لا يعتبر البابا فرنسيس الثاني بابا الفاتيكان الاعتذار مجرد إجراء روتيني يتخذه الحبر الأعظم لسد الخانات في عصر الصوابية السياسية، بل إن البابا اتخذ من الاعتذار فلسفة أو رؤية تضمن الاعتراف المسبق بما ارتكبته الكنيسة من آثام وما خلفته من جروح وهو التوجه الذي يحرر الكنيسة من عرشها البطريركي العاجي وينزل بها إلى الفقراء والمهمشين والمجروحين تمامًا كما فعل مع السكان الأصليين في كندا الذين ذهب إليهم مرتديًا الريش، واصفًا الأمر برحلة الحج وكأنها طريقة لتكفير الذنوب التي ارتكبتها الكنيسة ضد أطفال أبرياء منذ قرون.
البابا قال في رحلته تلك: “يؤلمني أن أفكّر أنّ الكاثوليك ساهموا في سياسات الاستيعاب والتحرر المبنيّة على فرض الإحساس بالدونيّة، وسلبوا الجماعات والأشخاص هوياتهم الثقافيّة والروحيّة، فقطعوا جذورهم وغذَّوا تجاههم مواقف تحيُّز وتفرقة، وأن هذا تمَّ أيضًا باسم تربية كان من المفترض أن تكون مسيحيّة” مشيرًا إلى المآسي التي ارتكبت في المدارس الداخلية الإجبارية في حق الأطفال.
اقرأ أيضًا.. 4 سنوات على مقتل الأنبا إبيفانيوس.. ليلة انطفاء الأنوار الإلهية
هل يليق الاعتذار ببابا الكنيسة الكاثوليكية؟
إبراهيم ناجي الكاتب الكاثوليكي المصري وصاحب كتاب “طبيب النفوس” الذي يسرد رحلة البابا فرنسيس يستنكر من انتقدوا البابا حين ظهر يقبل أيدي أحد أبناء السكان الأصليين في كندا، طالباً الصفح عما بدر من رجال الكنيسة الكاثوليكية في الماضي، وهم نفس من انتقدوا البابا عندما ركع على الأرض مقبلًا أحذية قادة جنوب السودان مطالبًا إياهم العمل على إحلال السلام بين شعوب بلادهم المتحاربة.
كيف زرع رجال الكنيسة الزوان بدلا من القمح؟
يرى ناجي أن الاعتذار فعل يليق بالكنيسة وبرجالها الذين ارتكبوا ويرتكبون تجاوزات بحق المسيح والكنيسة والآخرين، وهو ما أد إلى طلب البابا الحج والتوبة في كندا والصفح عن أخطاء أبناء الظلمة، مستخدمًا التعبير “زارعي الزوان من الكاثوليك” وهو نبات ذو أطراف ليفية ينبت وسط القمح ويشكل ضررًا على المحصول.
كما اعتبر ناجي أن عبارة البابا: “أطلب المغفرة للطرق التي دعم بها، للأسف، العديد من المسيحيّين العقليّة الاستعماريّة للسّلطات التي اضطهدت الشّعوب الأصليّ”، إنما تشكل تحذيرا للكنيسة ورعاياها ورجالها من اللامبالاة التي يتعامل بها بعض المسيحيون مع جراح الآخرين.
ينسب ناجي تحليلا لأني ساليك أستاذ اللاهوت المسيحي بجامعة جورج تاون الذي قال إن اعتذار البابا سواء الحالي فرنسيس أو من قبله القديس يوحنا بولس الثاني أو بنيدكتوس السادس عشر هو اعتذار الكنيسة الكاثوليكية جمعاء في مختلف عصورها، كونها في شخص البابا واحدة ومقدسة وجامعة ورسولية ومتصلة التقليد خلف قيادتها، حيث الكنيسة منذ أكثر من مائة عام متصلة بكنيسة اليوم، ومن ثم وجب عليها الاعتذار من خلال الحبر الأعظم.
تاريخ الاعتذار في الكنيسة الكاثوليكية المعاصرة
يعود ناجي إلى التاريخ فيقول إن المجمع الفاتيكاني الثاني فتح الباب أمام الكنيسة الكاثوليكية لمراجعة تاريخها وممارساتها الدينية والإنسانية والاجتماعية، ومن ثم تقديم الاعتذار وتصحيح أخطاء اقترفها رجالها سابقًا، مشددًا: “وجب على رجال الكنيسة الحاليين اتخاذ خطوات نحو الإصلاح”.
استشهد ناجي بما وصفه بالمحاولات المعاصرة للإصلاح فقال: “في شهر مارس من العام 2000 وفي يوم الاعتذار أصدر البابا القديس يوحنا بولس الثاني وثيقة يوم الاعتذار التي قال فيها إن الكنيسة اليوم ومن خلال خليفة بطرس، تقر وتعترف بأخطاء المسيحيين في مختلف العصور”.
قبل ذلك بخمس سنوات كان يوحنا بولس الثاني وتحديدًا في شهر يونيو/حزيران من العام 1995 كان قد اعتذر عن كل أشكال التقليل من قيمة وكرامة المرأة وخاصة من جانب الكنيسة.
وفي 16 مارس/آذار من العام 1998 قدم البابا البولندي اعتذارا عن صمت الكنيسة الكاثوليكية أمام مجازر الهولوكوست خلال الحرب العالمية الثانية، كما قدم البابا يوحنا بولس الثاني أيضا اعتذاره للمسلمين عن الحروب الصليبية، وللأفارقة عن تجارة العبيد، وللبروتستانت عن الصراعات والحروب التي تلت الانقسام عن الكنيسة الكاثوليكية.
في العام 2008 قدم البابا الشرفي بنيدكتوس اعتذاره عن الإساءات الجنسية التي ارتكبها رجالات الكنيسة الكاثوليكية بحق الكثيرين، يومها أكد بنيدكتوس حزنه وأسفه العميق ومشاركته العميقة لأسر ضحايا مثل هذه الإساءات.
رصيد اعتذارات البابا فرنسيس للشعوب المتألمة
أما عن البابا فرنسيس فيسرد ناجي: “اليوم في ظل حبريته، أصبح لديه رصيد كبير من الاعتذارات استهلها ببوليفيا في العام 2015 باعتذار وطلب الصفح عن الجرائم التي ارتكبتها الكنيسة الكاثوليكية تجاه السكان الأصليين ببوليفيا وقت الحقبة الاستعمارية، امام هذا الاعتراف وطلب الصفح صرح الرئيس البوليفي السابق إيفو موراليس قائلا: “لأول مرة أشعر بأنه أصبح لديَّ بابا”.
واختتم ناجي: “على مدار تسعة سنوات منذ اعتلائه أسقفية روما، دأب البابا فرنسيس على تقديم الاعتذارات وبصفة خاصة عن الإساءات الجنسية والانتهاكات التي تعرض لها الكثيرين حول العالم على مدار العقود السبعة الماضية من طرف رجال الكنيسة الكاثوليكية، وكانت آخرها هناك بكندا حيث حج البابا على كرسي متحرك مدفوعا بشيخوخته الممتزجة بحكمة السنين، ليعبر عن توبته، طالبًا الصفح عن أخطاء الماضي متسلحا بالأمل والرجاء”.