خلال بضعة أشهر، وقعت حادثتان مأساويتان تضمنتا قتل فتاتين في الشارع على مرأى الجميع. دوافع المجرمين وطريقة تنفيذ الجريمة تشابهت بشكل كبير. تكرار نفس الحادثة في هذه الفترة القصيرة قد يكون مؤشرا على وجود مشكلة اجتماعية تغلي تحت السطح وقد تصبح عواقبها قاتلة وستكون ضحاياها من النساء.
في يونيو/حزيران الماضي، شهد المارون أمام جامعة المنصورة جريمة بشعة، وهي قتل الطالبة نيرة أشرف، على يد شاب يدعى محمد عادل. ثم في أغسطس/آب الحالي تكررت نفس الجريمة بنفس مستوى البشاعة عندما قَتل شاب يدعى إسلام محمد، زميلته سلمى بهجت، أمام عقار بالزقازيق. تشابهت الجريمتان في عدة أمور: أولا، اختار المجرمون تنفيذ الجريمة أمام الجميع. ثانيا، كلا الشابين قتل فتاة بسبب رفضه عاطفيا. ثالثا، استخدم القاتلان نفس طريقة القتل وأداته، وهو الطعن بالسكين. كلا القاتلين أيضا ادعى أنه كان يساعد الفتاة الضحية في الدراسة. وأخيرا القاتلان ينتميان لنفس الفئة العمرية. قد تكون تلك التشابهات تعبر عن صعود نمط جديد من الإجرام الموجه ضد النساء.
محاولة لفهم “الرجولة” والعنف
لا توجد صفات طبيعية للذكورة أو “الرجولة” كما يطلق عليها في المجتمع المصري. فالذكورة مفهوم اجتماعي تختلف صفاته من مجتمع إلى آخر. ولكن لكل مجتمع صفات مُثلَى للذكورة، وهذا ما يطلق عليه الذكورة المهيمنة. في المجتمعات البطريركية “أي الأبوية” الحالية فإن الصفات التي ترتبط بالذكورة هي الميل نحو العدوان والتنافس والسيطرة وعدم إظهار العاطفة أو التعاطف. ترتبط الذكورة المهيمنة أيضا بوضع الذكر الأمثل في أعلى الهرم الجندري والنساء في المراتب الأدنى. وأحد عناصر هذه الذكورة السامة هي “الميسوجيني” أو كراهية النساء حيث تضع الثقافة الذكورية السامة النساء والصفات الأنثوية بشكل عام في مكانة متدنية أقل من الرجل وتعتبرهم محل احتقار.
درس عالم الاجتماع الأمريكي مايكل كيميل، ظاهرة ما أطلق عليهم “الرجال البيض الغاضبون” في الولايات المتحدة الذين يتمثلون في حوادث العنف المنزلي، وحوادث قتل الفتيات، وحوادث إطلاق النار الجماعي، وحركات حقوق الرجال ومعاداة النسوية. يرى كيميل بأن الثقافة الذكورية المهيمنة تعطي الرجال شعورا زائفا بالاستحقاق لكونهم رجال. لذلك يعتقد الرجال في ظل تلك الثقافة الذكورية السامة أنهم يستحقون المال والسلطة والحب والجنس. فعندما يفشل الرجال في الحصول على ما يعتقدون أنها استحقاقات طبيعية –عند الفشل في الحصول على حب الفتاه أو المال كمثال – يكون رد فعلهم عنيفا ويصل لقتل من يعتبرونهم أدنى منهم. هذا نتيجة لشعورهم الزائف بالمظلومية، وشعورهم بأن ذكورتهم واستحقاقاتهم يتم تهديدها أو إهانتها. لذلك أطلق كيميل على هذه الظاهرة “الاستحقاق المظلوم”.
