بعد عدة سنوات من “دبلوماسية رعاة البقر”، التي قادها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، والتي بدت خلالها واشنطن غير مهتمة بأفريقيا، خاصة جنوب الصحراء. خرج وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في جولة شملت جنوب أفريقيا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية، ورواندا. والتي أعلن فيها عن استراتيجية جديدة لبلاده بشأن أفريقيا جنوب الصحراء، والتي تنظر هذه المرة إلى الدول الأفريقية باعتبارها “شريكا” وليس “تابعا”.
يلفت تحليل نشره ISS Today حول جولة زيارات وزير الخارجية الأمريكي بلينكن إلى أفريقيا أنه يرتبط بتكثيف القوى العظمى نشاطها، في إطار المنافسة الجيوسياسية و الاقتصادية. وتعالج خلالها السياسة الخارجية الأمريكية آثار مخلفات السياسة الانعزالية التي تسببت فيها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب. والتي تفاقمت بفعل الفوضى العامة لتلك الإدارة وإضعاف المؤسسات متعددة الأطراف.
كذلك، أدى اكتناز لقاحات جائحة كوفيد 19، ونهج الغرب في التعامل مع الصراع في أوكرانيا. إلى تقويض موقف واشنطن العديد من الدول الأفريقية.
اقرأ أيضا: كيف يمكن لأمريكا أن تبني طفرة أفريقية؟
إعادة صياغة شاملة
في 8 أغسطس/آب، كشفت الولايات المتحدة عن إعادة صياغة شاملة لسياستها في أفريقيا جنوب الصحراء. حيث تعتزم مواجهة الوجود الروسي والصيني، وتطوير أساليب غير عسكرية ضد الإرهاب. مع الأخذ في الاعتبار الأهمية السكانية المتزايدة للقارة السمراء، وثقلها في الأمم المتحدة. بالإضافة إلى مواردها الطبيعية الهائلة وفرصها. في وقت أشار فيه محللون إلى أن تركيز الولايات المتحدة على محاربة الجماعات المتطرفة في إفريقيا عسكرياً لم يحصد نتائج كبيرة.
الوثيقة، التي تحمل عنوان “استراتيجية الولايات المتحدة تجاه أفريقيا جنوب الصحراء”. تعرض بالتفصيل أربعة أهداف تمتد لخمس سنوات. هي “دعم المجتمعات المفتوحة، وتقديم مكاسب ديمقراطية وأمنية، والعمل على الانتعاش بعد الجائحة، وإتاحة الفرص الاقتصادية، ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه، والتحول المنصف للطاقة”.
وتؤكد الاستراتيجية الجديدة أن “للولايات المتحدة مصلحة كبيرة في ضمان إبقاء المنطقة مفتوحة ومتاحة للجميع، وأن الحكومات والشعوب يمكنها بنفسها اتخاذ خياراتها السياسية “. وكذلك أكدت أن “مجتمعات مفتوحة تميل -عمومًا- إلى العمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة. وجذب المزيد من التبادلات التجارية والاستثمارات الأمريكية. ومواجهة الأنشطة الضارة لجمهورية الصين الشعبية وروسيا، والجهات الأجنبية الأخرى”.
وتشير الوثيقة إلى ادعاءات البيت الأبيض ضد بكين وموسكو في القارة. حيث ترى واشنطن أن بكين “تتصرف فيها وكأنها ساحة لتحدي النظام الدولي القائم على القواعد. ولتعزيز مصالحها التجارية والجيوسياسية الخالصة. ولإضعاف علاقات الولايات المتحدة مع الشعوب والحكومات الأفريقية”.
أما بالنسبة لروسيا، فهي “ترى أن المنطقة تمثل بيئة مستباحة للشركات شبه الحكومية والعسكرية الخاصة. وغالبًا ما تخلق حالة من عدم الاستقرار، لكسب مزايا استراتيجية ومالية”. إضافة إلى استخدام “المعلومات المضللة”.
وتقترح الوثيقة “بذل جهود متزايدة، لوقف الموجة الأخيرة من الاستبداد والانقلابات العسكرية. من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء في المنطقة، للرد على التقهقر الديمقراطي، وعلى انتهاكات حقوق الإنسان”. وأضافت أن الولايات المتحدة ستستخدم قدراتها الأحادية -أي العسكرية- ضد أهداف إرهابية فقط “عندما يكون ذلك قانونيًا، وحيث يكون التهديد أكثر حدة”.
