في 29 يونيو/حزيران 2022، التقى قادة حوالي 30 دولة في مدريد بقمة لحلف الناتو. كما شارك أيضًا قادة ومسؤولون لدول صديقة من خارج الحلف ولدول مرشحة لعضوية الحلف. وبنتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا، ظهرت مؤشرات مهمة على تحولات في بنية الأمن الدولي وهيكليته معًا في سابقة تعد الأولى والأهم ليس بعد انهيار الاتحاد السوفيتي فحسب، بل وأيضًا بعد الحرب العالمية الثانية.
اقرأ أيضًا.. كيف بدأت الموجة الجديدة من سباق التسلح بين روسيا والغرب (3)
في نفس اليوم، ولكي يؤكد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للغرب أنه غير معزول، وأنه يستطيع التحرك بحرية في حدائقه الخلفية تحت حراسة الصواريخ الصوتية وفرط الصوتية، توجّه إلى تركمانستان ليعقد قمة “بحر قزوين” بمشاركة أذربيجان وكازاخستان وإيران أيضًا. أي اجتمع خمس رؤساء تشترك دولهم في بحر قزوين. مع العلم بأن روسيا وإيران بينهما خلافات جوهرية تمتد لأكثر من 30 سنة على تقسيم قاع البحر. ولكن تم تجميد كل ذلك، إذ دخلت إيران مع الغرب في مشكلات، وأصبح من مصلحة موسكو أن تظل طهران لأطول فترة ممكنة تحت العقوبات الغربية، لأن روسيا مستفيدة من برنامج النفط مقابل الغذاء، ومن خضوع إيران لتوجيهات الكرملين، ومن كل انتهاكات العقوبات الدولية على إيران.
جمع الرئيس الروسي أربعة رؤساء وأعاد عليهم كل التصريحات التي تم الإدلاء بها طوال السنوات الثلاثين الماضية. لكن إيران قررت إغلاق هذا الملف مؤقتًا بسبب الأفخاخ المنصوبة حولها من الحلفاء قبل المنافسين والأعداء. وأذربيجان حسمت أمرها وتحولت عن روسيا نحو تركيا والاتحاد الأوروبي. أما كازاخستان فتسعى لإيجاد زوايا مريحة للحركة بين الصين والولايات المتحدة وتركيا وروسيا على الترتيب.
وفي الحقيقة، فهناك انزعاج واضح من القيادة الكازاخستانية الجديدة من تحركات الكرملين ومحاولاته الضغط عليها، وخصوصًا بعد أن أعلن رئيسها أمام بوتين، في مؤتمر سان بطرسبورج الاقتصادي، بأن بلاده لن تبرر غزو أوكرانيا، ولن تعترف بالمدن الأوكرانية التي حولتها روسيا إلى “جمهوريات مستقلة ذات سيادة”.
وفيما يتعلق بتركمانستان، فإنها قد أعلنت حيادها منذ فترة طويلة، ولا يمكنها أن تكون نافعة لروسيا على المستوى السياسي أو الجيوسياسي. وكان من الواضح أن أهداف قمة الناتو التي ضمت نحو 40 ممثلًا لأربعين دولة تختلف عن أهداف قمة بحر قزوين التي ضمت 5 رؤساء لخمس دول لديها مشكلات حقيقية مع بعضها البعض، ولديها أيضًا توجهات ومسارات مختلفة تمامًا، سواء في السياسة أو في الاقتصاد: كانت قمة الناتو أمنية بامتياز، بينما قمة بحر قزوين “يُرَاد” لها ولو حتى إعلاميًا أن تكون في مجالات الطاقة والاقتصاد والأمن.
زيارة بايدن للمنطقة وزيارة بوتين لإيران
قام الرئيس الأمريكي جو بايدن بجولة إلى إسرائيل وفلسطين والمملكة العربية السعودية، حددها غالبية المحللين السياسيين والدبلوماسيين و”الاستراتيجيين” في سياق التجييش الأمني- الدفاعي، والتطبيع، وأمن الطاقة، ووضعوها في ميزان المكسب والخسارة بالنسبة للطرفين الغربي والعربي والغزو الروسي لأوكرانيا. والتقى بزعماء وممثلي ما يقرب من 10 دول متنفذة فعليًا ولو حتى في مجالات معينة من الاقتصاد والطاقة والأموال والأوزان الإقليمية المختلفة.
