في السابع من يوليو/تموز 2022 تم تعيين قاض عسكري ليكون نائبا لرئيس المحكمة الدستورية العليا، القرار الجمهوري مر مرور الكرام، فلم يقابله أدنى اعتراض علني من المجتمع القضائي ولا من المجتمع السياسي ولا من الرأي العام في مجمله. حدث هذا الصمت الكامل الشامل رغم أن هذا الحدث يمثل سابقة لا مثيل لها في تاريخ القضاء الدستوري منذ تأسس عام 1969.
لقد نجحت الجمهورية الجديدة 2014 – 2022 فيما لم تنجح فيه ما سبقها من ديكتاتوريات سواء قبل ثورة 23 يوليو 1952 أو بعدها. نجحت الجمهورية الجديدة فيما أخفق فيه النظام الملكي، وما أخفق فيه النظام الناصري، وما أخفق فيه نظام مبارك.
نجحت الجمهورية الجديدة في إملاء إرادتها بفضل ما تحكم به من قبضة شديدة نصفها حديد ونصفها نار، ثم بفضل تماسكها الداخلي المتين فلا يوجد في داخلها مساحة لأدنى نشاز، ثم بفضل تشظي وتشرذم وتفتت المعارضة القديمة بكل أطيافها، ثم بفضل عدم السماح بثقب إبرة تمر من خلاله أدنى قدر من المعارضة الجديدة. وبهذا المعنى العملي، فإن الجمهورية الجديدة تمثل ذروة التطور السياسي لنموذج الحكم الذي جاءت به ثورة 23 يوليو 1952 حيث الرئيس فوق الدولة وحيث الدولة فوق الشعب وحيث الشعب -في معناه العريض- مُستبعد ومهمش، هذا النموذج -عبر سبعين عاما- سمح بتكوين طبقة دولتية عليا ذات امتيازات تحترف إرضاء الرئيس ثم تحترف تطويع الشعب بكل الوسائل، هذه الطبقة – ذات الامتيازات – جعلت من الرئيس غاية أعلى ثم جعلت من الدولة أداة كبرى ثم جعلت من الشعب مفعولا بوعيه ومفعولا بمصيره وقدره ومفعولا بمصالحه ومعيشته.
***
أما أن الجمهورية الجديدة نجحت حيث أخفق ما قبلها من ديكتاتوريات فهذا يمكن شرحه في عدة محطات تاريخية موجزة:
الأولى: ثورة قضاة مصر في وجه النظام الملكي في عام 1952، حيث أرادت الحكومة مد سن إحالة القضاة للتقاعد، حتى تشتري سكوتهم وصمتهم ورضاهم، في مقابل أن يستفيد من ذلك قاض واحد، هذا القاضي الواحد كان من النوع الذي يقبل تدخل الجهات التنفيذية في عمله، وكان ضميره يقبل الاستجابة لنزوات الملك فاروق، وكانت النزوة في هذه المرة هي تقديم الملك عددا من الرموز الوطنية للمحاكمة أمام محكمة الجنايات بتهمة حريق القاهرة في 26 يناير/كانون الثاني 1952، وكان المطلب المرتجى هو إعدام بعض هؤلاء الرموز، كان ذاك القاضي يواجه الإحالة إلى المعاش في يونيو/حزيران 1952.
اجتهد المحامون في تعطيل صدور الحكم حتى يكون القاضي قد خرج من الخدمة وتمت إحالته إلى التقاعد، فأكثروا -كما يذكر طارق البشري في ص 96 من كتابه “مصر بين العصيان والتفكك” – من الدفوع القانونية وطلبات رد المحكمة ليفوت هذا الموعد -أي موعد التقاعد- قبل أن تتمكن المحكمة من إصدار الحكم.
هنا، كما يروي البشري -في الكتاب ذاته- عرضت الحكومة اقتراحا بمد سن الإحالة للتقاعد، والمفروض أنه اقتراح يحقق منفعة ومصلحة للقضاة جميعا، لكن نادي القضاة اجتمع ورفض مشروع الحكومة بمد السن، وأثبت النادي أنه حارس القضاة ضد محاولات الغواية والاستتباع من جانب الحكومات.
ثم يتحدث المؤلف في ص 97 عن دور القضاء في مواجهة النظام الملكي حيث وقف القضاء ضد حرب النظام على الصحافة والصحفيين وحيث وقف قضاة مصر مع حرية التعبير وحيث أتاح القضاة -من محراب العدالة- هوامش واسعة للحريات وبالذات حريات الرأي والتعبير والنقد، مما أسهم في إنضاج الرأي العام، يقول: “كانت محاكم الجنايات -في الأغلب الأعم- تحكم بالبراءة في قضايا النشر في الصحف المرفوعة ضد الصحفيين”. ويقول: “كان القضاء أهم مؤسسة بالدولة أتاحت للحريات في الرأي والتعبير والنقد ما أسهم في إنضاج حركة الرأي العام”. ثم يقول: “لم يقل أحد قط أن المحاكم -بهذا – تعمل بالسياسة ولا أن نادي القضاة في حراسته لاستقلال السلطة القضائية إنما يعمل بالسياسة”.
