فجرت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي إلى جزيرة تايوان يوم الثلاثاء 2 أغسطس/آب حالة كبيرة من عدم الاستقرار في محيط تايوان، بسبب التحركات العسكرية الصينية بحرا وجوا طوال الأسبوع الماضي وزيادة المناورات بـ”الذخيرة الحية” في “مضيق تايوان” الذي تمر منه نصف حاويات العالم، واستمرار التدريبات الصينية على محاصرة تايوان، فيما يشبه ” بروفات” واستعراض لشكل الهجوم الصيني المتوقع على هذه الجزيرة في أي وقت لاحق.
وبرغم التصريحات التايوانية التي تتحدث عن ضبط النفس واستعداد القوات التايوانية لحماية أمنها القومي، ووجود تعهدات سابقة “معلنة” من الرئيس الأمريكي بايدن بالدفاع عن تايوان بشكل واضح في نهاية مايو الماضي أثناء مؤتمر صحفي باليابان، وتعهده بالتدخل العسكري حينها، لكن السياسات الأمريكية في الوقت ذاته لا تنبؤ بوجود خطوات جادة ستتخذ حيال تحركات الصين ضم تايوان.
اقرأ أيضًا.. توحش الشركة الأمريكية.. الدافع الأساسي لقمة جدة
فقد انتقد بايدن وانتقدت قيادة الجيش الأمريكي زيارة بيلوسي، وحاولو إثنائها ولو شكليًا عن تلك الزيارة، لكن في الوقت نفسه وبرغم المساعدات العسكرية التي تمنحها الولايات المتحدة لتايوان، ومحاولاتها تشكيل تحالفات وتكتلات في بحر الصين الجنوبي، مع عدد من الدول الآسيوية لتشكيل محاور مناوئة للصين، لكن تلك التكتلات مثل تكتل ” كواد ” الاقتصادي، والذي يضم اليابان والهند وأستراليا، أو ” الإطار الاقتصادي لمنطقة المحيطين الهندي والهادئ” والتي تضم ١٢ دولة آسيوية مع الولايات المتحدة تمثل أكثر من ٤٠٪ من الناتج الإجمالي العالمي ليست من ضمنهم تايوان.
وهو ما يعني أن أمريكا عمليا وبرغم تصريحات بايدن الجريئة ودعم تايوان بالسلاح وفرض قيود على الواردات الصينية لأمريكا ضمن حالة التنافس بينهما، إلا أنها لا ترغب في تصعيد التوتر مع الصين لصراع عسكري مفتوح، ولا تعترف بشكل رسمي باستقلال جزيرة تايوان حتى اللحظة، ووزير الخارجية بلينكن يؤكد على التزام أمريكا بمبدأ “ؤ” فيما يعتبر تأكيدا لاستمرار مبدأ “الغموض الاستراتيجي” الذي تنتهجه الولايات المتحدة تجاه تايوان.
لكن وبغض النظر عن مآلات هذه التطورات الاستراتيجية، وفهم مؤسسات الحكم الأمريكية لخطورة الحرب وفتح جبهتين مع القوتين العظميين “روسيا” و”الصين” في آن واحد، إلا أن السؤال الرئيسي الذي نهتم به هنا هو عن قيمة جزيرة تايوان الملاصقة للصين، ولماذا تكتسب جزيرة تعداد سكانها 23 مليون نسمة هذه الأهمية الكبيرة التي تصر الصين على ضمها لسيادتها والمغامرة بالصدام مع الولايات المتحدة، وفي ذات الوقت تجعل مهمة تعطيل الصين عن ابتلاع تايوان، على قمة جدول أعمال الرئيس الأمريكي، برغم أن التبادل التجاري بين الصين وأمريكا يفوق بمراحل حجم التبادل التجاري لكل منهما مع تايوان، ولماذا التايوانيون أنفسهم يرفضون الوحدة مع الصين ويرغبون في استمرار تمتعهم بالحكم الذات؟
منذ الحرب الأهلية في أربعينيات القرن الماضي، بين القوميين والشيوعيين، انقسمت الصين إلى جمهورية الصين الشعبية ” الشيوعية” بقيادة ماو تسي تونج، بينما هربت حكومة “كومينتانغ” -الجمهورية الصينية القومية- إلى تايوان وأعلنوها مقرا للحكومة وبدأ الانفصال بين النظامين، وادعى كل طرف تمثيله لجميع الصينيين.
