عبر سجالات تاريخية طويلة بين الإكليروس أي رجال الدين الأقباط وبين العلمانيين استقر الحال على ما هو عليه الآن، لرجال الدين السلطة العليا واليد الطولى في كل شيء. فأصحاب العباءات السوداء لهم سلطان الحل والربط بأمر الكتاب المقدس ولكنهم تجاوزوا هذا إلى السيطرة على كافة شئون الحياة حتى البعيدة منها عن الكنيسة، بعد إخراج العلمانيين من معادلة السلطة.
اقرأ أيضا.. “على دير العدرا ودّيني”.. صلبان ونذور وألف من يزور
ما معنى العلمانيين الأقباط؟
لا يقصد بالعلمانيين هنا الكلمة بمعناها السياسي أي secular بل بمعناها الدارج كنسيا أي المنتمين للكنيسة من غير رجال الدين ومن ثم فنحن أمام مصطلحين الأول هو الإكليروس وتعني رجال الدين المسيحي والثاني هم العلمانيين وهم من غير الإكليروس، لكنهم جزء من جسد الكنيسة.
إلا أن فهم العلاقة بين الطرفين يستدعي في البداية العودة للتاريخ الذي تم فيه تقسيم الأدوار بين الإكليروس والعلمانيين فاستحوذت الجماعة الأولى على السلطة في كل ما هو روحي وديني بينما الجماعة الثانية فقد كان لها السلطة في كل ما هو مالي وإداري.
كيف تأسس المجلس الملي على الصراع مع الكنيسة؟
وفق موسوعة تاريخ الكنيسة القبطية فإن العام 1870 شهد رحل البابا ديمتريوس الثاني، الذي ترك فراغا كنسيا وسط تلك الحقبة الليبرالية التي كانت قد تشكلت فيها طبقة من المتعلمين والمثقفين الأقباط الذين أرادوا لعب دور في كنيستهم القبطية فما كان منهم إلا أن استصدروا عام 1874 أمرا عاليا من الخديوي إسماعيل لتأسيس ما يسمى المجلس الملي ليدير أموال الأقباط وكافة شئونهم غير الروحية في فترة فراغ الكرسي المرقسي.
يرجع أنيس عيسى الباحث بعلم الاجتماع الديني بجامعة باريس للعلوم والآداب PSL ، استجابة الخديوي لمطالب الأراخنة (كبار الشخصيات المثقفة والمتعلمة وكبار العائلات) إلى التقاليد العثمانية. ويقول: “فكرة العلمانيين والمجالس الملية مرتبطة بالنظام العثماني وتعود لعصر السلطان محمد الفاتح الذي لجأ لذلك حين فتح القسطنطينية فكان هناك مسلمين ويهود وأرمن وروم ولكنه بذكاء شديد، ولكي يقلل صراعه مع هذه الملل الدينية، أسس نظام يسمح ببعض الاستقلال لهؤلاء.
وأضاف أنه منح بطريرك الروم والأرمن واليهود الحق في إدارة شئون رعاياهم فكانوا يؤسسون المدارس ويحكمون بشرائعهم ويجمعون له الضرائب أحيانا، ومن ثم فإن مصر كجزء من الإمبراطورية العثمانية انتقل إليها هذا التقليد.
يوضح عيسى: ومن ثم فإن النظام الملي يجعل القيادات الدينية وسيطا بين الدولة والرعايا وكان هذا النظام يجعل الحكم مقتسم ما بين الإكليروس وكبار عائلات الأقباط، وبالتالي فإن هذا التقسيم يستمد شرعيته من فكرة الأقلية، وبالتالي فإن تأسيس مجلس ملي عام 1874 بمبادرة من بطرس باشا غالي، أحدث تغييرا في العلاقة بين الكنيسة والدولة آنذاك وأصبح المجلس الملي العلماني هذا يخصم من أدوار الكنيسة لصالحه حيث كانت البلاد في هذه الفترة في أوج الحداثة والليبرالية وكانت هناك حركة نضال وطني ضد الاحتلال الإنجليزي ومن ثم تم منح القيادات الوطنية دورا في العلاقة بين الكنيسة والدولة مثل ويصا واصف ومكرم عبيد.
