شهدت ولاية النيل الأزرق في السودان أحداث عنف دامية تمددت في أجزاء مختلفة من الإقليم إثر مقتل مزارع في منطقة أمورا بمدينة قيسان غرب النيل الأزرق في 10 يوليو/تموز الجاري. ما دفع مزارعي الهوسا للاشتباك مع رعاة قبيلة البرتا على طول الحدود السودانية-الإثيوبية.
الصراع بين الطرفين أسفر عن نحو 105 قتلى و225 جريحا بالإضافة إلى نزوح المئات. وفق أقل التقديرات.
وتقف جملة من الأسباب القبلية والاجتماعية والسياسية وراء النزاع. حيث تعود الأحداث إلى إعلان قبيلة الهوسا نفسها كإمارة مستقلة في يناير/كانون الثاني. الأمر الذي رفضته قبائل البرتا والفونج باعتبار أن الهوسا هم رحّل متنقلون ليس لهم حق في الأراضي.
كذلك جاءت تصريحات رئيس الإدارة العشائرية للنيل الأزرق “العبيد حمد أبو شطل” مؤكدة أن “هذه المنطقة ملك قبائل النيل الأزرق وأنت ضيفنا(موجها حديثه للهوسا). كيف يمكنك أن تطالب بأن تكون جزءا من الإدارة الأهلية؟”.
ويحمل نظام الإدارة الأهلية في أغلب الدول الأفريقية في الأساس طابعا اجتماعيا. وأي محاولة لتغيير أو تعديل هذا النظام تقود إلى صراعات مسلحة. وهو ما تستغله بعض القيادات السياسية لإشعال الفتن من حين إلى آخر. أي توظيف القبائل لتحقيق أغراض سياسية.
الطويل: توظيف سياسي للقبائل
الدكتورة أماني الطويل -خبيرة بمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- علقت على الأبعاد السياسية لأحداث العنف قائلة إن أحداث النيل الأزرق متوقعة. ليس فقط في المنطقة المذكورة لكن في كل أرجاء السودان. وذلك لعدد من الأسباب المرتبطة بهشاشة مؤسسات الدولة. وعدم وجود صيغة توافق سياسي. وفراغ القيادة الناجم عن أحداث 25 أكتوبر. بالإضافة إلى عدم قدرة أي من الطرفين المدني أو العسكري على حسم الأمور لصالحه لعوامل داخلية وإقليمية وعالمية.
وأضافت: “كل هذه الأمور لا بد أن تنعكس على النطاق الجغرافي للدولة. وحيث إن الأماكن الأكثر هشاشة هي المناطق الطرفية وتلك التي انخرطت في اتفاقيات مع الحكومة المركزية على المستوى المركزي مثل اتفاق سلام جوبا. فإن هذا قد أنتج أوزانا سياسة محددة تسعى إلى التنافس في الانتخابات. وبالتالي حينما تكتشف بعض الشخصيات أو الرموز السياسية أن البيئة المحلية لا تذهب بها إلى الفوز بالانتخابات تحاول تغيير هذه البيئة. وهو ما جرى بالتحديد في النيل الأزرق. إذ إن مالك عقار -باعتباره زعيم المنطقة وطرفا في اتفاقية جوبا بالإضافة إلى دوره كجزء من الحركة الشعبية لتحرير السودان- يريد أن يستمر كرمز سياسي وزعيم بهذه المنطقة. بينما قاعدته القبائلية لا تساعده على ذلك. ومن هنا لجأ إلى الهوسا حتى يستطيعوا تغيير البيئة الانتخابية أو البيئة السياسية.
الوزن النسبي لقبائل النيل الأزرق
في ضوء الهشاشة التاريخية للدولة السودانية يتنقل الرعاة والرحل. وبالتالي حدث نوع من أنواع التغير في الخريطة القبلية السودانية. وكذلك الخريطة الديموجرافية والعرقية. ما أثر في مجمل التفاعلات السياسية والاجتماعية في السودان.
الخريطة الاجتماعية في النيل الأزرق يسيطر عليها شعب الفونج. ولهم نظارات. أما الهوسا فهم شعب رُحّل قادم من غرب السودان ومن غرب أفريقيا. وهم لا يملكون أراضي أو حواكير ونظارات. وسبب الأحداث الدموية أن الفونج يرفضون أن يمتلك الهوسا نظارات. أي يشاركون في ملكية الأراضي.
