يبدو الخطاب الديني السائد في حالة من العجز الشديد عن مواكبة المبادئ الأساسية للدولة الحديثة، وفي مقدمتها مبدأ المواطنة، حيث لا يتميز أحد على أحد بسبب الدين أو العرق أو النوع.. لكن الغلو والتطرف تجاوز تلك المسائل التي ينظمها الدستور، وانتقل إلى مواقف عقائدية، لا تكتفي باعتقاد أن غير المسلم “كافر”، بل ترى ضرورة إعلان هذا الاعتقاد، واستخدام هذا الوصف.. هذا سلوك يفاقم –ولا ريب- حالة الاحتقان الطائفي، ويمنع من كل أشكال التعايش الحقيقي.
اقرأ أيضًا.. التدين المصري.. معارك لا تنتهي
ويستند هذا الموقف إلى بعض النصوص من القرآن والسنة، ويحتمي بمجموعة من الأقوال التراثية، التي فهمت تلك النصوص فهما يسير في طريق واحد لا يعرف احتمالا ولا تأويلا، لتصبح المسالة وكأنها من المسلمات الأساسية والضرورات الدينية التي توارثها المسلمون، وشاعت واستقرت دون جدال، إلى أن جاء هذا العصر “عصر الرويبضة”، حيث يجادل الناس في قواعد الدين ومسلماته، ضمن حرب على الإسلام، تستهدف مسح شخصيته ومحو أحكامه وهويته.
ولأن أصحاب هذه المواقف يهيمنون على “الساحة الدعوية الإليكترونية”، ولأن طرحهم يأخذ دائما شكل الدفاع عن الدين، بالجدل والمناظرات، والردود المسكتة، والأجوبة المفحمة، فقد استطاعوا إقناع قطاعات واسعة من الشباب بهذا الفكر، الذي يهدم مفهوم الدولة الحديثة، ويقوض قيم التعايش، فلا أحد يستطيع أن يعيش بين أغلبية تصفه بـ”الكفر” صباحا ومساء.
لا يحتاج الباحث جهدا كبيرا، حتى يدرك أن المسألة أوسع وأيسر من المعروض في “السوق الدعوي”.. فمثلا، يُعتبر الشيخ محمود شلتوت امتدادا أصيلا لمدرسة الأستاذ الإمام محمد عبده.. ومن أشهر مؤلفاته كتاب “الإسلام عقيدة وشريعة”، وهو من أفضل ما كتب في التعريف العام بدين الإسلام، بصورة مشرقة لا تتورط في تقريرات الفقهاء ذات الطبيعة التاريخية.. ومن هذا الكتاب نقرأ تلك الفقرات التي يتكلم فيها الشيخ عن معنى “الكفر” ومن يستحق الوصف بـ”الكافر”، ومدى انطباق هذه الكلمة على غير المسلمين.. يقول الأستاذ الأكبر:
من لم يؤمن بوجود الله، أو لم يؤمن بوحدانيته، أو لم يؤمن بأن لله رسالات إلى خلقه، أو لم يؤمن بالكتب والرسل، أو آمن ببعضهم وكفر ببعض، أو لم يؤمن بأن الحياة الدنيا تفنى، ويعقبها دار أخرى للحساب والجزاء، أو لم يؤمن بأن أصول الشرع فيما أوجب وحرم هي دينه الذي يجب أن يتبع… من لم يؤمن بجانب من هذا الجوانب لا يكون مسلما ولا تجري عليه أحكام المسلمين فيما بينهم وبين الله، ولا فيما بينهم وبين بعضهم… وليس معنى هذا أن من لم يؤمن بشيء من ذلك يكون كافرا عند الله يخلد في النار، وإنما معناه أنه لا تجري عليه في الدنيا أحكام الإسلام، فلا يُطالب بما فرضه الله على المسلمين، ولا يُمنع مما حرمه الإسلام كشرب الخمر وأكل الخنزير.
ويواصل الشيخ شلتوت: “أما الحكم بكفره عند الله فهو متوقف على أن يكون إنكاره لتلك العقائد أو لشيء منها بعد أن بلغته على وجهها الصحيح، واقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، لكنها أبى أن يعتنقها عنادا واستكبارا… فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغته بصورة منفرة، أو بلغته بصورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر لكن لم يوفق إليها، وظل ينظر ويفكر طلبا للحق، حتى أدركه الموت أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود في النار عند الله”.
