لم تحقق رحلة الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى الشرق الأوسط أية مكاسب حقيقية لواشنطن. رغم التقاء قبضته بقبضة ولي العهد السعودي -بعد أن تعهد من قبل أن يجعل بلاده منبوذة- إلا أن الأمير الشاب ظل على ثباته. لم تلتزم المملكة بزيادة إنتاج النفط. ولم يتم الإفراج عن أي معارضين.
ظهرت حقوق الإنسان فقط عندما رفض بن سلمان الانتقاد الموجه لقتل الصحفي جمال خاشقجي -والذي تم تنفيذه بأوامره- من خلال الإشارة إلى الصمت الأمريكي تجاه شيرين أبو عاقله، الصحفية الفلسطينية- الأمريكية التي قُتلت في مايو/ أيار على يد الجيش الإسرائيلي. أيضا، لم تعلن السعودية عن تحركات كبيرة تجاه التطبيع مع إسرائيل، ولم يظهر تحالف أمني جديد.
مع ذلك، كان لدى إدارة بايدن طموحات أوسع. اعتقدت الإدارة أنها بحاجة إلى إعادة العلاقات مع السعودية وغيرها من الحلفاء الإقليميين، والعمل على التعامل بشكل أفضل مع مجموعة من القضايا. وقد أدى الزوال الوشيك المحتمل لمفاوضات إحياء الاتفاق النووي مع إيران، فضلاً عن الصدمات المتتالية من الغزو الروسي لأوكرانيا. إلى زيادة الإلحاح.
في الوقت نفسه، ثبت أن الشائعات الإعلامية قبل الزيارة، حول إنشاء تحالف عسكري مع الدول العربية وإسرائيل، كانت سابقة لأوانها. أو كما يقول مارك لينش، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية بجامعة جورج واشنطن. أن القصد من الرحلة كان دفع المنطقة نحو نظام إقليمي جديد قائم على التعاون الإسرائيلي- العربي ضد إيران بتوجيه من الولايات المتحدة.
اقرأ أيضا: رؤية أمريكية: 24 ساعة لبايدن في جدة.. الفشل يتفاقم
محاولات تهيئة نظام إقليمي للشرق الأوسط
يقول لينش، في التحليل المنشور في Foreign Affairs: لقد اتخذت الرحلة بعض الخطوات الصغيرة في هذا الاتجاه. ولكن ليس بالطرق التي من المرجح أن تزيد الاستقرار الإقليمي. لن تكون البنية الأمنية التي تصورتها الإدارة جديدة. يتنامى اصطفاف إسرائيل مع الدول العربية ضد إيران منذ عقود.
وأضاف: اتفاقات إبراهيم، التي تم التوصل إليها في البداية تحت إدارة الرئيس دونالد ترامب، جعلت التعاون رسميًا وعلنيًا. وأزالت -صراحة- مسائل فلسطين وحقوق الإنسان من المعادلة. تراهن الولايات المتحدة على قدرة الدول العربية على تبني نظام إقليمي يشمل إسرائيل، دون القلق بشأن كيفية استقبال جماهيرها لهذه السياسات. لكن المخاطرة في وقت تتصاعد فيه الأزمة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في معظم أنحاء المنطقة من المرجح أن تأتي بنتائج عكسية. كما حدث في الماضي.
يوضح أستاذ العلوم السياسية أن الولايات المتحدة بدأت محاولات تهيئة نظام إقليمي للشرق الأوسط، بشكل واضح، منذ عام 1991 على الأقل. عندما قادت الولايات المتحدة عملية “درع الصحراء” لطرد صدام حسين من الكويت خلال حرب الخليج الثانية. “لكن الشرق الأوسط اليوم ليس في حالة لتنفيذ أوامر واشنطن. يفضل قادة الشرق الأوسط التحوط في رهاناتهم ضمن ما يرون أنه عالم متعدد الأقطاب بشكل متزايد. كما يمكن رؤيته بوضوح في رفضهم الانحياز إلى جانب الولايات المتحدة وأوروبا ضد روسيا”.
ولفت لينش إلى أنه “إذا نجح بايدن -بشروطه الخاصة- في ضم إسرائيل والأنظمة العربية إلى تحالف إقليمي رسمي ضد إيران. فإن ذلك لن يؤدي إلا إلى تكرار أخطاء الماضي. سيؤدي ذلك إلى تسريع الانهيار التالي للنظام الإقليمي، من خلال عكس مسار التقدم نحو خفض التصعيد، وتشجيع القمع المحلي. وتمهيد الطريق للجولة التالية من الانتفاضات الشعبية”.
