في ظل أجواء بالغة الإيجابية عقب القرار الرئاسي بالعفو عن 7 من المحكوم عليهم بأحكام قضائية نهائية والذى أعلن عنه مساء الجمعة الماضي، من بينهم الصحفي العمالي هشام فؤاد، والباحث المستقل أحمد سمير، والقيادي اليساري عبد الرؤوف خطاب وآخرين، ومع الأجواء المرحبة بالقرار والداعية للمزيد في ملف سجناء الرأي، سواء المحكوم عليهم والذين يجوز لرئيس الجمهورية العفو عنهم، أو المحبوسين احتياطيا والذين تتجدد الدعوات والمناشدات للنائب العام بفحص ملفاتهم وقضاياهم وإخلاء سبيل كل من لم تثبت ضده اتهامات بالتورط فعليا في عنف أو إرهاب، فإن الحديث في ظل تلك الأجواء يصبح أكثر إيجابية وربما أكثر قبولا وتفهما.
ربما لم يخل عهد من العهود من وجود سجناء للرأي أو على خلفية مواقفهم السياسية، لكن السنوات الأخيرة تحديدا شهدت توسعا كبيرا في هذا الأمر وعلى نحو غير مسبوق، وطال كثيرين ليسوا فقط بسبب مواقفهم السياسية أو آرائهم المعارضة، وإنما طال كذلك مواطنين لا علاقة لهم بالسياسة أو بالعمل العام من قريب أو بعيد، سواء لكتاباتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو تواجدهم بالقرب من أماكن شهدت محاولات للتظاهر أو حملات توسعت في حالات الاشتباه، وعلى أي حال وأيا كانت الأسباب والتفاصيل والظروف، فإنه يبدو واضحا الآن أن هذا الملف يحتاج لتسوية سياسية وقانونية بدأت بعض خطواتها بالفعل، لكنها تحتاج للمزيد من السرعة في معدلات الإفراج وكذلك المزيد من وضوح المعايير، ودون أن يقلل ذلك من حجم الجهود المبذولة في ذلك الملف وإدراك تعقيداته والتفاوت في وجهات النظر حوله ما بين بعض المؤسسات في الدولة.
بأي معيار سياسي، فإن تصفية ملف سجناء الرأي ضرورة، بالذات في ظل ظرف تدعو فيه السلطة إلى حوار وطني يستهدف الإصلاح السياسي كما هو معلن ومطروح، وبأي معيار وطني، فإن توقف حملات الملاحقة والحبس لمن يختلف في الرأي أو يعبر عن مواقف معارضة أو مستقلة واجب إذا كان هناك استعداد جاد وإرادة حقيقية لأوضاع سياسية أكثر انفتاحا، وبأي معيار أمني، فإن ملف سجناء الرأي صار عبئا لا بد من تصفيته وإنهائه ووقف تجدده في أي لحظة مقبلة، وبأي معيار إنساني، فإن استمرار حبس أشخاص من أصحاب الرأي أو على خلفية قضايا لها طابع سياسي ممن لم يتورطوا في عنف أو إرهاب لشهور أو سنوات أمر لا يمكن قبوله.
ما ندعو له بوضوح وصراحة، وخاصة في ظل الأجواء الإيجابية المرحبة بقرارات العفو وإخلاء السبيل، رغم أي ملاحظات حول أعدادها وتسارعها، هو ثلاثة أمور رئيسية:
أولا: التزام واضح بأن يكون الحوار، وليس المقصود هنا هو جلسات الحوار الوطني فحسب، وإنما آلية الحوار ذاتها، هي السبيل في النقاش السياسي والعام حول أي قضايا عامة، وتوفير مجال عام آمن مفتوح للأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني والأهلي وغيرها من التنظيمات والجهات وحتى الأفراد المرتبطة بالعمل العام، بما يضمن عدم ملاحقة أو حبس أي شخص على خلفية عمله العام أو مشاركته السياسية أو تعبيره عن الرأي، طالما كان في إطار الدستور والقانون.
