(وآه لو الأيام بتتكلم، كانت قالت عملنا ايه). انبعث صوت وردة بحنانه ودفئه من مكبر للصوت وضع على الكومودينو بجوار باب الغرفة.
مازلت أذكر ذلك اليوم جيدا. كنا في الأيام الأخيرة من فبراير/شباط 2021. جلست إلى جوار أمي على سرير المرض في بيتنا بإحدى مدن القنال. كانت تلك هي الأيام الأخيرة من حياتها. لست متأكدا حتى الآن من مدى إدراكي وقتها لهذه الحقيقة القاسية.
المهم أنني تحججت بأن لدي عمل لابد من إنهائه على “لاب توب” كي أجلس جوارها. استأذنتها أن أستمع إلى الموسيقى أثناء عملي، وعلى الفور وجدتني أبحث عن أغنية (اسمعوني) للعظيمة وردة. تلك التحفة الفنية التي سطرها السيد مرسي ولحنها بليغ حمدي.
كم تمنيت في تلك اللحظة أن يتوقف الزمان. لا بل أن يعود إلى السنوات الأولى من الألفية الثالثة. أيام ثانوية عامة. كانت أدوارنا وقتها معروفة. أنا مهمتي المذاكرة وهي مهمتها أن تهبني منحة الونس، ودائما ما كانت الأغاني شاهدة على تلك المهام.
الأكيد أن وردة الجزائرية كانت دائما حاضرة في المشهد. نعم، فايزة أحمد كانت بلا شك المطربة المفضلة لأمي، ولكن هناك أغاني بعينها لوردة محفورة في ذاكرة أمي السمعية والوجدانية. وبالتحديد الأغاني التي اعتادت سماعها هي وخالاتي وعماتي (تربطهم صلات قرابة مثل معظم عائلات مصر) أثناء فترة التهجير. وأقصد بذلك هجرة الكثير من أهالي القنال إلى القاهرة وغيرها من محافظات مصر جراء الحرب مع إسرائيل (1967-1973).
وحدها تلك الأغاني قادرة على لم العودة بنساء عائلتنا إلى (جزيرة الوراق) في السبعينيات من القرن الماضي أثناء فترة التهجير.
وبالفعل ما إن انطلق صوت وردة يتساءل في حسرة (قال لكم ايه؟ ايه؟ قال ايه؟ ماتستغربوش يووه هو في حد النهاردة بيفتكر؟) حتى أسرعت الخالات والعمات بالإجابة على سؤال وردة والانضمام إلينا أنا وأمي في غرفتها وكأن صوت وردة هو كلمة السر بينهم.
لطالما تسائلت لماذا وردة الجزائرية بالتحديد؟ خاصة وأن الأمر ليس حكرا على عائلتي. بل أنني أستطيع القول أن هناك رابطا سحريا ما بين أهالي محافظات القناة وبين صوت (وردة الجزائرية). رابط يتجاوز عبقرية موهبتها وصدق تجربتها الفنية. رابط يسكن في حنايا ذاكرة أهالي القناة من زمن الزمن وآن الأوان لفك طلاسمه.
(اسمعوني..باقول لكم ايه..اسمعوني..ماتيجوا بينا ننسى اللي كان..ننسى سوا غدر الزمان).. من خلال أغانيها، تحكي وردة ليس فقط حكايتها هي مع الزمان وإنما حكايات كثير من نساء محافظات القناة.. حكايات عن الغربة والهجرة والترحال.. حكايات عن العائلة.. حكايات عن الألفة.. والأهم حكايات عن ماضي ما اتفقت نساء عائلتي على الحنين إليه من خلال صوت وردة برغم قسوة هذا الماضي.
عوامل كثيرة نجحت في أن تتربع وردة على عرش قلوب ملايين من نساء مصر لسنوات وسنوات من عمر الفن. أولهما أنها جزائرية. وهو أمر بالنسبة للمصريين في الستينيات والسبعينيات لو تعلمون عظيم.
بشكل أو بآخر تعتبر قضية التحرر الوطني في الجزائر من الاستعمار الفرنسي المنافس هي الوحيدة التي تنافس القضية الفلسطينية في مدى حب وإيمان العوام من المصريين لها. بالرغم من أن المنطقي أن يكون نفور المصريين من الإنجليز أقوى، إلا أن قدرة المحتل الفرنسي على اختراق الحواجز الثقافية للبلاد التي احتلها جعلت من مساندة مصر للجزائر في نضالها ضد الاحتلال واجبا وطنيا (على الأقل في قلوب المواطنين والمواطنات المصريين والمصريات).
لست أعلم حتى الآن إن كان من حسن حظ وردة أو سوء حظها انطلاقتها الفنية الحقيقية تأخرت كثيرا رغم وصول موهبتها إلى بر مصر في الستينيات (ظهور وردة في أوبريت وطني حبيبي هو من أوائل مرات ظهورها الفني بالمناسبة).
أقاويل كثيرة تم تداولها حول سبب إبعاد وردة عن مصر في الستينيات، حيث تزوجت وأصبحت أما بعد عودتها إلى الجزائر، ولم يأخذها الحنين إلى مصر من جديد إلا عندما أقنعها الموسيقار بليغ حمدي بذلك في السبعينيات. لا تهمنا هذه الأقاويل كثيرا لأنها على شاكلة حكايات الصحافة الصفراء المعتمدة بشكل كلي على المانشيتات الرنانة والساخنة.