رحلة في فلك حرب باردة جديدة
يقول روناك جوبال داس، مستشار معهد الدراسات الأمنية ISS: إن الرسائل الصريحة والبناءة لوزير الخارجية الأمريكية، تشير إلى إعادة تقويم طال انتظارها في العلاقات الأمريكية- الأفريقية”. ذهب بلينكن إلى افريقيا جنوب الصحراء في أعقاب زيارة وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إلى القارة، والتى سعى لافروف فيها بتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين موسكو والدول الأفريقية. ومعالجة بعض آثار الحرب الأوكرانية على دول أفريقية، ويوصف التحليل جولة وزير الخارجية الأمريكي بأنها “النص الفرعي للرحلة، الذي يدور حول حرب باردة جديدة، ودور أفريقيا وأهميتها في تلك المعادلة”.
لكن، وفق جوبال داس، واجه بلينكن فإن “العديد من التحديات الفورية”. والتي تمثلت في “مواجهة الاستياء المستمر تجاه الولايات المتحدة، واستعادة مصداقيتها المفقودة. والتحول في الموقف، وبناء علاقات مع بعض الحلفاء الأفارقة المهمين استراتيجيًا، ولكنهم “فاترين”
يوضح جوبالداس أن وزير الخارجي الأمريكي تجاوز الأمور البسيطة التي تميز عادةً مثل هذه الزيارات. يقول: في رواندا، لم يخجل بلينكن من الحديث في القضايا المثيرة للجدل لانتهاكات حقوق الإنسان. مثل محاكمة المنشق بول روسيساباجينا، الذي تم تجسيده في فيلم “فندق رواندا” 2004، والذي رشحت قصته لجائزة الأوسكار.
من دبلوماسية رعاة البقر للشراكة
أما في جنوب أفريقيا، فتطرق وزير العلاقات الدولية، ناليدي باندور، بجانب بلينكن إلى العديد من المسائل المثيرة للجدل. بما في ذلك وجهات نظر بريتوريا حول النفاق الأمريكي بشأن القيم الديمقراطية والأبوية، والصراع بين روسيا وأوكرانيا. يوضح التحليل أن المشاركات “أظهرت صدقًا منعشًا، نادرًا ما نراه في البيئات الدبلوماسية. كان هذا مهمًا لكسب الحلفاء التاريخيين الذين انتقدوا الولايات المتحدة مؤخرًا”.
ويضيف مع تزايد إحساس الدول الأفريقية بالوكالة في الشؤون العالمية وخيارات الشراكة. تدرك واشنطن تغيير نهجها تجاه أفريقيا، وبدلاً من إثارة الخوف التي ميزت “دبلوماسية رعاة البقر” لإدارة ترامب، استخدم وزير الخارجية لغة بناءة لمحاولة كسب الأفارقة فى صفه من خلال رسالة أكثر إيجابية، وفى السياق أشار بلينكن إلى قوة أفريقيا باعتبارها “قوة جيوسياسية”، وشدد على “شراكة بين أنداد”، وسلط الضوء على أهمية “الاختيار” بالنسبة للأفارقة، يوضح جوبال داس أنه “كان هناك أيضًا جهد متعمد لتجنب تأطير أفريقيا كملعب في معركة بالوكالة بين الولايات المتحدة والصين. نظرًا لأن رواية الحرب الباردة تثير غضب صانعي السياسة والدبلوماسيين الأفارقة. لذا، تم التركيز على تقديم رؤية تتوافق مع المصالح الأفريقية ووضع الولايات المتحدة على أنها “الشريك المفضل”.
اقرأ أيضا: ورقة “دام”| العنف في النيل الأزرق: مشهد مصغر لحرب أهلية
رؤية للمستقبل
في أعقاب خطاب بلينكن، غرّد مساعد وزير الخارجية الأمريكي السابق لأفريقيا، تيبور ناجي. “الأمر لا يتعلق بالصين أو روسيا أو حتى الولايات المتحدة. إنه يتعلق بأهداف أفريقيا، وخاصة الشباب. يجب أن تنظر سياسة الولايات المتحدة إلى القارة من خلال الزجاج الأمامي، وليس من خلال مرآة الرؤية الخلفية”. في إشارة إلى الاستراتيجية الأمريكية الجديدة لأفريقيا، والتي تهدف إلى وضع الولايات المتحدة كشريك مفضل. من خلال تقديم رؤية وقيم واضحة للمستقبل.
