في مقاله المنشور في فورين أفيرز، يشير العالم السياسي الأمريكي وباحث العلاقات الدولية، جون مارشيمير. إلى أنه يمكن، عبر ملاحظة مسار السياسية الغربية، رصد توافق في الآراء بشأن الحرب في أوكرانيا، وهي أن الصراع سيستقر على الأمد الطويل. وفي النهاية، ستقبل روسيا -نظرا لضعف موقفها- اتفاقية سلام من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في حلف شمال الأطلسي “الناتو”، وهذا أيضا ينطبق على أوكرانيا.
ويؤكد باحث العلاقات الدولية أنه “على الرغم من هذا، فإن المسؤولين يدركون أن واشنطن وموسكو قد يطمحان للحصول على ميزة إضافية أو لمنع الهزيمة”.
مارشيمر، الذي يتميز تحليله كونه منتمي لمدرسة الفكر المتسم بالمنطق، وقد وُصِف بأنه أكثر الواقعيين نفوذاً في جيله. يرى أن “الخطوات القادمة ستوضح أن هناك محاولات لتجنب التصعيد الكارثي. وقليلون يتفقون على أن القوات الأمريكية قد تشارك بشكل مباشر في القتال، أو أن روسيا قد تتجرأ وتستخدم ترسانتها من الأسلحة النووية”.
يؤكد: واشنطن وحلفاؤها كثيرون. وعلى الرغم من إمكانية تجنب التصعيد الكارثي، إلا أن قدرة الأطراف المتحاربة على إدارة هذا الخطر أبعد ما تكون عن اليقين. هذا الخطر أكبر بكثير من الحكمة التقليدية التي يمكن أن تدار بها مثل تلك الأمور، وبالنظر إلى أن عواقب التصعيد يمكن أن تشمل حربًا كبرى في أوروبا. وربما حتى إبادة نووية، فهناك سبب وجيه لمزيد من القلق.
اقرأ أيضا: سباق التسلح الجديد.. لا مكان لـ “النووي” في المستقبل
ما هي ديناميكية التصعيد في أوكرانيا؟
يقول مارشمير: لفهم ديناميكيات التصعيد في أوكرانيا، يجب البدء بأهداف كل جانب. منذ بدء الحرب، أثارت موسكو وواشنطن توقعاتهما بشكل كبير، وكلاهما يحاول بقوة الخروج من تلك الحرب بالمكاسب، وتحقيق أهداف سياسية هائلة، ولهذا لدى كل جانب حوافز قوية لإيجاد طرق لإنهاء الأزمة.
يضيف: الأهم من ذلك، لتجنب الخسارة، هذا يعني أن الولايات المتحدة قد تنضم إلى القتال. سواء بسبب رغبتها الشديدة في كسر أنف روسيا، أو منع أوكرانيا من الخسارة. وهذا يعني أن رد روسيا -في حالة يأسها من الفوز- قد تستخدم الأسلحة النووية. خاصة إذا كانت تواجه هزيمة وشيكة، وهذا التطور ليس بخيالي، بل هو وارد الحدوث بشدة إذا تدخلت قوات أمريكية في القتال.
علاوة على ذلك، نظرًا لتصميم كل فريق على تحقيق أهدافه، هناك فرصة ضئيلة لحساب حلول ذات مغزى. ما يسيطر الآن على تفكير واشنطن وموسكو يعطي كل طرف سببًا أكبر للفوز في ساحة المعركة حتى يتمكن من إملاء شروط السلام النهائية. في الواقع، لا يوجد حل دبلوماسي محتمل حتى يكون هناك حافز إضافي لكلا الجانبين لتسلق سلم التصعيد، ما يكمن قبل السلام يمكن أن يكون شيئًا كارثيًا حقًا: مستوى من الموت والدمار يتجاوز الحرب العالمية الثانية.
في البداية، دعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها أوكرانيا لمنع نصر روسي وللمساعدة في التفاوض على حل إيجابي للقتال. ولكن، بمجرد أن بدأ الجيش الأوكراني في ضرب القوات الروسية -خاصة حول كييف- غيرت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن مسارها، والتزمت بمساعدة أوكرانيا على الفوز في الحرب ضد روسيا.
أيضا، سعت واشنطن إلى إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد الروسي من خلال فرض عقوبات غير مسبوقة. كما أوضح وزير الدفاع لويد أوستن أهداف الولايات المتحدة في إبريل/ نيسان: “نريد أن نرى روسيا تضعف إلى درجة أنها لا تستطيع القيام بما فعلت أثناء غزو أوكرانيا”.
