتجزين على ذمة الحبس الاحتياطي دون توجيه اتهام رسمي، وعدم الإفراج عن أكبر عدد ممكن منهم كما جرى الاتفاق عليه، أو تستكمل الطريق رغم تعرجاته حفاظًا على مكتسبات المرحلة الماضية.

وسط هذه الأجواء، جاء حوار الرئيس مع الإعلام الألماني، ليحمل ودًا وتفاهمًا غير مسبوق مع انتقادات الغرب للملف الحقوقي. إذ دعاهم هذه المرة لنقل ما يحدث من حراك على الساحة المصرية. كما دعاهم إلى التحدث للمعارضة دون تدخل من الدولة لتطرح الأسئلة نفسها. لقد كانت لهجة الرئيس مع الإعلام الغربي، والتخلي عن الثوابت المصرية المتكررة في الردود على انتقادات الملف الحقوقي من أسباب الطمأنة رغم الاختلاف حول الأولويات وتمسك كل طرف من السلطة والمعارضة برؤيته للإصلاح أم ما زال الوقت لا يسمح بمعرفة ما ستسفر عنه الأيام.

للإجابة عن هذه التساؤلات وغيرها حاول “مصر 360” التواصل مع رموز المعارضة وممثلي الحركة المدنية الوطنية في الحوار الوطني. لكن البعض تحفظ ورفض الرد ربما إفساحا للفرص خلال الفترة القادمة لإنجاح الحوار. بيد أن الدكتور عمرو هاشم ربيع، نائب رئيس مركز الأهرام للدراسات وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني قال في تصريح خاص: هي مناسبة جيدة للحديث عن أن هناك “بوادر انفتاح” في المجال العام، ودليل على صدق النوايا، وكل شيء مرهون بما سيحدث على الأرض.

يستكمل عمرو هاشم ربيع، لـ”مصر 360″: ملف المحبوسين ما يزال عالقا. صحيح كانت هناك شدة في الردود على الانتقادات الغربية وأصبح الأمر يحمل الكثير من الليونة. لكن مازالت أعمال القبض على المعارضين مستمرة والإفراج في المقابل يسير بوتيرة بطيئة. وليس أمامنا إلا الانتظار لعل القادم أفضل.