ويضيف: “الشعوب النائية التي لم تصل إليها عقيدة الإسلام، أو وصلت إليها بصورة سيئة منفرة، أو لم يفقهوا حجتها مع اجتهادهم في بحثها، بمنجاة من العقاب الأخروي للكافرين، ولا يُطلق عليهم اسم الكفر.. والشرك الذي جاء في القرآن أن الله لا يغفره هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار”.
“الفهم الإنساني لنصوص الإسلام ليس دينا يلتزم.. فقد التصقت بالقرآن بعد وفاة الرسول أفهام العلماء والأئمة.. ومن هذا الجانب اتسع ميدان الفكر الإنساني، وكثرت الآراء والمذاهب، لا على أنها دين يُلتزم، وإنما باعتبارها آراء فردية… وعقائد الإسلام الأصلية كالإيمان بالله واليوم الآخر، وأصول الشريعة كوجوب الصلاة والزكاة وحرمة النفس… جاءت نصوصها في القرآن واضحة لا تحتمل اجتهادا ولا أفهاما”.
ومن قبل شلتوت بعقود، قدم الشيخ محمد رشيد رضا موقفا متقدما بشأن الوصف بالكفر، فكتب في مجلة المنار يقول: وأما لفظ (الكفر): فلا نطلقه على المخالفين لنا في الدين من أصحاب الملل الأخرى؛ لأنهم ليسوا كفارًا بهذا المعنى، بل نقول بعدم جواز إطلاقه عليهم شرعًا، لأنه صار في هذه الأيام من أقبح الشتائم وأجرح سهام الامتهان، وذلك مما تحظره علينا الشريعة باتفاق علماء الإسلام، ولا يصدنك عن قبول هذا القول إطلاق ما ذكر في العصر الأول للملة على كل مخالف، فإنه لم يكن في زمن التشريع يرمى به لهذا الغرض، بل كان من ألطف الألفاظ التي تدل على المخالف من غير ملاحظة غميزة ولا إزراء، فضلاً عن إرادة الشتم والإيذاء المخالفة لمقاصد الدين وآدابه”.
ويضيف الشيخ رشيد: وحيث قد اختلفت الحال وتغير الاستعمال فلا ينبغي إطلاق اسم الكفر على صاحب دين يؤمن بالله (ولا نغير كتب الفقه أو نعترض عليها) … ورُبَّ متحمس يرميني بالافتئات على الفقهاء أو مصانعة النصارى أو الميل، مع ريح السياسة عن جادة الشرع، فأقول: على رسلك أيها المتحمس؛ فإن أذية الأجنبي المعاهد على ترك الحرب محرمة، فما بالك بالوطني (أي من المخالفين لنا في الدين).
وإن كان لا يقنعك إلا النص الصريح من كتب الفقه على هذه المسألة بخصوصها فإليك هذين النصين؛ أحدهما عام، والآخر خاص بلفظ الكفر.. جاء في (معين الأحكام) ما نصه: (إذا شتم الذمي يعزر؛ لأنه ارتكب معصية، وفيه نقلاً عن الغنية ولو قال للذمي: يا كافر يأثم إن شق عليه).
“ولعل وجدانك لا يسمح لك بأن تقول الآن: إنه لا يشق عليه، وهو سب صريح، وإذا ثبت أنه لا يجوز نداؤه بهذا اللقب في وجهه؛ لأنه يستاء منه فلا شك أن إطلاقه عليه في غيبته غير جائز أيضًا؛ لأن غيبته محرمة، فينتج أن ذلك إثم في كل حال”.
وهكذا، يتجاوز رشيد رضا بالمسألة ترك الوصف بالكفر، إلى تحريم إطلاق هذا الوصف، ليقترب كثيرا من رؤية أستاذه، الإمام محمد عبده، الذي رفض التفسير الشائع المتوارث لـ”المغضوب عليهم والضالين”.. كما قدم وقفة مشرقة مع قوله تعالى: “ومن يبتغ غير الإسلام دينا فبن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين”.. هذه أقول واختيارات لثلاثة من أعلام علماء الأمة الإسلامية.. يقدمون “التأصيل الشرعي” ويمهدون الطريق أمام تبني موقف متقدم من الآخر الديني، وهو شرط لا يمكن التنازل عنه في دولة العدل والمواطنة.