يؤكد مارشمير “في الواقع، أعلنت الولايات المتحدة عزمها إخراج روسيا من صفوف القوى العظمى”.
الفوز بأي ثمن
ربطت الولايات المتحدة سمعتها بنتيجة الصراع. حيث وصف الرئيس الأمريكي حرب روسيا في أوكرانيا بأنها “إبادة جماعية”. واتهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه “مجرم حرب. ويجب أن يواجه محاكمة جرائم حرب”.
يشير أستاذ العلاقات الدولية إلى أن “مثل هذه التصريحات الرئاسية تجعل من الصعب تخيل تراجع واشنطن. إذا انتصرت روسيا في أوكرانيا، فإن مكانة الولايات المتحدة في العالم ستتعرض لضربة قوية”.
أيضا، اتسعت الطموحات الروسية، على عكس ما هو سائد في الغرب لم يكن غزو موسكو لأوكرانيا لجعلها جزءًا من روسيا الكبرى فقط. بل، كانت مهتمة بشكل أساسي بمنع أوكرانيا من أن تصبح “حصنًا غربيًا على الحدود الروسية”، وفق تعبير مارشمير.
كان بوتين ومستشاروه قلقين بشكل خاص بشأن انضمام أوكرانيا في نهاية المطاف إلى الناتو، والتهديد الذي سيشكله هذا. حيث أوضح وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف هذه النقطة بإيجاز في منتصف شهر يناير/ كانون الثاني. حيث أوضح في مؤتمر صحفي أن “مفتاح كل شيء هو ضمان عدم توسع الناتو شرقًا”.
بالنسبة للقادة الروس، فإن احتمال العضوية الأوكرانية في الناتو -كما قال بوتين نفسه قبل الغزو- هو “تهديد مباشر للأمن الروسي” – وهو “احتمال لا يمكن القضاء عليه إلا من خلال خوض الحرب، وتحويل أوكرانيا إلى دولة محايدة”.
يؤكد مارشمير أن أهداف روسيا الإقليمية قد توسعت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب. يقول: كانت روسيا ملتزمة بتنفيذ اتفاقية مينسك الثانية، والتي كانت ستبقي دونباس جزءًا من أوكرانيا. ومع ذلك، على مدار الحرب، استولت روسيا على مساحات شاسعة من الأراضي في شرق وجنوب أوكرانيا. وهناك أدلة متزايدة على أن بوتين يعتزم الآن ضم كل أو معظم تلك الأراضي، الأمر الذي من شأنه أن يحول -فعليًا- ما تبقى من أوكرانيا إلى حالة مختلة.
اقرأ أيضا: ألمانيا تتلكأ في تنفيذ وعودها بتسليح أوكرانيا.. أي دور لروسيا؟
موسكو لا تستطيع تحمل الخسارة
حاليا، يبدو التهديد لروسيا اليوم أكبر مما كان عليه قبل الحرب. يرجع ذلك أساسًا إلى أن إدارة بايدن مصممة على دحر المكاسب الإقليمية لموسكو وإعاقة القوة الروسية بشكل دائم. ومما زاد الطين بلة بالنسبة لموسكو انضمام كلا من فنلندا والسويد إلى الناتو، رغم أن أوكرانيا أفضل تسليحًا وتحالفًا أوثق مع الغرب.
يلفت مارشمير إلى أن موسكو لا تستطيع تحمل الخسارة في أوكرانيا، وستستخدم كل الوسائل المتاحة لتجنب الهزيمة. يرى أن “بوتين يبدو واثقًا من أن روسيا ستنتصر في نهاية المطاف على أوكرانيا وداعميها الغربيين”. استمد رؤيته من حديث بوتين في أوائل يوليو/ تموز عندما قال “نسمع اليوم أنهم يريدون هزيمتنا في ساحة المعركة. ماذا تستطيع ان تقول؟ دعهم يحاولون. سيتم تحقيق أهداف العملية العسكرية الخاصة. لا شك في ذلك “.
أوكرانيا، من جانبها، لها نفس أهداف إدارة بايدن. الأوكرانيون عازمون على استعادة الأراضي التي فقدوها لروسيا -بما في ذلك شبه جزيرة القرم- ومن المؤكد أن روسيا الأضعف ستكون أقل تهديدًا لأوكرانيا. علاوة على ذلك، فهم واثقون من قدرتهم على الفوز، كما أوضح وزير الدفاع الأوكراني أوليكسي ريزنيكوف في منتصف يوليو/ تموز. عندما قال “يمكن بالتأكيد هزيمة روسيا، وقد أظهرت أوكرانيا بالفعل كيف”.