وأضاف ساخرا: “إن الرغبة في إقامة نظام إقليمي تقوده الولايات المتحدة عميقة في الحمض النووي لواشنطن”.
لا شيء لعرضه
بعد عام 1991 رأت الإدارات الأمريكية المتعاقبة أنه يجب إرساء ما يسمى بـ “الاحتواء المزدوج” لإيران والعراق. وذلك عبر إنشاء قواعد عسكرية أمريكية شبه دائمة في جميع أنحاء المنطقة -خاصة في الخليج العربي- “كان هذا تحولًا هائلاً عن العقود السابقة من التوازن الخارجي”، وفق لينش، الذي أشار إلى أن الولايات المتحدة قامت بمراقبة المنطقة من خلال حلفائها المحليين، وتجنب القواعد العسكرية الدائمة واسعة النطاق.
كانت العقوبات الصارمة وغير المسبوقة تاريخيًا على العراق مسؤولة عن أعداد لا حصر لها من الوفيات الزائدة والبؤس الإنساني. والذي قوض بشدة الادعاءات الأخلاقية الأمريكية في عيون العرب. كما أدت الاشتباكات حول عمليات التفتيش على الأسلحة إلى أعمال عسكرية متكررة، مثل عملية “ثعلب الصحراء“. وهي حملة قصف لأهداف عراقية استمرت أربعة أيام نفذتها أمريكا والمملكة المتحدة في ديسمبر 1998.
أيضا -على الرغم من الطاقة الدبلوماسية التي أنفقت عليها- فشلت الولايات المتحدة أيضًا في الوفاء بوعدها بالسلام الإسرائيلي- الفلسطيني. فرغم أن إدارة كلينتون بذلت جهداً في المفاوضات، لكنها لم تتمكن من التغلب على اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين عام 1995. أو التوسع الإسرائيلي المستمر في المستوطنات في الضفة الغربية.
وبالمثل، فشلت واشنطن في تحقيق السلام الإسرائيلي- السوري.
يقول لينش: في النهاية، كانت أيام مجد النظام الإقليمي بقيادة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط أقل مما تبدو عليه. فشل احتواء العراق، والجهود الأمريكية لتأمين السلام العربي- الإسرائيلي. إن فكرة بناء شروط الديمقراطية من خلال العمل مع الحكام العرب لم تفلح. ويمكن القول إن بروز دور الولايات المتحدة في كل هذه الإخفاقات، جعلها هدفًا جذابًا لتنظيم القاعدة. حيث تحولت من “العدو القريب” إلى “العدو البعيد” في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول.
اقرأ أيضا: بين زيارة بايدن وخطوات التطبيع: مخاطر تغييب القضية الفلسطينية
تكرار الاخطاء في الشرق الأوسط
حاولت كل الإدارات الأمريكية التي أعقبت إدارة الرئيس بيل كلينتون إعادة تصميم النظام الإقليمي في الشرق الأوسط. بعد هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001، شرعت إدارة جورج دبليو بوش في استراتيجية تفوق الولايات المتحدة. كان محور هذا النظام الإقليمي الجديد هو “الحرب العالمية على الإرهاب”، والتي تضمنت في الشرق الأوسط تعاونًا وثيقًا مع أجهزة الأمن الإقليمية. وتوسيعًا هائلًا وتدخليًا للوجود الأمريكي في المنطقة.
يرى أستاذ العلوم السياسية بجامعة واشنطن أن غزو العراق للإطاحة بنظام صدام حسين أثبت أنه” كارثي بشكل فريد”، وفق تعبيره. حيث خلق فراغًا من الاستقرار في قلب الشرق الأوسط، كما “أطلق الاحتلال الأمريكي للعراق العنان للطائفية الوحشية. مما أدى إلى تمكين كل من إيران والحركات الجهادية السنية -مثل تنظيم داعش- وتسبب في تدفق ملايين اللاجئين. استنفدت حرب العراق الرغبة والقدرة الأمريكية على العمل عسكريا في الشرق الأوسط. وانتهت بانتصار إيران -الباهظ إلى حد ما- في وضع حلفائها في مواقع مهيمنة في الدولة العراقية.”
مع ذلك، كان هناك أمر آخر هذه الفوضى، وهو “الشرق الأوسط الجديد”. وهو مصطلح صاغته وزيرة الخارجية الأمريكية -آنذاك- كوندوليزا رايس في ذروة العدوان الإسرائيل عام 2006 على لبنان.