وفي يوم 19 يوليو زار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إيران لعقد قمة مع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي والمرشد الأعلى للثورة الإسلامية علي خامنئي والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. ومن الواضح أن زيارة بوتين لإيران ولقائه مع طرفي الوساطة في صيغة “أستانا” بخصوص الأزمة السورية، وفي غياب الرئيس السوري بشار الأسد نفسه، كانت- ربما- من أجل إحياء هذه الصيغة الهشة ولو حتى نظريًا ومحاولة تغييب صيغة “جنيف” الدولية الأساسية. لكنها كانت خطوة مهمة من وجهة نظر موسكو لمنح الرئيس الروسي منبرًا للحديث، وإعطاء انطباع بأن حركة روسيا تتزامن وتتوازى مع حركة الولايات المتحدة في الساحتين الإقليمية والدولية.
في الحقيقة، إذا تم تحقيق 10% فقط مما ورد في لقاءات وتصريحات وبيانات القمة الخليجية الأمريكية للأمن والتنمية التي شارك فيها بايدن وقادة دول الخليج، إضافة إلى زعماء مصر والأردن والعراق، لتفادت دولة مثل مصر (على سبيل المثال) العديد من متاعب أزمة الغذاء والطاقة. وإذا تم تحقيق 10% إضافية لتمكنت أيضًا دولة مثل مصر (على سبيل المثال) من التقدم خطوة إلى الأمام نحو أوروبا والولايات المتحدة من حيث الاستثمارات واندماج القاهرة في أسواق الوقود والطاقة، واندماجها أيضًا في سلاسل إنتاج التكنولوجيا الرقمية وطرق نقلها. وفي كل الأحوال، الكرة في ملعب الزعماء والقادة الذين التقوا بايدن، بصرف النظر عن، وأيضًا بعيدًا عن، ما يتم تداوله في الصحافة والإعلام العربيين من بطولات وهمية وتصريحات كلامية. إذ إن العقلانية والبراجماتية هما الفيصل في تحقيق الكلام الجاد والاتفاقات العملية، والعمل على استمرارها. أي اختيار “الزوايا النشطة” للتحرك من خلالها إلى تحقيق مصالح نفعية حصرًا، بعيدًا عن “الزوايا الميتة” المرتبطة بالنظرة العقائدية أو الرومانسية أو الحسابات غير الدقيقة، أو التعميمات المخلة.
أما القمة الثلاثية التي جمعت بين رئيسي وأردوغان وبوتين فقد كانت قمة فارغة من المضمون. وقام أردوغان بإفشال جميع خطط بوتين، حيث أرادتها موسكو موجهة ضد الولايات المتحدة وأوروبا عبر البوابة السورية ومن خلال استخدام التناقضات بين واشنطن من جهة وبين أنقرة وطهران من جهة أخرى. إضافة إلى تجاهل صيغة جنيف واعتماد صيغة “أستانا” كصيغة أساسية لتسوية الأزمة السورية ولو حتى نظريًا. غير أن أردوغان ربط نجاح أستانا، بنجاح مساعي جنيف. وهذه أول مرة يتحدث فيها أحد أطراف وسطاء أستانا الثلاثية عن إمكانية فشل هذه الصيغة. ولم تتضمن التصريحات التي صدرت، ولا حتى البيان الختامي، أي جديد.
وفي الواقع، خرجت هذه القمة بالمزيد من الخلافات، وبتعميق العديد من التناقضات بين روسيا وتركيا من جهة، وبين إيران وتركيا من جهة أخرى. وعلى رأسها المفاهيم المختلفة والمتضاربة لـ”الإرهاب” ومن المقصود بهم “إرهابيين” بالنسبة لكل طرف من الأطراف الثلاثة. إضافة إلى التحذيرات المبطنة من جانب كل من إيران وروسيا لأردوغان بشأن عمليته العسكرية في شمال سوريا. غير أن المثير للتساؤلات أن أكثر من 80% من مجريات وتصريحات الزعماء الثلاثة دارت حول “سوريا” بينما لم يشارك رئيس سوريا نفسه.