رجال قمحاويون غاضبون
يتوافق نمط قاتلي نيرة وسلمى مع هذا الشعور الزائف بالاستحقاق. أحد منشورات قاتل سلمى، على فيسبوك بتاريخ 12 إبريل/نيسان 2020 توضح هذا، حيث يرى نفسه شخصا تعرض للظلم من المجتمع. فهو يرى نفسه كشخص مثقف وموهوب في عدة مجالات ولكن لم يدعمه من حوله فشعر بشعور زائف بالظلم. ولكن في حقيقة الأمر، أن طريقة عرضه للمجالات التي يعتقد أنه متفوق فيها توضح عدم تفوقه في أية من تلك المجالات التي ذكرها، ولا يتعدى معرفته بتلك المجالات إلا بعض الأمور السطحية. لم يقتنع قاتل نيرة بأنه محدود المواهب، بل رأى نفسه كونه ذكرا يستحق المال والحب والمكانة، وهذا ما رسخته الثقافة الذكورية السامة في شخصيته. تلك العوامل راكمت شعوره الزائف بالمظلومية. هنا يأتي دور الضحية “سلمى” التي رأى القاتل أنها إحدى استحقاقاته، فعندما رفضته، ارتكب أبشع أشكال العنف ضدها.
قبله كان قاتل نيرة الذي قتل الفتاة لرفضها الزواج منه. كلا القاتلين قال إنه كان يساعد “فتاته” في الدراسة الجامعية وأنه سبب نجاحاها وتفوقها. بغض النظر إن كانت ادعاءاتهم صحيحة أم لا، يتضح أن القاتلين شعرا بأنهما أكثر تفوقا وذكاء من الفتاتين. مما يشير إلى أن شعورهم الذكوري بالاستحقاق تم تهديده لأن تم رفضهم من قبل من يعتبرونهم أشخاصا أدنى منهم. هذا ما استدعى ارتكابهم جرائمهم البشعة في وضح النهار أمام الجميع، ولم تكن الجرائم لحظية. فالتحقيقات مع قاتل نيرة أظهرت أنه كان يخطط لجريمته ومكان الجريمة. أما قاتل سلمى فتوعد بقتلها على حسابه على فيسبوك قبل أن ينفذ جريمته. لجأ القاتلان إلى الجرم البشع في محاولة لاستعادة ما يعتقدون أنه “حقهم” وللرد على ما اعتبروه إهانة لذكورتهم. ولقد استخدم قاتل نيرة في اعترافاته تعبيرات مثل “آخد حقي منها” و”أرد كرامتي”. يتشابه هذا الخطاب مع حالة قاتل سلمى، فهو يعتقد أنه أفضل وأكثر تفوقا منها حيث نسب لنفسه الفضل في نجاحها بكليتها، وعندما رفضته شعر بالإهانة.
تمثل تلك الجرائم تحولا في شكل العنف ضد النساء. حوادث قتل النساء كانت تقليديا في المجتمع المصري أغلبها نتيجة عنف منزلي شديد أفضى إلى موت أو قتل بدافع الشرف. ولكن هؤلاء القتلة الجدد يقتلن بدافع الانتقام والشعور بالإهانة. كما أنهم يرون أنفسهم أيضا مختلفين عن الذكر المصري التقليدي، وهذا ظهر في منشورات قاتل سلمى الذي كان يحمل مسؤولية بؤسه لأبيه، لأنه كان يضربه ويهدده. هذا فضلا عن جسده المغطى بالوشوم وهو ما يناقض معايير الذكورة التقليدية في المجتمع المصري. ولكن هذا لم يجعله يبتعد عن الذكورة السامة والعنف المرتبط بها، بل توحشت تلك الذكورة في داخله.
كراهية النساء كخطر إرهابي
خطورة الجريمتين تمثلت في احتمال تحولهما إلى ظاهرة أخطر وأوسع انتشارا، وهذا ما حدث بالفعل في عدة بلاد في الغرب. حيث تحول مجموعة من الرجال الذين فشلوا في الحصول على اهتمام الفتيات إلى مجموعات ذات أيدلوجية متطرفة تدعوا للتفوق الذكوري وكراهية النساء.