أيضا، كان هناك ما أسماه المسئولون الأمريكيون “محور المعتدلين”. والذي شمل إسرائيل ومعظم الدول العربية تحت المظلة الأمنية الأمريكية، ومن جهة أخرى كان “محور المقاومة” الذي شمل إيران وسوريا والجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حماس وحزب الله.
عند توليه السلطة، قدّم الرئيس الأمريكي باراك أوباما رؤية مختلفة. تستند إلى خلق توازن قوى مستقر وقابل للتطبيق، بين إيران وجيرانها. من خلال الدبلوماسية النووية، وتقليص الوجود العسكري الأمريكي. يلفت لينش إلى أن إسرائيل والسعودية والإمارات عارضوا كل ما حاولت إدارة أوباما تنفيذه. بما في ذلك الاتفاق النووي الإيراني، لأن قادتها ازدهروا داخل النظام الإقليمي الذي كان يسعى إلى تغييره.
يؤكد لينش أن دول الخليج لم تكن تريد أن تفعل شيئًا بأفكار أوباما في مشاركة المنطقة مع إيران. بل “أرادت أن تفعل شيئًا أقل بأفكاره التي اعتبروها ضلالات غير مقبولة حول تبني الديمقراطية وانتفاضات الربيع العربي”.
عالم مختلف
كما عارض القادة الإسرائيليون أفكار أوباما حول استئناف مفاوضات السلام التي من شأنها أن تعمل على إنشاء دولة فلسطينية، وعارضوا بشكل أكبر فكرة أن حل الدولتين سيكون ضروريًا لإقامة علاقات مع الدول العربية. رفضت دول الخليج تبني أفكار أوباما، أثبتت إيران أنها غير راغبة في تعديل سياساتها الإقليمية بشكل هادف. باستخدام وكلاء للقتال في أماكن مثل العراق وسوريا واليمن، بعد توقيع الاتفاق النووي. أدى هذا إلى تقويض جهود أوباما لصياغة نظام إقليمي جديد.
لذلك رحبت إسرائيل والسعودية والإمارات -مثل العديد من القادة العرب الآخرين- بعودة إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى نموذج “الشرق الأوسط الجديد” الذي كان قد تم طرحه في عهد الرئيس بوش الإبن.
يقول لينش: تبنى ترامب وجهات نظرهم على أنها وجهة نظره. وتوقف عن الضغط على الدول العربية بشأن سجلاتها الحقوقية، أو دفعها لحل القضية الفلسطينية. تخلت إدارته عن الاتفاق النووي الإيراني، وواصلت بدلاً من ذلك ما وصفته بحملة “الضغط الأقصى” ضد إيران.
بايدن والكارثة المرجحة
بعكس ترامب، يُظهر مفهوم بايدن للمنطقة أن ذات الرؤية للنظام الإقليمي ما زالت قائمة بين قادة المنطقة وفي دوائر السياسة في واشنطن. حيث تكيفت الأنظمة العربية -بشكل فعال للغاية- مع مطالب واشنطن وأثبتت فعاليتها في صد أي جهود أمريكية لتغيير السياسات.
يلفت الأستاذ الأمريكي إلى أنه “سيكون من السخرية حقًا إذا انتهى هذا النظام كما انتهى النظام الإقليمي لكلينتون في التسعينيات. في حرب غير ضرورية وكارثية. أدى انسحاب ترامب أحادي الجانب من الاتفاق النووي الإيراني في عام 2018 إلى تقويض جهود أوباما لبناء نظام بديل. لم يستطع بايدن التغلب على الآثار السامة لذلك.
وأضاف: مع وفاة الاتفاق النووي الإيراني، من السهل جدًا تصور الانزلاق الثابت نفسه نحو دعم الولايات المتحدة لحرب تغيير النظام في إيران. من المؤكد أن بايدن تجنب مناقشة استخدام القوة ضد إيران، كما أن انسحابه من أفغانستان يعطي بعض المصداقية لتصميمه على تجنب حرب أخرى واسعة النطاق. لكن، الضغط لاتخاذ إجراء حاسم سيزداد مع تضييق الخيارات إلى قبول إيران نووية، أو العمل عسكريا لمنعها. إن المسار الذي يسلكه بايدن لإعادة بناء النظام الإقليمي يجعل هذه النتيجة الكارثية أكثر احتمالية.