مُنحت تايوان مقعد الصين الدائم في الأمم المتحدة في البداية، لكن المقعد عاد إلى بكين لاحقا بعد نجاح حكومة الحزب الشيوعي الصيني في صناعة القنبلة النووية، وبالتالي اكتساب القوة العسكرية الرادعة التي تفرض الاحترام والهيبة في النظام الدولي، وتنازلت أكثر الولايات المتحدة للصين في إطار سعيها لخفض تورطها في حرب فيتنام المرهقة.
حتى أصبحت حاليا هذه الجزيرة تطبق ما يسمى بـ”الديمقراطية الرقمية”، حيث يتوفر الإنترنت المجاني والسريع لكافة المواطنين، ويتمتعون بحق المشاركة وإبداء الرأي في السياسات الحكومية والموازنات العامة عبر تطبيقات إلكترونية مخصصة لذلك، تمكن الحكومة أيضا من عقد اجتماعات مع المواطنين لمناقشة تعليقات محددة لهم.
هذه النتيجة ليست سوى تعبير عن المسار التنموي الذي اتخذته تايوان طوال فترة استقلالها، أدى الاستثمار والإنفاق المكثف على التعليم لإحداث طفرة تكنولوجية غير طبيعية في هذا البلد الصغير حجما، فبدأت منذ عقود في تأسيس معهد أبحاث التكنولوجيا الصناعية التايواني، بعد أن حددت وزارة الاقتصاد أفضل التخصصات الدقيقة التي لها مستقبل واعد، وأفضل القطاعات الاقتصادية التي تستطيع بناء نهضتها الاقتصادية والتنموية عليها.
بدأ الرئيس التايواني ومعه وزير الاقتصاد في ذلك الوقت بالتفاوض مع المهندس “موريس تشانغ”، وهو مهندس تايواني خريج جامعة هارفارد بالولايات المتحدة الأمريكية وعمل هناك لمدة 25 عاما، وكان تخصصه هو صناعة الرقائق أو أشباه الموصلات.
اهتمام الحكومة والرئيس شخصيًا بـ تشانغ، كان ضمن برنامج حكومي للبحث عن أفضل المواهب والكفاءات التايوانية في الغرب للعودة وإفادة بلادهم الأصلية بقدراتهم المتميزة، ونجحو في إقناعه بالعودة لتايوان وتولي رئاسة المعهد، ليتحول تشانغ لرمز وطني عظيم لتايوان، من خلال الطفرات التي حققها في أبحاث التكنولوجيا الصناعية.
تهيمن تايوان حاليا منفردة على 63% من حجم الإنتاج العالمي لأشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية. ما يجعل هذه الجزيرة لاعبا رئيسيا في صناعات الأجهزة الإلكترونية الحديثة من الهواتف المحمولة، وأجهزة اللابتوب، والسيارات المتقدمة، والأجهزة المنزلية الرقمية، صحيح أن الصين وأمريكا ينتجان الرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات. لكن كلمة السر في تفوق تايوان عالميا هي شركتها الوطنية “تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة” أو TSMC عملاق أشباه الموصلات العالمية التي انبثقت عن المعهد الوطني للصناعات التكنولوجية، والتي تتجاوز قيمتها السوقية 600 مليار دولار – تفوق قيمة الناتج المحلي الإجمالي المصري بأكمله- وتنتج 54% من إجمالي الرقائق الإلكترونية العالمية، فضلا عن كون الزبائن الأساسيين هم أبل وسامسونج وسوني وإنتيل ونفيديا وغيرهم.
ليس هذا فحسب فهي أيضا تسيطر على الرقائق الإلكترونية “الذكية” بواقع إنتاجها لـ92% من الوجود العالمي لهذه الرقائق المهمة للغاية في الصناعات العسكرية الحساسة، ومنتجاتها الحديثة، مثل طائرات F 35 الأمريكية، وبشكل عام فمنتجات هذه الشركة من الرقائق الإلكترونية تتجاوز 11,617 منتج مختلف تخرج من مصانعها، يتم استخدام 281 تقنية مختلفة في تصنيعها لصالح 510 عملاء حول العالم حتى 2020.