هذه القمة أكدت بوضوح الدور الصفري لنظام الرئيس بشار الأسد. كما أكدت أيضًا التنسيق بين ثلاث دول تتواجد قواتها العسكرية والأمنية والاستخباراتية على أراضي سوريا، حيث تم تقسيمها إلى كانتونات بين قوات هذه الدول الثلاث التي تؤكد طوال الوقت على وحدة أراضي سوريا واستقلالها وسلامة حدودها، وهي الأمور غير الموجودة عمليًا، على الأقل بحكم وجود قوات هذه الدول، إضافة إلى قوات ونفوذ وتأثير دول أخرى. لقد اجتمع زعماء ثلاث دول متضاربة المصالح من أجل إطلاق تصريحات مكررة، وإظهار تضامن “هش”، بينما العامل الرئيسي الذي يجمعها هو فقط “كراهية الغرب” و”العداء لأوروبا”. علمًا بأن القنوات مفتوحة بين كل من تركيا العضو المؤسس في حلف الناتو وإيران التي تمتلك علاقات جيدة مع الأوروبيين، وبين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. والمثير للدهشة أن الكرملين أعلن عن تزايد حجم التبادل التجاري بين روسيا وإيران إلى 4 مليارات دولار. وأعلنها بالدولار وليس بالروبل! بينما زاد حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى 14 مليار دولار. أما حجم التبادل التجاري بين تركيا وإيران فهو لا يتجاوز المليار دولار!
لقد كان العنصر الكاشف لقيمة زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران، هو الرد العسكري التركي الفوري في شمال سوريا، والغارات التركية في العراق، والغارات الإسرائيلية على محيط العاصمة السورية دمشق. أي أن التصريحات والإعلانات شيء، والمواقف العملية والمصالح شيء آخر تمامًا.
سيناريوهات انهيار الاتحاد الأوروبي
في الحقيقة، روسيا لم تقطع النفط والغاز عن الدول الأوروبية، وإنما فرض الاتحاد الأوروبي 7 حزم من العقوبات على روسيا منذ بدء غزوها أوكرانيا في 24 فبراير 2022. الأمر الثاني والمهم، هو أن الاتحاد الأوروبي حذَّر مواطنيه منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا من أنهم سيعانون ويدفعون ثمن حريتهم، وثمن منظومة القيم التي تكونت وترسخت طوال القرنين الأخيرين. وبالتالي، وضعت الدول الأوروبية مواطنيها أمام خيار مهم وتاريخي: إما فقدان المنجزات والحقوق ومنظومة القيم بالتراجع أمام غزو روسيا لدولة أوروبية ضعيفة، أو الحفاظ على الحريات والمنجزات ودفع ثمن ذلك؟! وفي ضوء هذه المعادلة، بدأت أوروبا بفرض حزم متوالية من العقوبات ضد النخب القومية في الكرملين وضد بقية النخب المالية والسياسية الروسية. إضافة إلى عزل روسيا ماليًا، وحرمانها من عوائد النفط والغاز.
إن الحملات الدعائية تضعنا أمام معادلة مقلوبة تمامًا. فالحكومات الغربية على الأقل حذرت مواطنيها من وجود أزمة، ومن إمكانية امتداد هذه الأزمة. أما النخب القومية في الكرملين، فلم تحذر سكان البلاد، بل مارست نفس البروباجندا التي كان يمارسها الاتحاد السوفيتي إلى أن سقط سقوطًا مروعًا من دون إطلاق رصاصة واحدة. ومن الواضح أن الإعلام العربي تحديدًا، وبعض وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة في أوروبا ترتاح إلى التنظيرات والتقديرات غير الدقيقة، وإلى تصوير أحلامها ورغباتها باعتبارها واقع وحقائق دامغة.