في عام 1874 أيضا جاء البابا كيرلس الخامس على سدة كرسي مار مرقس ليجد إن هذا المجلس ينازعه صلاحياته ويشاركه نفس مهامه البابوية خاصة بعد استصدار أعضاء المجلس على أمر عالي من الخديوي توفيق يحدد اختصاصات أعضائه وصلاحياته صدر في 14 مايو سنة 1883 ونص على وجوب نظر المجلس في مصالح الكنائس وأحوالها وفي المدارس والأوقاف والفقراء والأحوال الشخصية، ورسامة القسس وغير ذلك.
أزمة التأسيس.. خبرة سلبية بين العلمانيين والكنيسة
وفق موسوعة تاريخ الكنيسة، فإن البابا كيرلس لم يكن مرحبا بتلك الصلاحيات التي منحت للمجلس الملي خاصة إنها مستجدة ولم تختصم من البابا من قبل في عصور أي من أسلافه حيث كان العرف السائد هو احتفاظ الكنيسة بدورها الروحي وكذلك تمثيلها للأقباط أمام الدولة المصرية.
استمر ذلك الخلاف حتى تمكن البابا من حل المجلس الملي بعدها بعام واحد فلم يرض بطرس غالي عما جرى ونجح بعد سنوات في استصدار أمر عالي سنة 1883 لعودة المجلس مرة أخرى ليعود وكيلا له أيضا.
يعتبر الكاتب الصحفي هاني لبيب إن تلك الأزمة التاريخية ألقت بظلالها على العلاقة بين العلمانيين والإكليروس لما يزيد عن قرن من الزمان حتى شكلت ما أسماه بـ”الخبرة التراكمية السلبية” التي صاحبت نشأة المجلس الملي سنة 1874 وعمله منذ البداية حيث وصل لنقطة مواجهة وصدام بينه وبين قيادة الكنيسة في العديد من الأحيان وهي المواجهة التي انتهت إلى محاولة سيطرة كل طرف على الثاني دون الوصول إلى شكل متكامل للتعاون والشراكة، خاصة أنه لا يمكن للعلماني المسيحي المصري أن يقوم بدور الإكليروس، كما لا يمكن للإكليروس أن يؤدوا بدور العلماني.
يضيف لبيب: وترتب على ذلك، أن النظرة السلبية المتراكمة هي التي ظلت سائدة وحكمت العلاقة بينهما لأكثر من قرن من الزمان، وهي النظرة التي انتقلت بشكل مباشر بعد ذلك إلى دور العلماني كفرد أو مجموعة صغيرة منظمة، نتيجة زيادة الوعي بدوره في الكنيسة، وهو الدور الذي يعتبر نوعا من الاستكمال لدور المجلس الملي من الأصل.
حبيب جرجس علماني أحيا حركة التعليم في الكنيسة
تلك الخبرة السلبية بين العلمانيين والكنيسة لم تمنع الأرشدياكون حبيب جرجس من تأسيس حركته التعليمية الإصلاحية داخل أسوار الكنيسة حين أسس مدارس الأحد عام 1918 ثم الكلية الإكليريكية دون أن يحمل رتبة كهنوتية ولكنه في الوقت نفسه اختير عضوا للمجلس الملّي العام، ورُشِّح مطرانا للجيزة سنة 1948م ولكن لم يقبل البابا يوساب رسامته لأنه لم يكن راهبا إلا أن حركة حبيب جرجس خرج من عباءتها شباب مهتمون بالعمل العام كان من بينهم أعضاء جماعة الأمة القبطية الذين خطفوا البابا يوساب وكذلك جيل من الجامعيين مثل البابا شنودة والأنبا غريغوريوس أسقف البحث العلمي والأنبا صموئيل أسقف الخدمات وفقا لما يؤكده لبيب.