تعتبر تايوان أهم مورد للرقائق الإلكترونية وأشباه الموصلات للصين حتى عام 2021م، وتتجاوز قيمة صادراتها للصين 515 مليار دولار خلال الأعوام الأربع الأخيرة، وساهمت شركة تي إس إم سي تحديدا في قفزات عديدة في الناتج المحلي الإجمالي لتايوان وزيادة معدلات النمو، والتي بلغت العام الماضي 6.45% وهي النسبة الأكبر منذ عام 2010 التي بلغ فيها معدل النمو 10.25% أيضا بفضل ذات الشركة، حيث حققت “تي إس إم سي”، إيرادات في العام الماضي تجاوزت 50 مليار دولار، ومن المزمع أن تستثمر هذا العام أكثر من 40 مليار دولار لإنشاء مصانع جديدة لزيادة إنتاج الرقائق الإلكترونية التي يتعاظم عليها الطلب العالمي.
شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات المحدودة TSMC وصلت لهذه المكانة المهمة بفضل استثمارها الدائم في بند البحث والتطوير داخل الشركة، وتجني بذلك حصاد لاستثمار تايوان الكثيف في التعليم وفي ابتعاث المتفوقين دراسيا للخارج، اللذين أسسوا هذه الشركة وأدخلو هذه التكنولوجيا بالأساس إلى تايوان عام 1987 م من شركة مخضرمة مثل “إنتل” الأمريكية، حتى أصبحت “تي إس إم سي” تنتج رقائق بحجم 5 نانو مترات، وهي رقائق متناهية الصغير وعالية التقدم في ذات الوقت.
لسنا إذا نبالغ حينما نضع شركة “تي إس إم سي” في قمة الأسباب التي تجعل من تايوان ذات أهمية استراتيجية لكل من الصين وأمريكا، وأن صناعة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية في تايوان أصبحت بمثابة سلاح استراتيجي لها.
فيتذكر العالم بأكمله ما حدث من اضطراب لسلاسل الإمداد بسبب إغلاق تايوان أثناء جائحة كورونا لتتوقف مصانع سيارات وهواتف وأجهزة إلكترونية عن الإنتاج بسبب نقص الرقائق الإلكترونية، ما يجعل لدى الصين وأمريكا دوافع كبيرة للاستحواذ على تايوان والهيمنة على هذه الثروة التكنولوجية الضخمة، وهو ما نجحت به إدارة ترامب سابقا والتي ضغطت على الشركة التايوانية للاستثمار وبناء مصنع جديد لها في أمريكا لاكتساب هذه التكنولوجيا المتقدمة.
هذه الحرب لا تتعلق كالعادة بالأبعاد الاستراتيجية وحماية الجغرافيا السياسية، فتايوان تلتصق بالصين تماما كما شبهها ترامب كالتصاق سن القلم على الطاولة أثناء الكتابة، ومع ذلك فأهمية تلك الشركة هي ما تضفي على هذا الصراع أهمية إضافية، تدفع الجيوش ومجالس الأمن القومية لإعادة صياغة الأبعاد الاستراتيجية لهذا الصراع، وتجعل من هذه المعركة المنتظرة في المقام الأول مهمة لأمريكا لمنع الصين من احتكار هذه الصناعة التكنولوجية الهامة والسيطرة على سلاسل الإمداد العالمية أكثر وأكثر وبالتالي فرض مزيد من أوراق القوة في وجه الولايات المتحدة والمجتمع الدولي.
صديقي القارئ، هاتفك أو جهاز الكمبيوتر الذي تقرأ منه هذا المقال، أصبحت أهميته للعالم تجعل من أمريكا تزيد من وتيرة تخارج شركاتها من الصين وإعادة توطينها في فيتنام والهند ودول آسيوية أخرى للحفاظ على إنتاجه بعيدا عن سيطرة الصين، ومن أجل احتكار إنتاج الهواتف المحمولة وشاشات التلفزيون والطائرات، قد تبتلع الصين تايوان في أي وقت وتشتعل حرب كبيرة في المحيط الهادئ.
صحيح قد تهدأ التحركات العسكرية الصينية الحالية وتتأجل هذه الحرب للسنوات القادمة، وصحيح أيضا أن الصين التي يتخطى تعداد سكانها المليار، وتعتبر القوة العسكرية الثانية في العالم تستطيع إنهاء أمر تايوان خلال ساعات، لكن من يدري لعل الابتكار التكنولوجي التي تفوقت به تايوان يستطيع اختراع ما يجعل التنين الصيني يعيد التفكير ويؤجل قراره مجددا.