تُعد أزمة أُسرة الرعاية المركزة بالمستشفيات أحد انعكاسات تدني المخصصات المالية الموجهة لقطاع الصحة في الموازنة العامة لدولة. والبالغة 3% من الناتج القومي. وهي نسبة ثابتة رغم زيادة عدد السكان 1.6 مليون نسمة سنويا.
ويعصف نقص أسرّة الرعاية المركزة بحياة آلاف من مرضى الحالات الحرجة والجلطات والحوادث. ما يؤدي لوفاة 50% منهم. كما يأتى نقص الأطباء والتمريض المتخصص فى عمل الرعاية المركزة على رأس أسباب الأزمة.
وكشفت جائحة كورونا خلال العامين الماضيين ثقل الأزمة. حيث وصل سعر سرير الرعاية المركزة في اليوم الواحد ببعض المستشفيات الخاصة إلى 50 ألف جنيه. وذلك خلال الموجتين الأولى والثانية للفيروس. بحسب المهندس أحمد شريف -صاحب شركة سياحة- لــ”مصر 360″: “أخويا الأكبر محمد أصيب بفيروس كورونا. وتدهور تنفسه. وبعد لفة طويلة على المستشفيات الخاصة مالقيناش سرير رعاية فاضي. فلجأنا لمستشفى دولى بكورنيش المعادي. واشترطوا علينا ندفع 50 ألف جنيه في اليوم”.
مرضى الدرجة الثالثة
أما مرضى الدرجة الثانية والثالثة من محدودي الدخل والبسطاء والخاضعين للتأمين الصحي من غير القادرين على تحمل أسعار المستشفيات الخاصة فيخوضون تجارب قاسية للحصول على سرير في حجرة الرعاية المركزة في المستشفيات التابعة لوزارة الصحة أو المستشفيات التعليمية.
ينتظر أهالى المرضى أياما على سلالم المستشفيات الحكومية أمام أقسام الرعاية لإخلاء سرير. و قد تؤدي رحلة الانتظار بالنهاية إلى العصف بحياة المريض قبل الحصول على حلم هذا السرير.
وقد لجأت وزارة الصحة لرسم خريطة مركزية بعدد أسرة الرعاية المركزة بقطاع القاهرة الكبرى. وخصصت الخط الساخن (137) لبيان عدد الأسرة الشاغرة بالمواقع المختلفة. لإنهاء حالة النزاع داخل المستشفيات الحكومية و”الوسايط”. فضلا عن توجيه المريض للحصول على سرير رعاية بالأماكن المتاحة بأسرع وقت.
لكن تبدأ رحلة المعاناة مع الخط الساخن بعد محاولات تمتد أربع ساعات اتصال أحيانا. حتى يتم الرد. ثم تسجيل بيانات المريض بالرقم القومي. ولا يتم قبول الحالة على قائمة الانتظار إلا عبر طبيب مباشر للحالة يقوم بوصفها ودرجة الرعاية التي يحتاج إليها.
وقد تمتد عملية الانتظار لحين توفير سرير رعاية لأيام. ما يقضي على فرص المريض للبقاء حيا. خاصة مصابي السكتة الدماغية والقلبية والجلطات.
قصص من الواقع
داليا محمود الجزيري مواطنة تقول إنها فشلت في العثور على سرير لوالدتها بالمستشفيات الحكومية أو الخاصة على أثر إصابتها بجلطة فى القلب. فتوفيت بعد 24 ساعة. وبعدها بعامين توفي شقيقها أحمد للسبب ذاته بعد تعرضه لجلطة في المخ وتأخر في دخول الرعاية لمدة 18 ساعة. ما سبب اتساع الجلطة وصعوبة السيطرة علها.
“داليا” عاشت برفقة زوجها وابنتها نادين لمدة 12 عاما بإيطاليا. ولم تستجب لرأي الزوج في استمرار عيشهم هناك. وأصرت على الرجوع إلى مصر لتربية ابنتها على العادات والتقاليد المصرية. الآن تلوم نفسها كل يوم بعد مرور خمس سنوات على العودة: “ندمانة أشد الندم اني ما سمعتش كلام جوزي. كان نفسي أرجع أعيش جنب أمي وعائلتي. لكن وقفت أتفرج على عجزي وأمي وأخويا بيموتوا قدامي عشان مفيش سرير يتعالجوا عليه حتى بالفلوس. بلد كاملة مفهاش سرير لا مجاني ولا بفلوس”.
سرير لكل 1000
يشير الدكتور محمد حسن خليل -منسق لجنة الحق في الصحة- إلى أن عدد أسرّة الرعاية المركزة في مصر أقل من ثلث الحد الأدنى عالميا. ففي مصر يوجد سرير واحد لكل 1000 مواطن. بينما فى دول أخرى مثل الهند تصل النسبة تصل إلى 5 أسرّة لكل 1000 مواطن. بينما في الدول المتقدمة مثل السويد هناك 12 سريرا لكل 1000 مواطن.