ثانيا: ولأن القانون هنا ينبغي أن يكون محل التزام، ولكنه أيضا يحتاج ليكون قانونا منظما وليس مقيدا، فإن هناك حزمة من التشريعات واجبة المراجعة لنصوصها وضبط مصطلحاتها القانونية وتحديدها ووضوحها، لتمثل هذه القوانين منظومة تصون الحريات وتضمنها لا أن تتسبب تحت ذرائع ومسميات مختلفة في حبس كثيرين، ليس فقط حبسا احتياطيا بل أحيانا والحكم عليهم بموجب تلك القوانين وموادها، وبالتالي، فإن تلك القوانين التي تحتاج للمراجعة والتعديل لا تقتصر فقط على المواد المتعلقة بالحبس الاحتياطي في قانون الإجراءات الجنائية وغيره، وإنما تمتد لعدة قوانين أخرى، وهو ما نعتقد أنه ينبغي أن يكون مطروحا ضمن ملفات الحوار الوطني باعتباره ساحة منتظرة لتصورات وتوصيات تؤسس لمرحلة مختلفة سياسيا.
ثالثا: إذا كانت النقطتين السابقتين فيما يتعلق بضمانات للمستقبل، فإن الوضع الراهن يحتاج لمعالجات أكثر حسما وسرعة، ولا يتصور أحد أنه سوف يتم تصفية ملف سجناء الرأي بالكامل في خلال أيام أو أسابيع، لكن تسارع معدلات الإفراج من ناحية، وزيادة أعداد المفرج عنهم في كل دفعة من ناحية أخرى أمران بالغا الأهمية يساعدان في أجواء عامة أكثر إيجابية، ومصداقية أوسع للخطوات التي يجري القيام بها، ثم -وهو الأهم- رفع الظلم الواقع على كثيرين بشكل أسرع، فكل يوم في السجن لأى سجين رأى أو مظلوم ممن حبسوا في ظروف التوسع في حملات الملاحقة الأمنية، هو يوم ضائع من عمره بعيدا عن أهله وأسرته وأحبابه، وهو عبء سياسي ونفسي وضميري على كل مشتبك مع العمل العام، ومقدار الفرح والسعادة والأمل التي تمتلئ بها القلوب والنفوس مع كل قرار عفو أو إخلاء سبيل، في مقابل كل لحظة يأس أو ألم أو فراغ صبر من سجناء أو أهاليهم، تستحق المزيد من الجهد والتفهم لأهمية هذا الملف.
وربما باعتبارات سياسية عديدة، بل وجماهيرية، لا يكون هذا الملف أولوية لدى بعض الأطراف، ويكفي فيه القليل فحسب، فالبعض ينظر له باعتباره شروطا توضع لمشاركة بعض أطراف المعارضة في الحوار الوطني وبالتالي لا ينبغي الاستجابة لتلك الضغوط، والبعض ينظر له باعتباره ليس ملفا له شعبية وجماهيرية تعود بأثر إيجابي على السلطة إن توسعت فيه في ظل أولويات مجتمعية أخرى على رأسها الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، لكن الحقيقة أن هذا الملف لا يمثل اشتراطا للمشاركة في الحوار الوطني بقدر ما يمثل ضمانا لجدية ونجاح الحوار وتشجيع أوسع قطاعات ممكنة على المشاركة الجادة فيه، وهو قد لا يمثل أولوية شعبية وجماهيرية مقارنة بملفات أخرى لكنه بالتأكيد يدخل راحة واسعة وأمان حقيقي لدى كثير من الأسر والأهالي والأصدقاء والمعارف الذين عانى كثير منهم إما من فقد أحد سجناء الرأي وراء القضبان لشهور أو سنوات، وإما من الخوف لاحتمال تكرار ذلك معه شخصيا أو مع أحد معارفه أو أقاربه أو أفراد أسرته.