نظام الإدارة الأهلية للأراضي في السودان
من غير الممكن تصنيف أحداث النيل الأزرق على أنها ثورة على نظام الإدارة الأهلية للأراضي. حيث إنه على مستوى أفريقيا بشكل عام ليس هناك سيادة للدولة على الأراضي كما في الدول الحديثة. لكن القبائل في أفريقيا هي من لها الحيازة على الأراضي أو ما تسمى الحواكير.
احتمالية استشراء النزاع بسبب ملكية الأراضي
وتمثل الحواكير متغيرا رئيسيا على استقرار الأمن. إذ اشتعلت معظم الصراعات في أفريقيا بسبب هذه الحواكير. ويشكل أي إقدام من الحكومة المركزية للاستيلاء على الحواكير أو فرض نوع من أنواع السيطرة عليها فتيل صراعات مسلحة. كما تبين في دارفور في مرحلة من المراحل وفي دول الساحل وجنوب السودان. وهذه سمة من سمات البنية الاجتماعية في أفريقيا. لذلك فإن النزاع قابل للاستشراء والتمدد كما نرى ينتقل من الدمازين (عاصمة النيل الأزرق) لكسلا لعدد من المدن الأخرى.
باحث سوداني: الحكومة عاجزة
ويقول وائل علي نصر الدين -كاتب وباحث سوداني- إن الصراع في النيل الأزرق يرجع بشكل رئيسي إلى عدم قدرة الحكومة السيطرة على الأوضاع السياسية والأمنية. ومن المتفق عليه أن الدولة السودانية غير قادرة على احتواء الصراعات في هذه المرحلة. إذ لم تنجح في احتواء أي صراع لعدم تمكنها من إقرار القانون. سواء في دارفور أو النيل الأزرق أو غيرها.
يدعم ذلك وجود مصالح متناقضة لعدد من الزعامات السياسية وتناقضات أساسية بين زعامات قبلية وبين الحكومة. أو بين المكون العسكري ذاته. لا سيما قيام المكون العسكري في بعض المستويات سواء قيادته أو نائب قيادته بمحاولة استقطاب تكوينات قبلية بعينها للاستقواء بها.
فالسودان في الوقت الراهن بيئة ترشح أي نزاع للتصاعد وتحوله إلى صراع مسلح. والدولة السودانية باتفاق داخلي وخارجي تقع في أضعف حالاتها تاريخيا. كما أنها قابلة للانزلاق نحو الفوضى.
خارطة الانتشار القبلي في النيل الأزرق
تضم منطقة النيل الأزرق مجموعة من القبائل. أهمها قبائل السلطنة الزرقاء (الفونج). كذلك تضم قبائل الهوسا والفلاتة و”الهمج” والكدالو والقمز والبرتا والقباوين والدوالة والانقسنا. وأغلبهم ينتمون إلى الدين الإسلامي. والبعض الآخر يؤمن بالديانات الأفريقية القديمة. كما أن غالبية القبائل في النيل الأزرق هي قبائل غير عربية. إلى جانب عدد محدود من القبائل العربية مثل رفاعة وكنانة.
تشهد المنطقة توترات دائمة. إذ مثلت ولاية النيل الأزرق ركيزة في الحرب بين الشمال والجنوب.
وفي عام 2005 تم عقد معاهدة السلام CPA وبموجبها تم تقسيم ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان. كما نصت المعاهدة على أن يخضع الطرفان إلى المشورة الشعبية. أي يتم مشاورة سكان المنطقة على نظام الحكم. إلى أن اندلعت الحرب من جديد بين الشمال والجنوب وبين الحركة الشعبية. ما أدى إلى صعوبة تحقيق الاستقرار في المنطقة. لذلك فهي منطقة ذات وضع أمني خاص مختلف عن باقي السودان مثل ما في جنوب كردفان وكردفان ودارفور.
روايات عديدة للأحداث
الأولى يرى البعض أن الحركة الشعبية لتحرير بني شنقول -الموزعة بين السودان وإثيوبيا- استطاعت تحقيق بعض الانتصارات على حساب الجيش الإثيوبي. أعقبها تدخلات من جانب المخابرات الإثيوبية لدعم بعض الأطراف الموالية للإثيوبيين في النيل الأزرق. لا سيما الفصيل المتمرد الذي يقوده عبد العزيز الحلو.