يشير عيسى إلى إن الوضع قد تغير كليا بعد ثورة 23 يوليو 1952 حيث حل جمال عبد الناصر الأحزاب وعاد السياسيون الأقباط لمنازلهم دون أي دور في المجال العام. وبعد أول انتخابات لاحظت الدولة غياب الأقباط ولجأت لتعيين البعض منهم ثم ظهر جيل من الإكليروس مرتبط بالعمل العام مثل الأنبا صموئيل والأنبا شنودة والأنبا غريغوريوس وفي تلك الفترة بدأت تتأسس فكرة اعتمادية الأقباط على الكنيسة في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى إن المسيحيين كانوا يرسلون أسئلتهم في مجلة الكرازة يطلبون فتوى من الكنيسة وهو أمر لم يكن دارجا من قبل.
المجلس الملي في عصر البابا شنودة
يستكمل الباحث في علم الاجتماع الديني: وحين جاء البابا شنودة أعاد المجلس الملي الذي كان معطلا في عصر البابا كيرلس ولكنه منح أعضاء المجلس رتبة كهنوتية حين رسمهم شمامسة وهو ما رفضه الأنبا غريغوريوس الذي اعتبر إن البابا شنودة أدخلهم سلك الكهنوت كشمامسة ما يعني إنهم أسفل الكهنة والأساقفة في التراتبية الكنسية ومن ثم كان عليه أن يترك لهم استقلاليتهم.
يؤكد كمال زاخر الكاتب المتخصص في الشأن الكنسي، أن المجلس الملي في عصر البابا شنودة قد تم تدجينه تماما ولم يعد له سلطة مستقلة حتى إن آخر تشكيل للمجلس قد شهد عضوية اثنين من الكهنة رغم إنه مجلس للعلمانيين. مشيرا إلى إن المجلس الملي موقوف منذ انتهاء مدته القانونية عام 2011 ولم ينتخب مجلس جديد.
زاخر لفت إلى إن البابا تواضروس أكد من قبل رغبته في تأسيس مجلس علماني قبطي يسمى المجلس الاستشاري القبطي إلا أن لائحة هذا المجلس وقانون صدوره لم تتحرك منذ أن تقدمت مجموعة من الأقباط بينهم زاخر بمشروع لتأسيس هذا الكيان قبل ما يقرب من عشرة سنوات.
كيف يستعيد العلمانيون الأقباط دورهم في الكنيسة؟
في حين يؤكد هاني لبيب أن وجود مجلس للعلمانيين الأقباط له العديد من الجوانب الإيجابية من بينها العمل على تطوير الكنيسة بما يواكب العصر دون التخلي عن الثوابت الإيمانية والقيام بدور للحد من تقوقع المواطنين المسيحيين المصريين وسلبيتهم وتمثيل آمال وطموحات القاعدة العريضة من المواطنين المسيحيين المصريين والتعبير عن مشكلاتهم وطموحاتهم وفي الوقت نفسه يلفت لبيب النظر إلى بعض السلبيات من بينها عدم امتلاك هؤلاء العلمانيين مشروعا متكاملا وموحدا بل يعملون كجزر فردية منعزلة.
ووفق لبيب فإن أهم تلك السلبيات هو صعوبة إضفاء الشرعية على ماهية العلمانيين من خلال الاستقلال عن المؤسسة الكنسية، فأصبحوا صوتا دون فعل حقيقي يمثل صدى القاعدة العريضة من المواطنين المسيحيين المصريين. وهو ما جعلهم جماعة هامشية ليس لها تأثير قوى في الوسط الكنسي. بل يظهرون- أيضا- في كثير من الأحوال وكأنهم ضد الكنيسة ومن المعارضين لها. عدم استقلالية الحركات العلمانية داخل الكنيسة، لأن شرعيتها وقانونيتها ومقومات بقائها تستمد قوتها من الكنيسة نفسها.
أما أنيس عيسى فيرى إن العلماني القبطي لابد أن يكون ملح الأرض كما تؤكد دعوة المسيحية ومن ثم لابد أن يلعب دورا في المجتمع العام. كما أشار إلى أن فكرة المواطنة تعني أن يصبح المسيحيون جزءا من نسيج الوطن ويلعبون دورا فيه. بينما تقوقع التيار العلماني المسيحي على شئون الكنيسة فهو عودة لنظام الملة العثماني.