بسبب ازدياد حوادث القتل والعنف المدفوعة بتلك الأيدلوجيا الذكورية المتطرفة، صنف العديد من الخبراء في أبرز مراكز الفكر ومكافحة الإرهاب في العالم (مثل المركز الدولي لمكافحة الإرهاب ومركز قانون الحاجة الجنوبي) تلك الأيدولوجيا كخطر إرهابي وحذروا أنه في تصاعد مستمر. أشهرهم كان مجتمع “اللانسل” أو مجموعات العزوبة غير الطوعية كما يطلقون على أنفسهم. هم مجموعة من الرجال فشلوا في الحصول على حب واهتمام الفتيات فأنشأوا شبكات إلكترونية تشجع على كراهية النساء والانتقام منهن. سرعان ما بدأ أفراد منهم بعمليات قتل، بعضها ضد فتاة بعينها أو إطلاق نار على مجموعة من النساء. وعند قيامهم بعمليات القتل كانوا يعلنون عنها على مواقع التواصل الاجتماعي ويفتخرون بها. هؤلاء القتلة كانوا يكتبون على مواقع التواصل الاجتماعي بأنهم يتعجبون بأن النساء يرفضونهم على الرغم من رؤيتهم لأنفسهم كرجال ذوي مظهر جذاب ونظيف وملابس أنيقة. يلوم هؤلاء الرجال المتطرفون المجتمع والنساء جميعهم على فشلهم في الحصول على الجنس والحب.
قبل أن تتحول الذكورة لإرهاب
لا يَجمَعَ القاتلين أيُ نوع من الأيدولوجيا المنظمة أو شبه المنظمة. ولكن هكذا بدأت المجموعات الإرهابية الكارهة للنساء بالظهور في الولايات المتحدة وكندا وأوروبا. يبدو أيضا بأن قاتل سلمى قد تأثر بقاتل نيرة. قد يكون هذا إشارة إلى أن شبابا أصحاب ميول عنيفة وظروف مشابهة قد يتعاطفون مع هؤلاء المجرمون. والأخطر أيضا أنهم من فئة الشباب الذين يجيدون استخدام التكنولوجيا مما قد يمكنهم من إنشاء شبكات إلكترونية في الخفاء أولا، ولكنها قد تتطور لاحقا.
يبدو من تحليل تصرفات هذا النمط من المجرمين أنهم لا يحاولون إخفاء جرائمهم ولا تخيفهم العقوبة أيضا وإن كانت الإعدام، حيث إن قاتل سلمى كتب بأنه مستعد للإعدام. هذا ما يجعلهم مجرمين شديدي الخطورة حيث إنهم يصرون على تنفيذ الجريمة بغض النظر عن العقوبة.
بالنظر إلى السياق الاجتماعي الأوسع، فهناك موجات للهجوم على النسوية في المجتمع المصري وتعتبرها نوعا من المؤامرات. هذا يتزامن مع قيام بعض الرجال بالمطالبة بما يطلقون عليه “حقوق الرجل” ويرون بأن النساء يحصلون على حقوق تهدد الرجل. هذا السياق الاجتماعي يشابه السياق الاجتماعي الذي نمت فيه الشبكات الذكورية المتطرفة في الغرب مؤخرا.
وقف هذا النمط من العنف في بداياته يتطلب حلا من شقين: الشق الأول، توعوي وثقافي، أما الشق الثاني، فهو أمنى. الشق الأول يتضمن اقتلاع أفكار الذكورة السامة من المجتمع، مع استبدال تلك الذكورة السامة بشكل تقدمي من الرجولة يتقبل الرفض ويعترف بالمساواة ويحترم النساء والفئات الأضعف. أما الحل الأمني فهو ردع الجرائم قبل أن تحدث عن طريق متابعة ومراقبة الرجال أصحاب المنشورات التي تشجع على كراهية النساء على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث إن هؤلاء الرجال يميلون إلى إظهار جرائمهم وأفكارهم للمجتمع. هذا سيمنع الجريمة قبل وقوعها.