من هنا، وإلى حين التئام الحوار الوطني وانعقاد جلساته ومناقشة ملفاته والخروج بتوصياته، فإن خروج أكبر عدد من سجناء الرأي ومن تم حبسهم في قضايا لا علاقة حقيقية لهم بها، هو أمر بالغ الأهمية والأثر، لكن أيضا لا بد أن يكون جزءا رئيسيا من مناقشات الحوار الوطني وملفاته ذاتها، ما سبق الإشارة له من حاجة لتعديلات تشريعية توفر بيئة عمل عام آمن وصحى، لكن كذلك التفاهم والتوافق حول معايير محددة لا تكتفى بطرح أسماء ومناقشة حالة حالة، وإنما تنظر بشكل أوسع وبإطار أشمل لهذا الملف، وتستبعد منه فقط من تورط فعليا في عنف أو إرهاب أو تحريض عليهما، بأدلة واضحة ومثبتة، لأن هؤلاء كثيرين بالفعل وضعوا في قضايا من هذا النوع دون أن تكون لهم علاقة بعنف أو إرهاب، ولأن هؤلاء كثيرين جرى تكييف وضعهم القانوني باتهامات تخص قوانين الإرهاب والكيانات الإرهابية واتهامهم بالانضمام أو المشاركة لجماعة إرهابية رغم أنهم مارسوا عملا سياسيا علنيا قانونيا أو كتبوا أو نشروا رأيا. وإذا كان ذلك قد جرى في سنوات وظروف سياسات فتحت الباب واسعا لإغلاق المجال العام والتضييق على السياسة وإطلاق القبضة الأمنية، فإنه يفترض الآن أن هذه الظروف والأوضاع قد تغيرت أو في طريقها لذلك، وهو ما يستلزم معه نهجا مختلفا في ذلك الملف تحديدا، وقد بدأت إشاراته، لكنها تحتاج لتتحول إلى منهج واضح وبمعايير محددة، وبما في ذلك الاتفاق على آلية تضمن استمرارية العمل في ذلك الملف بالتوازي مع انعقاد الحوار الوطني وبعده، وهو ما قد يستدعي أيضا نقاشا حول طبيعة عمل لجنة العفو وحدود دورها وتوسع تشكيلها بما يضمن تمثيل حقيقي لمختلف الأطراف فيها وبكونها صاحبة دور فاعل ومؤثر بالتواصل مع مختلف المؤسسات ذات الصلة بهذا الملف ودون إثارة حساسيات لدى أي طرف، أو غيرها من الآليات التي يمكن طرحها لضمان السير قدما في ذلك الملف.
وفى هذا السياق قد يكون مفيدا الدعوة للتفكير والنقاش حول إمكانية تبني الأطراف المشاركة في الحوار الوطني لفكرة صدور قانون عفو عام بمعايير محددة تضمن شمول كل سجين رأي وكل من لم يتورط في عنف أو إرهاب في القضايا ذات الطابع السياسي، خاصة أن الدستور يتيح ذلك، لكن تفاصيل الأمر تحتاج لنقاش بين سياسيين ودستوريين وقانونيين، وتحتاج قبل ذلك كله لإرادة سياسية في هذا الاتجاه الذي يقطع بنا شوطا طويلا وواسعا في ملف سجناء الرأي.
أخيرا، وحتى هذا الحين، ومع انتظار المزيد من دفعات العفو وإخلاء السبيل التي ستظل محل ترحيب وتخلق المزيد من الأجواء الإيجابية، فإن أوضاع من لا يزالوا داخل السجون، أيا كانت الاتهامات الموجهة لهم والأسباب وراء حبسهم، محكومين أو محبوسين احتياطيا، سياسيين أو غير ذلك، تحتاج لنظرة جادة ومراجعة حقيقية وإجراءات تصحح أوضاعهم وتستجيب لأبسط حقوقهم حتى كسجناء، في المعاملة اللائقة الكريمة ومستلزمات الحياة الرئيسية وحفظ وصون كرامتهم وتوفير الرعاية الطبية اللازمة لهم، ففي ذلك الملف الكثير والكثير من الحالات التفصيلية، وإذا كانت إجراءات وخطوات الإفراج عن سجناء الرأي قد تأخذ بعض الوقت والنقاشات التفصيلية، فإن توفير الحد الأدنى الواجب واللازم لمن لا يزالون داخل السجون يمثل أمرا عاجلا وضروريا ولا يحتاج لوقت أو جهد بقدر ما يحتاج لتوجيهات وتعليمات واضحة في ذلك الملف، ولا أقول ذلك فقط على خلفية بعض الوقائع التي جرت في الأسابيع القليلة الماضية، وإنما بناء على خبرة وتجربة ومشاهدة حية لما يقارب ثلاثة سنوات، لا فيما يخص شخصي وإنما فيما يتعلق بكثيرين غيرى عايشت فيها ظروف حبسهم واحتياجاتهم البسيطة التي يمكن بإجراءات بسيطة وبتوجيهات واضحة توفيرها والتعامل معها بالجدية اللازمة.