أما الرواية الأخرى والتي يتبناها العديد من عناصر المجتمع المحلي في النيل الأزرق ترى أن مالك عقار زعيم الحركة الشعبية يحاول توظيف الاختناق القبلي لتحقيق مكاسب سياسية. وذلك عبر التحالف مع قبائل الهوسا لتوسيع قاعدته الشعبية وإثارة التوتر.
الوضع السياسي لقبائل الهوسا
حقيقة الأزمة هي أن الهوسا قبائل متنقلة. أما القبائل الأخرى فتمتهن الزراعة.
وبالتالي فإن الهوسا لا تمتلك أراضي زراعية بل هي تزرع في أراضي الغير. وفي فترة الحرب الأهلية كانت القبائل تعتدي على ماشية الهوسا باستمرار. لذلك حاولت العديد من الكيانات التوظيف السياسي لمظلومية الهوسا. فربما تجد الحركة الشعبية لتحرير السودان في الهوسا احتمالية أن تكون حليفا.
وترى الهوسا أن من حقها أن تنتظم في كيان موحد وتشكيل نظارة. وهو ما يترتب عليه أن تملك أرضا. الأمر الذي تشجبه بشدة القبائل الأخرى. أي إن الخلاف يصنف بمثابة صراع على الموارد.
نرمين توفيق: السودان تحت البركان
تقول الدكتورة نرمين توفيق -الباحثة في الشئون الأفريقية والمنسق العام لمركز فاروس للاستشارات والدراسات الاستراتيجية- إنه بالنسبة لمآلات الأمور فالسودان بشكل عام تحت البركان. إذ إنه من الخطأ اعتبار اتفاقية جوبا بمثابة حل ولكنها هدنة. إذ إنها خلقت صراعات في مناطق كانت بالفعل هادئة نسبيا. لا سيما في وسط وشرق السودان. لسبب رئيسي وهو صعوبة توجه المليشيات نحو الاندماج الموحد مع الجيش. أو نزع السلاح بشكل سلمي كما حال المليشيات المسلحة في النموذج الليبي.
الأمر المتوقع بنسبة فائقة هو تجدد الحرب ولكن السؤال هو من الطرف الذي سيستطيع أن يسحب الفاعلين إلى صفوفه. فهل الجيش بطموح قائدة إلى السلطة أم الجماعات المسلحة؟
اندلعت الأحداث بين قبائل ألبرتي والفونج وقبيلة الهوسا. فيما الأخيرة تعد من أكبر الجماعات الإثنية في أفريقيا ويبلغ عدد أبنائها عشرات الملايين. حيث يعيش أفرادها في مناطق تمتد من السنغال إلى السودان. ما يعكس خطورة ما يحدث بشكل يمكن أن يؤدي إلى امتداد الأزمة لمناطق أخرى في السودان وخارجه.، بالإضافة إلى موجات النزوح التي بدأت بالفعل حيث نزح المئات من منطقة الروصيرص بسبب هذه الاضطرابات بشكل يجعل سيناريو دارفور يلوح في الأفق. والتي اندلعت بشكل أساسي بسبب الصراع القبلي على الأراضي والمناطق الصالحة للزراعة والرعي.
يطالب أبناء الهوسا بإدارة محلية للهوسا والسعي لإقامة إمارة لهم في الإقليم. فيما ترفض السلطات العليا هذه المطالبات لأنها تهدد بتفكك الولاية.
وقد سعت القوات المسلحة السودانية إلى التعامل بحزم مع هذه الأحداث للسيطرة عليها حتى لا تتسع نطاق الصراعات القبلية. الأمر الذي جعل محمد حمدان دقلو (الرجل الثاني في النظام السوداني) يصدر بيانا حول هذه الأحداث ترحم فيه على الضحايا. وأشار إلى أن مثل هذه الأحداث ستقود البلاد للانهيار. مؤكدا أن القوات المسلحة السودانية لن تسكت إطلاقا عن كل ما يهدد استقرار السودان. ودعا “الوطنيين الشرفاء” إلى إعمال صوت العقل للوصول إلى حلول سياسية لأزمات السودان.
وتختم الدكتورة نرمين توفيق أن هذه الأزمة لا بد أن يتم حلها في أسرع وقت. لأنها مرشحة للتمدد. وإن لم يحدث توافق بين القوات المسلحة والقوى المدنية وأبناء الولاية فيمكن أن تذهب الأوضاع إلى ما لا يحمد عقباه. خصوصا مع الاضطرابات الحدودية في السودان.