أما فيما يتعلق بتساقط “الأنظمة” الغربية، ففي الحقيقة نحن أمام 30 دولة بالاتحاد الأوروبي. وحدثت تغيرات وفق الدستور ووفق منظومة القوانين والحريات الأوروبية في 3 دول فقط من بين 30 دولة. ولم يأت إلى سدة الحكم مثلًا “ثوار” أو حكومات موالية للكرملين. إنها تغييرات طبيعية في ظل مواجهة مع دولة نووية كبرى تقوم بغزو دولة أوروبية، وتهدد يوميًا باستخدام الصواريخ فرط الصوتية أو باستخدام التكتيكات النووية. أما بخصوص المجر التي تعيش أصلًا “عالة” على الاتحاد الأوروبي، فالأمر طبيعي للغاية. إذ توجهت دولة واحدة من بين 30 دولة إلى روسيا لتطلب الغاز الروسي. علمًا بأن الغاز الروسي لم ينقطع كليًا عن أوروبا، ولكن يجري تقليصه وفق جدول زمني إلى أن يتم الاستغناء عنه كليًا، أو عن جزء منه. وهنا تكمن أهمية وضرورة استحداث “الزوايا النشطة” التي يمكن من خلالها تحقيق أكبر قدر من المصالح الوطنية.
الجانب الآخر من الحملات الدعائية الروسية يعطي انطباعًا بأن روسيا في مواجهة اقتصادية جبارة مع الولايات المتحدة وأوروبا، بل واستطاعت أن تتقدم لتحسين أحجام تبادلها التجاري مع كل دول العالم، بينما الحقيقة غير ذلك تمامًا. فحجم التبادل التجاري بين روسيا وإيران يبلغ 4 مليارات دولار، وبين الأولى وبين مصر حوالي 4 مليارات دولار أيضًا. وبين روسيا والسعودية مليار و500 مليون دولار! وقبل عام 2010، وصل حجم التبادل التجاري بين روسيا وتركيا إلى حوالي 40 مليار دولار. وأعلن الطرفان أنهما يعملان على إيصال حجم التبادل التجاري إلى 100 مليار دولار خلال عامين أو ثلاثة.
وبحلول عام 2015، هبط حجم التبادل التجاري بين موسكو وأنقرة إلى 35 مليار دولار. وفي الفترة من 2015 إلى 2017، هبط مجددًا ليتراوح بين 25 مليار دولار و20 مليار دولار سنويًا. وظلت المعلومات غير دقيقة طوال السنوات الأخيرة إلى أن أعلنت روسيا مؤخرًا، وفي احتفاء غير مسبوق، أن حجم التبادل التجاري بين موسكو وأنقرة قد زاد بنسبة 100% وأصبح 14 مليار دولار! وعلى الرغم من كل التصريحات والجهود، فقد ارتفع حجم التبادل التجاري بين الصين وروسيا إلى 130 مليار دولار. بينما حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة وصل إلى 750 مليار دولار، وبين الصين والاتحاد الأوروبي إلى حوالي 500 مليار دولار!
من الصعب إصدار أحكام نهائية على عمليات جارية. ومن الخطأ إصدار أحكام على تحولات جارية في مجالات مختلفة منها الأمني ومنها الاقتصادي ومنها العسكري ومنها القانوني. فلا الاتحاد الأوروبي سيسقط وينهار، ولا روسيا ستهزم هزيمة نهائية وتنهار مثل الاتحاد السوفيتي. فليس من مصلحة الغرب أن تنهار روسيا كدولة نووية، وكدولة مهمة مترامية الأطراف لديها العديد من المواد الخام المفيدة لكل دول العالم. وفي الحقيقة، فلا يوجد هزيمة أو انتصار بالضربة القاضية بين دولة نووية وبين ثلاث دول نووية أخرى في حلف الناتو.