الثانية: ثورة القضاة في وجه النظام الناصري بين عامي 1968 – 1969، حيث سعى النظام -بعد هزيمته في 1967 بما سمحت به من سقوط هيبة النظام وبزوغ أصوات معارضة- إلى المزيد من السيطرة على القضاء. كانت وسيلة النظام الناصري لتحقيق هذا الهدف تتلخص في أمرين: الأول إدخال القضاة في عضوية التنظيم السياسي الشعبي الوحيد المسموح به آنذاك وهو “الاتحاد الاشتراكي” وهذا تسييس محض مباشر للقضاة كأشخاض وللقضاء كمهنة واستباحة كاملة للسلطة القضائية. الثاني: الدعوة إلى إعادة صياغة هياكل القضاء نفسه عبر المنادة بما كان النظام الناصري يطلق عليه “القضاء الشعبي” وهذا كان معناه -باختصار شديد- إدخال عناصر من غير القضاة في تشكيل المحاكم. [ص 242 وما بعدها من طارق البشري، الديمقراطية وثورة 23 يوليو 1952- 1970، دار الشروق].
عند هذا الحد، لم يسكت قضاة مصر، ولم يتركوا النظام الناصري يخرب ما بقي من استقلال القضاء، حيث كان القضاء -كما يذكر المؤلف- تحت حصار السلطتين التنفيذية والتشريعية طوال العهد الناصري، وفي ظل هذا الحصار حدثت ثلاثة أشياء: الأولى استيعاب الوظيفة القضائية، والثانية سلب القضاء بعض اختصاصاته بما يعني غل يد القضاء عن النظر في بعض المجالات، أما الثالثة فهي إنشاء المحاكم المخصوصة بحالات بعينها. غير هذا الحصار الثلاثي كان النظام الناصري حتى تاريخ النكسة الكبري في 1967 يتورع عن التدخل في الشؤون الداخلية للقضاء العادي ولم يكن يقترب منه كمؤسسة ذات أعراف وتقاليد وضمانات مستقرة.
بعد الهزيمة اهتزت شرعية النظام، وفقد كثيرا من الثقة في كفاءته، وبدأت تظهر المعارضة بين الأجيال الجديدة مثل إضرابات طلبة الجامعة في فبراير ثم في نوفمبر 1968 وهي -كما يذكر المؤلف في ص 240 أول إضرابات شعبية تظهر في مواجهة النظام الناصري منذ عام 1954. هنا، مثل أي ديكتاتورية تشعر بالأرض الواقفة عليها تنهار من تحت قدميها، لم يكن أمام النظام الناصري غير السعي للمزيد من السيطرة على القضاء كصوت مستقل يمثل الشعب، وإذا كان النظام الناصري اكتفي بمحاصرة القضاء من خارجه طوال سنوات ما قبل النكسة، فقد بات من الضروري اقتحامه من داخله بعد النكسة، وذلك بالأمرين السابق ذكرهما: تسييس القضاة بصفة رسمية بإدخالهم في عضوية التنظيم السياسي الشعبي الوحيد المسموح به وهو الاتحاد الاشتراكي ثم إدخال عناصر من غير القضاة في تشكيل المحاكم فيما عرف باسم “القضاء الشعبي”. وهذان الأمران كانا يعنيان سحق ما بقي من استقلال القضاء وهيبته واحترامه.
هنا وقف القضاة -بكل قوتهم- ضد هاتين المحاولتين من النظام الناصري المجروح بالهزيمة للسيطرة الكاملة على القضاء وتجريده من آخر ما يملك من معاني الاستقلال، حارب القضاة معركتهم -في وجه واحدة من أقوى ديكتاتوريات العصر- عبر جبهتين:
في الجبهة الأولى: عمل دفاعي محض حيث اجتمع نادي القضاة، ورفض الإجراءين المقترحين معا، وسجلوا ذلك في بيان دخل التاريخ هو بيان 28 مارس 1968.
في الجبهة الثانية: انتقل القضاة من الدفاع إلى الهجوم، وخاضوا المعركة الانتخابية بقائمة لأنصار الاستقلال ضد قائمة لأنصار النظام الحاكم وفازت قائمة الاستقلال باكتساح.
ولما كان نموذج الحكم الذي أسسته ثورة 23 يوليو من 1952 إلى يومنا هذا 2022، أي عبر سبعين عاما، هو نموذج الرئيس فوق الدولة والدولة فوق الشعب والشعب مُستبعد على الهوامش، لما كان ذلك كذلك، فقد رد النظام الناصري على ثورة القضاة، بما عُرف في التاريخ بمذبحة القضاء، تمثلت هذه المذبحة في:
رقم واحد: إصدار قانون بحل جميع الهيئات القضائية ثم إعادة تشكيلها.