ما يهمنا هو أن حالها في ذلك حال كثير من الفنانات بل والنساء في الوطن العربي، حالت ظروف ما بين وردة وبين مشروعها الفني الذي سرعان ما وصل إلى ذروته في السبعينيات.
وبالرغم من أنني لست من هواة الحديث عن قصص الغرام بين الفنانين والفنانات إلا أنه يجب علينا أن نعترف بأن قصة الحب الأسطورية بين وردة وبليغ حمدي (والذي تطلقت من أجل الارتباط به) هي جزء لا يتجزأ من أصالة مشروعهما الفني وخصوصيته.
ولذا لن تندهشوا عندما تجدوا حكايات فنية (أشبه بجلسات نميمة مسلية) عن غيرة عبد الحليم حافظ الشديدة من وردة بعد زواجها من بليغ حمدي؛ لأن أعظم ألحانه وأكثرها نجاحا باتت من نصيبها. ربما كان الحب هو السبب. ولكن الأكيد أن صوت وردة هو الذي جعل كل هذه النجاحات ممكنة. لماذا؟
من بين كل نجوم الغناء الذين أعادوا تقديم أغاني وردة الجزائرية، والذين يتمتعون بمواهب فنية ضخمة، إلا أننا وقعنا في غرام شيرين عبد الوهاب عندما قدمت (ليالينا) في مسلسل طريقي عام 2015. هل تعلمون ما السبب؟ السبب هو (سيد مرسي).
الشاعر العبقري ابن بولاق، الذي عمل لسنوات (مكوجي رجل) قبل أن يصبح واحدا من أهم شعراء الأغاني العامية في مصر. موهبة فذة تلك التي امتلكها سيد مرسي. موهبة جعلته قادرا على تحويل حكايات وجلسات الونس بين نساء المناطق الشعبية والفقيرة في مصر إلى شعر. وبالطبع لم يكن هناك أفضل من بليغ حمدي ليحول شعر سيد مرسي (أو السيد مرسي كما كان يتم كتابة اسمه على شرائط الكاسيت) إلى نفحات موسيقية تنفذ إلى قلبك دون استئذان ببساطة مدهشة.
ما أحاول قوله أن خلفية شيرين عبد الوهاب الاجتماعية البسيطة (مثل أغلبنا) كانت هي المفتاح السري لخزائن ابداع وردة الفني. (مشينا وأدينا من غير أهالينا). على من كان يتحسر كل من وردة وبليغ حمدي وسيد مرسي في ذلك البيت؟ على المشروع الناصري الذي انهار على صخرة 1967، أما على التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العنيفة التي بدلت الأحوال، أم على الحرب التي أجبرت سكان القناة على ترك بيوتهم والعودة في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات إلى بيوت جديدة لا يعرفونها ولا تعرفهم. بيوت تم بناؤها بمساعدات من دول عربية لمصر بعد أن استنزفت الحروب مواردها.
هل كان بليغ حمدي حزينا على سفر المصريين (اضطرارا) إلى دول الخليج أو أوروبا الشرقية بحثا عن لقمة العيش التي باتت شبه مستحيلة بعد الانفتاح؟ ربما! أو ربما وردة نفسها هي التي كانت تبكي حنينا لبيتها في الجزائر. لا أعرف. كل ما أعرفه أن شيء ما جعل أغاني مثل (اشتروني، اسمعوني، ليالينا، وبلاش تفارق) أشبه بنشيد وطني لنساء محافظات القناة وهن يبكين الماضي ويخشين المستقبل في السبعينات والثمانينات. ليس غريبا، فأغلب الظن أن وردة الجزائرية هي أكثر مطربة عربية غنت عن الغربة ولها. صادقة هي في غنائها عن مرارة الغربة ومر أيامها. صادقة وكانت تملك في صوتها من الحنو والحنين ما لم تملكه مطربة غيرها.
والحقيقة، إنه آن الأوان لكي ننزع عن وردة لقب (الجزائرية)، ليس تقليلا من هذا اللقب والعياذ بالله ولكن لأن الفن لا يعرف قومية. ولكي نكون صادقين مع أنفسنا، ربما آن الآوان لكي نعترف بأن أغاني وردة في السبعينيات يجب أن يتم ضمها إلى تاريخ الغناء الشعبي في مصر.
كيف ولماذا؟ صدقوني لست أحاول لوي ذراع التاريخ من أجل عيون النسوية، ولكن الطريقة التي يتم بها سرد تاريخ الأغاني الشعبية في مصر تتجاهل البعد الجندري للموضوع تماما. ما تعريفنا من الأساس للأغاني الشعبية؟ أليست هي الأغاني المرتبطة بالناس والمجتمعات؟ أليست هي الأغاني التي تعبر بصدق عنهم؟ إذن وفقا لهذا التعريف، كثير من أغاني وردة ينطبق عليها وصف الأغاني الشعبية. ولكن نظرا لأن الغناء الشعبي طالما يتم ربطه بعالم الرجال (مثل عشق سائقي ميكروباصات مصر في التسعينيات لصوت جورج وسوف)، غالبا ما يتم تجاهل المزاج الفني لنساء مصر في محافظات ولحظات تاريخية بعينها.
ناهيك عن أن كثير من المطربات في مصر لا يجدن لقب (مطربة شعبية) جذابا، وربما يكون البعد الطبقي للمصطلح هو السبب الذي جعل شيرين عبد الوهاب تنفي عن نفسها صفة (الشعبية) لسنوات طويلة، ولكن هذه قصة أخرى وللحديث بقية..