أيضا، يبدو أن نظير وزير الدفاع الروسي، أي وزير الدفاع الأمريكي يوافق على ذلك. حيث قال وزير الدفاع الأمريكي في خطاب ألقاه في أواخر يوليو/ تموز: “مساعدتنا تحدث فرقًا حقيقيًا على الأرض. تعتقد روسيا أن بإمكانها الصمود أكثر من أوكرانيا وأن تصمد أمامنا. لكن هذا مجرد أحدث حلقة في سلسلة حسابات روسيا الخاطئة”.
تصعيد تهديدات الناتو
تحاول كل من العواصم الثلاث، كييف، وواشنطن وموسكو، بشدة. الفوز في الحرب على حساب الأعداء، مما جعل التسوية والحلول السلمية بعيدة المنال. فلا أوكرانيا ولا الولايات المتحدة -على سبيل المثال- ستقبلان هذا الحل بسهولة.
يقول مارشمير: رغم أنه يبدو اليوم أن كييف محايدة، إلا أنها -في الواقع- أصبحت أكثر ارتباطًا بالغرب، وهذا يتزايد يومًا بعد يوم. علاوة على ذلكـ فإنه من غير المحتمل أن تعيد روسيا جميع الأراضي التي أخذتها من أوكرانيا، أو حتى معظمها. خاصة وأن العداوات التي غذت الصراع في دونباس، بين الانفصاليين الموالين لروسيا والحكومة الأوكرانية، على مدى السنوات الثماني الماضية، أصبحت أكثر حدة من أي وقت مضى.
تفسر هذه المصالح المتضاربة سبب اعتقاد العديد من المراقبين أن التسوية التفاوضية لن تحدث في أي وقت قريب. وبالتالي، توقع مأزق دموي “هم على حق في ذلك. لكن المراقبين يقللون من شأن احتمالية حدوث تصعيد كارثي ناتج عن حرب طويلة الأمد في أوكرانيا”، حسب مارشمير.
يؤكد عالم السياسة الأمريكي أن هناك ثلاثة طرق أساسية للتصعيد متأصلة في سير الحرب: تصعيد أحد الطرفين أو كلاهما عمداً لتحقيق النصر، أو تصعيد أحد الطرفين أو كلاهما عمداً لمنع الهزيمة، أو تصاعد القتال ليس عن طريق الاختيار المتعمد ولكن عن غير قصد. يحمل كل مسار إمكانية جلب الولايات المتحدة إلى القتال أو دفع روسيا إلى استخدام الأسلحة النووية، وربما كليهما.
سيناريوهات دخول أمريكا المعركة
يضع مارشمير سيناريو أكثر احتمالا للتدخل الأمريكي سيحدث إذا بدأ الجيش الأوكراني في الانهيار. يقول: يبدو أن روسيا ستحقق انتصارًا كبيرًا. في هذه الحالة، نظرًا لالتزام إدارة بايدن العميق بمنع هذه النتيجة، يمكن للولايات المتحدة أن تحاول قلب المائدة من خلال الانخراط مباشرة في القتال.
وأضاف: يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة أن المسؤولين الأمريكيين يعتقدون أن مصداقية بلادهم كانت على المحك. ويقنعون أنفسهم بأن الاستخدام المحدود للقوة، من شأنه أن ينقذ أوكرانيا دون حث بوتين على استخدام الأسلحة النووية.
بدلاً من ذلك، قد تشن أوكرانيا اليائسة هجمات واسعة النطاق ضد البلدات والمدن الروسية. على أمل أن يؤدي هذا التصعيد إلى رد روسي هائل، من شأنه أن يجبر الولايات المتحدة أخيرًا على الانضمام إلى القتال.
السيناريو الأخير للتدخل الأمريكي يستلزم تصعيدًا غير مقصود: دون الرغبة في ذلك، تنجذب واشنطن إلى الحرب من خلال حدث غير متوقع يتصاعد بشكل حلزوني. ربما تصطدم الطائرات المقاتلة الأمريكية والروسية -التي كانت على اتصال وثيق فوق بحر البلطيق- عن طريق الخطأ.
وأكد: يمكن أن تتصاعد مثل هذه الحادثة بسهولة، نظرًا لارتفاع مستويات الخوف لدى الجانبين، ونقص التواصل، والشيطنة المتبادلة.