رقم اثنين: وهذا من الناحية العملية كان معناه استبعاد نحو مائتين من القضاة تم تجريدهم من الوظيفة القضائية وإخراجهم من محرابها.
رقم ثلاثة: تأسيس المحكمة العليا أو المحكمة الدستورية العليا للفصل دون سواها في مدى دستورية القوانين.
بالقانون الأول تم تطويع المؤسسة، وبالثاني تم حرمانها من عناصر الاستقلال، وبالثالث تم حرمان المحاكم العادية من الفصل في دستورية القوانين، فقد كان الغرض من تأسيس المحكمة الدستورية أن تكون حصنا لحماية النظام لا لحماية العدالة، هذا الغرض سارت المحكمة على عكسه عند التطبيق العملي، وأسست – بأحكامها – مدرسة عظيمة في القضاء الدستوري يفخر بها القضاء المصري، لهذا لم تتورع ديكتاتوريات دولة يوليو من السعي لحصار المحكمة من خارجها أو من داخلها، بما في ذلك الحصار الجاهلي الذي طوق المحكمة في عام حكم الرئيس الدكتور محمد مرسي 2012- 2013.
ثم كانت الثورة الثالثة للقضاة في السنوات الأخيرة من نظام مبارك على خلفية الإشراف القضائي على الانتخابات، كان النظام قد دخل في مرحلة التفكك، ومن ثم زاد من اللجوء إلى العنف في مواجهة المطالب الديمقراطية، تزعم نادي القضاة حركة الاستقلال، وعزز من المطلب الشعبي بالإشراف الكامل على الانتخابات، كما كانت أحكام القضاء هي صوت الشعب في مواجهة الخصخصة وبيع الأملاك العامة وتقييد الحريات ومصادرة الحقوق.
***
مر الجيش الحديث – في علاقته بالسياسة – بثلاث مراحل:
المرحلة الأولى من تأسيسه على يد محمد علي باشا 1822 وحتى الاحتلال الانجليزي 1882، وفي هذا المرحلة كان جيشا محاربا لا حاكما، فقد كان الحكم -سيادة وسياسة- للوالي وسلالته.
المرحلة الثانية من بدء الاحتلال 1882 حتى ثورة 23 يوليو 1952، وفي هذه المرحلة لم يكن جيشا محاربا ولا حاكما، فقد كانت مصر في عهدة القوات الانجليزية سواء في قبل الاستقلال الشكلي أو بعده، وكان الجيش أقرب ما يكون إلى شرطة عسكرية لدى الاحتلال، وأقرب ما يكون إلى مؤسسة تشريفات عند الملك، وكانت مشاركته في حرب 1948 كاشفة عن طبيعته.
المرحلة الثالثة من ثورة 23 يوليو 1952 حتى ثورة 25 يناير 2011، وفي هذه المرحلة بدأ الجيش حاكما من اللحظة الأولي عقب سقوط الملك في 26 يوليو 1952، ثم صار حاكما ومحاربا بمنطق ما فرضته الأحداث من تطورات مثل العدوان الاسرائيلي المتكرر على غزة 1955 ثم السعي إلى التسليح الثقيل ثم الصدام مغ الغرب الذي فرض القيود على التسليح ثم اللجوء الكتلة الشرقية عبر صفقة السلاح من تشيكوسلوفاكيا ثم سلسلة الحروب التى كرت حياتها من 1956م حتى 1973.
المرحلة الرابعة من بعد 3 يوليو 2013 حيث -تقريبا- توسعت صلاحيات الجيش بصورة غير مسبوقة من الحرب إلى الحكم إلى السياسة إلى الطب إلى التعليم إلى الإعلام إلى الدراما، إلى كل شيء على وجه التقريب وكان آخر ذلك المحكمة الدستورية العليا.
السؤال: هل هذا الوضع قابل للاستمرار؟
الجواب: هذا الوضع قابل للاستمرار طالما بقيت قبضة النظام يدا من حديد ويدا من نار، وطالما ظل محتفظا بتماسكه من داخله فلا يتحلل ولا يتفكك ولا يتآكل، وطالما ظل قادرا على حرق فكرة المعارضة من جذورها واستئصال أي مبادرة جادة من فورها ثم احتواء وتطويع وتوظيف ما يقبل ذلك منها.
النظم عندنا تتفكك بضغط خارجي عنيف مثل نظام محمد علي باشا، أو تتفكك بتآكل وتحلل من الداخل تكشفه هزيمة مروعة من الخارج مثل نظام عبد الناصر، أو تتفكك بتآكل من الداخل مع معارضة شعبية مثل نظام السادات، أو تتفكك بفساد وشيخوخة وتعفن داخلي مع معارضة شعبية مع تخلي الحلفاء الخارجيين مثل نظام مبارك.
أما الجمهورية الجديدة فإن الظروف الإقليمية والدولية تعمل لصالحها، وليس في الأفق المنظور تفكك من داخلها، ولا معارضة ملموسة من خارجها، فقبضة الحديد والنار تكفل لها وضع سيطرة وتضمن وضع تحكم غير مسبوق.