يقول البيت الأبيض إن الاستراتيجية الجديدة سترتكز على أربع ركائز: سيادة الدول الأفريقية واستقلالها، تعزيز الديمقراطية والدفاع عنها، تكيف أفريقيا مع أزمة المناخ، والانتعاش الاقتصادي بعد COVID-19. خلال حديثه في جامعة بريتوريا، قال بلينكن: “إنها استراتيجية تعكس تعقيد المنطقة وتنوعها. وتركز على ما سنفعله مع الدول والشعوب الأفريقية، وليس من أجل الدول والشعوب الأفريقية”.
تشير زينب عثمان، الباحثة في مؤسسة كارنيجي للسلام الدولي، إلى أن النهج الجديد الذي ظهر في استراتيجية أمريكا الأفريقية بشأن تغير المناخ “دقيق ومفصّل جيدًا، ويمكن أن يحفز موجة من التنمية والاستثمار في أفريقيا، وتسعى الاستراتيجية احتواء روسيا والصين، ومن منظور كلي- فإن الاستراتيجية تشير إلى تحول واضح مما يسميه جيوم دوان “الإهمال الخبيث” للإدارة السابقة، إلى المشاركة الفعلية.
تقول: جنبا إلى جنب مع منتدى الأعمال الأمريكي- الأفريقي الذي اختتم مؤخرا. والقمة الأمريكية- الأفريقية القادمة (الأولى منذ ما يقرب من عقد من الزمان)، فإن الاتجاه إيجابي على نطاق واسع.
يتقاطع ذلك مع رأى مستشار معهد الدراسات الأمنية بيتر فابريسيوس. والذي يرى أن بلينكن “حاول محى المذاق الحامض لسنوات ترامب. على الرغم من أن الأفارقة أدركوا بالفعل أن ترامب كان مجرد انحراف. لكن الفوز بالدول الأفريقية من الصراع مع الصين وروسيا سيكون مهما، حيث إن علاقات العديد من الدول الأفريقية مع تلك القوى متجذرة بعمق، تاريخيًا، وأيديولوجيًا، واقتصاديًا”.
شراكة يمكن تحملها
هكذا، جاءت زيارة كبير الدبلوماسية الأمريكية الثانية لجنوب الصحراء الأفريقية، استكمالا لأهداف الزيارة الأولى. التي قام بها نوفمبر/ كانون الثاني 2021. عندما أكد في كلمته التي ألقاها في السنغال أن واشنطن “تستثمر في أفريقيا دون فرض ديون لا يمكن تحملها”. في إشارة إلى المنافس الصيني الذي يغرق القارة بالديون. أو كما قال في العاصمة النيجيرية أبوجا: “عوملت دول أفريقيا مرارًا بوصفها شركاء صغارًا أو أسوأ، لا بوصفها شركاء متساوين. نريد أن نجعل شراكتكم معنا أقوى”.
لذلك، تُظهر الاستراتيجية الجديدة أن الولايات المتحدة أدركت أن سياسة “الانسحاب” التي اتبعها بايدن في أفغانستان. ليست الأفضل لتفادي النتائج الكارثية لدبلوماسية “رعاة البقر” التي ساقها ترامب طيلة أربع سنوات. والتي أدت لملء الفراغات الأمريكية في القارة السمراء بشركات روسية وقروض صينية.
أيضا، إعادة تصوير واشنطن باعتبارها “شريك مفضل” للدول الأفريقية، من خلال تقديم رؤية وقيم واضحة للمستقبل. لا تشمل فرض التعليمات، أو الإجبار على اتخاذ موقف معين تجاه شريك آخر لهذه الدول -مثل التي رفضت إدانة الغزو الروسي لأوكرانيا- قد يكون حلا مناسبا، بدلا من خيار “معنا ام ضدنا”. والذي أدى لغضب عدد من شركاء واشنطن في القارة، وميلهم نحو علاقات غير ملزمة مع روسيا أو الصين.