وقال “خليل” لـ”مصر 360″: “توزيع مرضى الرعاية عن طريق الخط الساخن كشف ادعاءات وزارة الصحة بأن الأزمة ناتجة عن سوء التوزيع. بينما في الحقيقة أن طب الطوارئ والحالات الحرجة والتخدير والقلب والرعاية به عجز أكثر من 50% في أسرة الرعاية المركزة”.
وأوضح الدكتور خالد سمير -أستاذ جراحة القلب بجامعة عين شمس ورئيس لجنة التحقيق بنقابة الأطباء سابقا- أن القدرة الاستيعابية لأسرة الرعاية المركزة فى مصر أقل بكثير كنسبة من عدد السكان. فمصر تزيد كل عام فوق مليون نسمة. فى حين أن حجم الخدمات ثابت ولا ننشئ مستشفيات جديدة. وليس لدينا الإمكانات المادية للتجاوب مع الزيادة السكانية. حيث نحتاج على الأقل أن يكون لدينا 100 ألف سرير بالنسبة لعدد السكان البالغ 100مليون نسمة. بينما الواقع الفعلي لعدد الأسرّة في مصر لا يتجاوز 12 ألف سرير بالقطاعين العام والخاص.
مقارنة مرعبة بالنسبة العالمية
وبالمقارنة بالنسب العالمية المعتمدة -9.3 سرير لكل ألف نسمة- فإن أسرة العناية المركزة الحالية في مصر سرير واحد لكل 16 ألف نسمة. والمعدل العالمي السائد بالتقدير الكلي سرير واحد لكل 7 آلاف.
وترفض وزارة الصحة تسعير أدوية الرعاية المركزة المستوردة غالية الثمن حتى لا تكون مسئولة عن توفيرها حسب تأكيدات “سمير”.
ووفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في 2017 فإن توفير احتياجات أسرة العناية المركزة يتطلب إضافة 50 ألف سرير بتكلفة 2 مليون دولار.
من رعاية إلى أخرى
“ألو حصلينى بسرعة على المستشفى. ماما وقعت على الأرض وبتنزف وبترجع دم”. بتأثر شديد تروي بسمة حسن ما جرى لوالدتها: “جريت على مستشفى أحمد ماهر التعليمي ودخلت الطوارئ. قالوا دخلت تعمل أشعة مقطعية. الأطباء أكدوا أن المخ سليم ومفيش كسور والنزف ناتج من اصطدامها بالأرض بقوة عند السقوط. انتظرنا من الساعة 3 العصر لحد 9 مساء -حسب توصيف الحالة أنها مجرد كدمات وهتكون كويسة- لكن لاحظنا بمرور الوقت أن نصفها الشمال لا يتحرك.
باستدعاء طبيب مخ وأعصاب وبعد إجراء الكشف تبين أنها مصابة بجلطة في المخ. وطلب الطبيب البحث فورا عن سرير رعاية “بره” لأن مستشفى أحمد ماهر “لا يوجد به رعاية مخ وأعصاب”.
بدأت “بسمة” رحلة العذاب: “فضلنا نلف بالست فى الإسعاف على كل المستشفيات الخاص والعام. الإجابة واحدة. مفيش أماكن رعاية. وجبنا واسطة عشان ندخل المستشفى الجوي بالتجمع الخامس وبرضه قالوا مفيش سرير فاضي. في نفس الوقت كنا نتواصل أيضا مع الخط الساخن التابع لوزارة الصحة. رد الساعة 12 بالليل. ووفروا أخيرا سرير رعاية في مستشفى النزهة بمصر الجديدة. أخدنا الحالة في الإسعاف. لكن الطبيب مسئول الرعاية رفض الحالة. وقال إن المريضة حسب التقرير هتحتاج جهاز بعد يومين من الآن. حالات الجلطات في المخ بيبقى عندها اضطراب في الوعي أول يومين لكن بتفقده تماما بعد ثلاث أيام وبتحتاج أجهزة تشغل أعضاء الجسم والقلب علشان تضخ الأدوية”.
تستكمل بسمة: “لقينا سرير رعاية في مستشفى متخصص رعاية بمنطقة عابدين. لكن تاني يوم اكتشفنا أنهم بيشيلوا المريضة من على الأجهزة عشان تعمل أشعة في مستشفى تاني متعاقد معاه. ودا كان هيحصل كل يوم تقريبا. رجعنا ندور على سرير مناسب لحالتها بعد عصر اليوم الثاني. وبواسطة جبنا سرير رعاية في مستشفى خاص بالمهندسين. لكن كانت الجلطة عدى عليها وقت طويل وأخدت فص كامل من المخ وبدأت تمتد للفص الثاني والطبيب قال إن الحالة صعبة جدا. وأن الست دي لو عاشت ودا احتمال ضعيف جدا هتكون عاجزة تماما حتى عن تناول الطعام وهنضطر لتركيب جهاز نوصلها الأكل من خلاله. لكن ربنا كان أرحم بها وماتت أمي في اليوم الرابع من الجلطة”.
