يبدأ الفيلم التسجيلي “من مير إلى مير”، ناعما كالماء، مراوغا بهدوئه، لن يتوقع أحد أن ما يبدأ بذلك الصفاء يخفي دوامة، وأن ما يعد بحكاية بسيطة عن نوستالجيا العودة إلى مسقط الرأس واكتشاف الجذور وحكايات الأجداد في قرية مير بأسيوط، سيكون حكاية عن قسوة الفقر، وأنه رغم كل الألاعيب والتحايلات لم يعد من الممكن احتماله.
يبدأ الفيلم الذي أخرجته وروته بصوتها المخرجة ماجي مرجان، والمعروض حاليا على منصة نيتفليكس، لعبته الخادعة نفسها بعرض صورة ساحرة لذلك الفقر كما اعتدناه في شكله الكرنفالي عندما يتم تصوير الفقراء وهم سعداء ضاحكون أو هم يعرفون كيف يكتشفون المتعة في “خرم إبرة”.
ليست المسألة في تلك الصورة أنها غير حقيقية أو كونها أشبه بحكاية خرافية من حودايت الجنيات، بل العكس هي حقيقة وتلك هي المأساة، لكنها السعادة التي تخفي الوجه الآخر الوحشي للفقر، وتجعله عبر التركيز عليه سائغا مقبولا في نظر من لم يعرفه، لذا جاء الانقلاب في النصف الثاني من الفيلم، الذي يكشف انتحار عدد كبير من شباب القرية “السعداء” أمام الكاميرا وظاهر الحياة، بسبب توحش الفقر وضغطه، وما يسلبه من آمال تتعلق بمستقبلهم، مدهشا ومؤثرا.
لم يكن منتحرا واحدا أو اثنين أو عشرة، بل عدد يكفي ليشكل ظاهرة مقلقة ومخيفة مستمرة منذ عشر سنوات على الأقل، بحيث تجعل العالقين في “مير” من شبابها، أشبه بمنتحرين محتملين ينتظرون لحظة اليأس الكبرى، فمن سبقهم إليه، لم يكن يعاني المظاهر الاعتيادية للاكتئاب من حزن أو عزلة، بل كان يواصل اكتشاف السعادة كلعبة في مواجهة الحياة، ثم فجأة توقف عن الشعور بالأمل للعبة.
كان أمام ماجي مرجان إغراءان، كل منهما يكفل تأثيرا سهلا: الوقوع في فخ النوستالجيا، أو ميلودراما فجة، لكنها لم تستجب لأي منهما.
ظل صوتها طيلة الفيلم صامدا أمام التحول المفاجئ والكاشف، هادئ، غير متوتر أو مشحون بالانفعال، تلك المسافة التي اتخذتها، صنعت الفراغ الملائم لنضع فيه مشاعرنا كمتفرجين، كما حافظ على طزاجة الفيلم وحيويته، الانتقال السلس من الضحك إلى الحزن إلى السلام القنوع والمعاودة من جديد تشبه الحياة التي، على الرغم من كل ما تخبئه من قنابل موقوتة، فهي أيضا تيار مستمر في التدفق، كذلك حافظت على درجة الحساسية تجاه الألم. كأن الضحك الذي عشناه في النصف الأول من الفيلم هو ديتوكس لأرواحنا التي اعتادت رؤية القسوة، فلم تعد تمثل لها شيئا ذا بال.
هذا التراوح المدهش بين الضحك والبكاء، بين الوجوه المنبسطة الضحوك، ثم الكشف المفاجئ عن تجذر المأساة، يذكرنا أن الفقر ليس مجرد وصفة عن السعادة وراحة البال، كما أخبر روماني الطفل نفسه اتكاء على إرث مخادع ” عن الفلوس اللي تعمي القلوب” ثم نكتشف أن روماني الشاب انتحر مسموما بعد 12 عاما، هو الذي كان يتعجب طفلا من لجوء الشباب إلى الانتحار “كشغلانة فاشلة” وكذلك يندهش من تمسك كبار السن بحياتهم. ينتزع منا روماني الطفل الضحكات في بداية الفيلم بعفويته وأمله وبساطته، لكن هو نفسه الذي نشهق جزعا لخبر انتحاره، لا نراه شابا إلا كخبر وكصورة يحملها والده الذي اختفت ابتسامته بدورها.
هل يمكن أن نفكر في لعبة تبديل المصائر بين من غادروا من أبناء العائلات الكبيرة التي حظيت بفرص تعليم أفضل، وبين الشخصيات البسيطة التي ظهرت في قرية مير، العالقة داخل أسطورتها عن حب المكان والتفاؤل به وبين الفقر والجهل، الضحكة الحلوة نفسها إذا ما جلست على الصالون الأنتيكة المتوارث والفخم لا في الغرفة الفقيرة.
“كم واحد فينا حر في اختيار رحلته، مين فينا يقدر يقرر إمتى يمشي وإمتى يرجع أو حتى يختار هروح فين؟”.
الجملة التي جاءت في بداية الفيلم الناعم كخدعة، هي أحد مفاتيح الفيلم، الفقراء عالقون في مير، من غادروا مبكرا نجوا عبر فرص التعليم أو النسب إلى عائلة كبيرة، الفقر شباك عنكبوت. الفقراء والأغنياء يحبون التحدث عن مير، من بقي ومن غادر يحب التحدث عن مير، يفخرون بالانتساب إليها، من نجوا من فقرها يرغبون في فكرة الأصل والجذور وشيئا يقيهم شر الاغتراب عن أنفسهم وعن محيطهم بل وعن لغتهم أيضا فأغلبهم لا يستطيعون التحدث بالعربية، بينما الفقراء يخترعون سببا لتهوين البقاء هناك في شباك العنكبوت.
سمير القمص، جبرتي قرية مير، جبرتي شعبي بالطبع، لم تكن لمدوناته الدؤوبة أن تعرف لولا ماجي مرجان، لم تكن لظاهرة انتحار شباب القرية أن ترصد بدقة، لمعرفة العدد وتغول الظاهرة لولاه، كان لسمير أيضا إذا ما واصلنا لعبة تبديل المصائر، أن يكون مؤرخا مرموقا ويحظى بدرجة جامعية، لكن “كم واحد حر فينا في اختيار رحلته”.