إن الاتحاد الأوروبي فرض عقوبات صارمة وتاريخية على روسيا في العديد من المجالات، وعلى رأسها تقليص استيراد النفط والغاز الروسيين، وحرمان روسيا من التقنيات الرفيعة، وعزلها ماليا، وتقييد حركة طيرانها المدني. فاتجهت روسيا إلى تصدير النفط والغاز بتخفيضات تصل إلى 75%، وبخسائر فادحة لإثبات صحة موقفها ولاستعراض عضلاتها. لكن الدول الأوروبية بدأت تدريجيًا في تعويض كميات وأحجام معينة من النفط والغاز عبر طرق ووسائل أخرى من دول الخليج ومن دول شمال أفريقيا ومن أذربيجان وتركمانستان.
أي إننا أمام عملية جارية ومتحركة ومن الممكن أن تجري بها تحولات غير متوقعة أو محسوبة. وبالتالي، فمن الصعب أن نصدر أحكامًا قاطعة بموت الأوروبيين من البرد، أو ذوبانهم من حرارة الطقس. ولا توجد أيضًا أي مقدمات أو مؤشرات على انهيار العلاقة بين الاتحاد الأوروبي كتكل وبين الولايات المتحدة. ولا توجد أي مؤشرات أو دلائل على انهيار علاقات الدول الأوروبية كل على حدة مع الولايات المتحدة. بل على العكس، فقد زاد عدد دول حلف الناتو، وزاد عدد دول الاتحاد الأوروبي، وتم تجاوز العديد من التناقضات بين دول الاتحاد وبين الولايات المتحدة. ومن جهة أخرى، أعلنت ألمانيا واليابان والنمسا زيادة ميزانيات الدفاع، تحسبًا لأي عدوان روسي محتمل.
إن فكرة انهيار العلاقة بين أوروبا وأمريكا من جهة، وتوجه الاتحاد الأوروبي نحو الصين من جهة أخرى، هي إحدى “تخريجات” الآلة الدعائية الروسية التي تتوافق ذهنيا مع مثيلتها العربية. والاثنتان لا ترتكزان إطلاقًا على أي حقائق أو أرقام أو حتى مؤشرات عقلانية، وإنما تميلان لاستخدام المنطق المغلوط، وتصوير أوهامهما على أنها واقع حي وحقيقة مطلقة. وفي الواقع، فإن مأساة البروباجندا السوفيتية تتكرر بحذافيرها اليوم، لتتحول إلى ملهاة. فيتم وضع افتراضات بانهيار الاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة، ثم نبدأ بإثبات هذه “الافتراضات” بشتى الطرق إلى أن نصل لمانشيتات وأخبار مثيرة وبائسة. غير أن الذي يتجاهله الكثيرون هو أن الاتحاد السوفيتي على سبيل المثال، انهزم وسقط لأسباب داخلية في المقام الأول. وبالتالي، فحتى إذا انهار الاتحاد الأوروبي، فإنه سينهار لأسباب داخلية محضة، على رأسها البيروقراطية، وليس بنتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا. لأن الغزو الروسي كان من أهم نتائجه أنه صنع اصطفافات أوروبية، وتقاربات أوروبية- أوروبية، وأوروبية- أمريكية، غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة. لكننا نترك ثلاثين دولة، ونركز على “الزوايا الميتة” بخروج “المجر” عن الإجماع ونعمم الأمور ونبني سيناريوهات وهمية، أو نركز على تغير بعض الحكومات أو القوانين في دولتين أو ثلاث، ونترك ما يجري من تحولات حقيقية على أرض الواقع.
يتضمن المشهد أعلاه، مجموعة من المحاور التي تتحرك ضمنها، وحولها، ومن خلالها، دول المنطقة، إما كمجموعات صغيرة أو بشكل فردي- أحادي. غير أن الأهم هو فهم وإدراك حجم “الأوزان” المتصارعة والمساحات التي تتحرك فيها، بعيدًا عن الأوهام والافتراضات غير الدقيقة، أو على الأقل مع مراعاة مستقبل العلاقات مع هذه الأوزان، وليس ماضيها فقط، وكذلك عناصر القوة المتعلقة بالمستقبل وبالمقومات الحقيقية للتقدم لدى كل وزن من هذه الأوزان المتصارعة، وإمكانية استحداث “زوايا نشطة” يمكن الاندماج والمناورة من خلالها لتحقيق المصالح الوطنية حصرًا، وبشكل براجماتي تمامًا.