نقص التمريض والأطباء
في الدول النامية الموازية لنا فان معدل التمريض يصل إلى 5 ممرضات لكل 1000 مواطن. وفي الدول المتقدمة يصل إلى 9 ممرضات. بينما في مصر ممرضة لكل 1000 مواطن. ويتناقص العدد في التخصصات الحرجة مثل الرعاية المركزة.
ويرى “خليل” أن مشكلات الرعاية المركزة جزء من انهيار الهيكل الطبي في مصر. ولا يمكن حلها إلا بحل جميع أجزاء مشكلات قطاع الصحة.
بينما أكد الدكتور سمير أن نقص الأطباء والتمريض بأقسام الرعاية المركزة فوضى في إدارة النظام الصحي وعدم تقدير الدولة لمن لديهم علم بطب الرعاية والطوارئ. ما دفعهم إلى هجرة التخصص أو السفر للعمل بالخارج. بينما الدول الأخرى تعامل أطباء الرعاية بضعف مرتباتهم.
ووفقا لـ”سمير” فإن كل 4 أسرّة رعاية تحتاج إلى ممرضتين بالمتوسط وطبيب لكل 10 أسرّة. فالمستشفيات تحتاج إلى 160 ألف ممرضة رعاية لتشغيل الأسرة المتوقفة. والتي تعمل حاليا بأقل من 4 آلاف ممرضة. فهذا العدد من التمريض يعمل على نحو 10 آلاف سرير. خاصة أن التمريض أهم من الطبيب في مجال الرعاية المركزة.
تعطل ربع أسرّة الرعاية المركزة الحالية
يشير الدكتور محمد عز العرب -المستشار الطبي لمركز الحق في الدواء- إلى تعطل ربع الأسرة الموجودة حاليا رغم ندرتها بالمستشفيات الحكومية. وذلك بسبب نقص الأطباء والتمريض المتخصص عن المعدل المطلوب. ورغم وجود محاولات لزيادة الأسرة ورفع كفاءة الموجود لا تزال تحتاج إلى مزيد من التطوير. فما زال مريض الرعاية يدخل عن طريق خدمة “137” التي تتأخر بشكل كبير في توفير مكان حتى تسوء حالته.
وقال لـ”مصر 360″: “هيكل الخدمات الطبية في الدولة يعتمد على القطاع الخاص في الرعاية المركزة بسبب نقص الأسرة”.
وطالب بزيادة عدد أسرّة الطوارئ وتسعير خدمات الرعاية المركزة بالمستشفيات الخاصة بما يقابل أجرة التشغيل الفعلية وتحديد هامش ربح معقول. حيث تصل الرعاية فى الخاص من 10 آلاف إلى 20 ألفا في اليوم الواحد حسب الحالة.
ضعف موازنة وزارة الصحة
أما الدكتور محمود فؤاد -رئيس المركز المصري للحق في الدواء- فرد أزمة الرعاية المركزة إلى ضعف الميزانية المخصصة للصحة بالموازنة العامة للدولة. رغم أن مصر في 2008 وقعت على اتفاقية في نيجيريا لزيادة الميزانيات الخاصة بالصحة. لكن حتى الآن لم يتم زيادتها بما يتناسب مع عدد السكان وتحقيق خدمة معقولة.
وقال لـ”مصر 360″ إن ضعف المخصصات المالية بالصحة أنتج مشكلات كبيرة جدا في القطاع. على رأسها أزمة أسرة الرعاية المركزة.
وأكد أننا نحتاج إلى مبادرة رئاسية لتوفير أسرة رعاية لإنقاذ حياة العشرات ممن يفقدون حياتهم يوميا. مبينا أن خدمة الخط الساخن لا تفي إلا بنسبة 10% فقط من إجمالي البلاغات الواردة إليه يوميا. والبالغة من 300 إلى 350 حالة على مستوى القاهرة فقط. ما يعني أننا نحتاج في المتوسط 300 سرير رعاية يوميا في القاهرة وحدها. فماذا نفعل في حالات الحوادث والكوارث الطارئة. بينما المتاح حاليا حتى بالقطاع الخاص والعام لا يفي إلا بـ55% من المطلوب والباقي يذهب لمصير مجهول.
وأوضح أن رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي والدكتورة هالة السعيد -وزيرة التخطيط- اتفقا في 2021 على تخصيص 5 مليارات جنيه لدعم وتطوير حضانات الأطفال والرعاية المركزة. لكن مع تخفيض الميزانية لم ينفذ الاتفاق.