على الرغم من التقارير والتوقعات بإمكانية نشوب حرب نووية بين روسيا والولايات المتحدة، وعلى الرغم من التلويحات الروسية الضمنية بإمكانية استخدام أسلحة الدمار الشامل بشكل موضعي أو على نطاق واسع، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أن البدائل موجودة لدى الغرب على نحو مشابه لنفس البدائل قبل 60 عاما، وإن كانت هناك بعض التفاصيل المختلفة. فخلال أزمة الكاريبي والمواجهة الأمريكية- السوفيتية في كوبا عام 1962، انتهت الأمور إلى توافق بين موسكو وواشنطن، وتم تفادي نشوب حرب نووية. ولكن في الخلفية كانت خطة روبرت ماكنيمارا جاهزة للانطلاق نحو إسقاط الاتحاد السوفيتي خلال 30 عاما من دون إطلاق رصاصة واحدة. ويبدو أن هذه الخطة التي كانت تركز على تغيير أولويات الاتحاد السوفيتي لإضعافه وتبديد موارده كانت البديل الوحيد لحرب يمكن أن تنسف نحو 70٪ من سكان الكرة الأرضية.
أوهام انتشار النفوذ الروسي
بداية يمكن تحديد طبيعة ما يتم تداوله في وسائل الإعلام تحت عنوان “اتساع نفوذ روسيا في العالم”. إذ إن تناول هذا الموضوع في العديد من التحليلات ووسائل الإعلام يعكس البون الشاسع بين ما يجري طرحه من أرقام وإحصائيات وزيارات وتوقيع بروتوكولات وبين الواقع الفعلي والمردود العملي الذي يعتبر المؤشر الحقيقي على الأرض لاتساع هذا النفوذ. فكل حجم التبادل التجاري بين روسيا وقارة أفريقيا بالكامل لا يتجاوز الـ 20 مليار دولار، غالبيتها ثمن توريدات أسلحة روسية. أما البروتوكولات الموقعة بين روسيا وأثيوبيا والسودان ونيجيريا وأنجولا ومالي وغينيا الاستوائية وبوركينا فاسو والعديد من الدول الأفريقية الأخرى، فهي إما مجمدة، كما في الحالة السودانية، أو غير مفعلة كما في أثيوبيا. وبالتالي، فالحديث عنها نظريا يشبه شراء الأسماك في الماء، أو يشبه التوقعات الافتراضية التي تؤسس لحالات وصور ذهنية من أجل الحملات الدعائية. هذا الأمر ينطبق على حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين (140 مليار دولار) وبين الأولى وتركيا (14 مليار دولار). كما أن حجم التبادل التجاري بين روسيا وجميع دول الخليج العربي، عدا السعودية، لا يتجاوز المليار دولار. وبين موسكو والرياض حوالي 1.5 مليار دولار. وعموما فحجم التبادل التجاري بين روسيا ودول الشرق الأوسط كلها يبلغ 20 مليار دولار.
إن إجمالي حجم كل التبادلات التجارية أعلاه لا يصل حتى إلى قيمة حجم التبادل التجاري بين الصين وتايوان والذي يبلغ 330 مليار دولار. بل إن حجم التبادل التجاري بين تايوان والكويت يصل إلى 5.2 مليار دولار. أي أن حجم التبادل التجاري بين تايوان والكويت أكبر من حجم التبادل التجاري بين روسيا من جهة وكل من مصر والسعودية والإمارات والكويت وقطر مجتمعة من جهة أخرى. في هذا المقام لا يمكن الحديث عن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة والذي يصل إلى 800 مليار دولار، وبين الصين والاتحاد الأوروبي- 750 مليار دولار.
وسياسيا وعسكريا، فإن القوات الروسية موجودة في سوريا بالشراكة مع القوات التركية والإيرانية. ومن الممكن أن يتم تناول انتشار كتائب “فاجنر” الروسية في ليبيا ومالي وأفريقيا الوسطى وبعض الدول الأفريقية الأخرى. ولكن روسيا نفسها تنفي علاقاتها الرسمية بهذه الكتائب! وفي الحقيقة، فهناك نفوذ روسي في أرمينيا وطاجيكستان وقيرغيزستان عبر قواعد عسكرية منذ العهد السوفيتي، وفي بيلاروس أيضا. وفي المقابل ضعف الوجود الروسي في كازاخستان وأوزبكستان، وانتهى تماما في جورجيا ومولدوفا وأذربيجان. بينما الحرب لا تزال تدور في أوكرانيا التي خرجت تماما من الفلك الروسي، ويبدو أن ذلك سيكون إلى الأبد على غرار جورجيا ومولدوفا ودول البلطيق الثلاث (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، ودول أوروبا الشرقية التي كانت ضمن إطار حلف وارسو السابق. وفي كل الأحوال، يبدو انتشار روسيا ونفوذها محدودين للغاية ومقتصرين على دول كانت في الأصل مسرحا للوجود السوفيتي القديم.
وفي 19 أغسطس/آب الجاري، صرح سكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف بأن “الولايات المتحدة لم تتخل عن محاولاتها للتفاوض مع جيران أفغانستان بشأن إنشاء بنية تحتية عسكرية أمريكية هناك بحجة مكافحة الإرهاب”. هذا التصريح صدر في العاصمة الأوزبكية طشقند خلال الاجتماع السنوي الـ17 لأمناء مجالس الأمن الوطني لدول منظمة شنغهاي للتعاون. واللافت أن باتروشيف أعرب عن قلقه وإحساس بلاده بالخطر لهذه الخطوة الأمريكية التي تتمثل في إجراء ما يسمى بـ”تدريبات التعاون الإقليمي 2022″ التي بدأت بالفعل في 10 أغسطس/آب تحت قيادة الولايات المتحدة وبمشاركة عسكريين من كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان ومنغوليا وباكستان. أي مع دول حليفة لروسيا منذ عهد الاتحاد السوفيتي، بل ومن بينها أوزبكستان التي صدرت تصريحات بارتروشيف على أراضيها.
الشوكة التركية في خاصرة روسيا
إن تركيا تمثل إحدى أهم أدوات استنزاف روسيا حاليا ومستقبلا. فعلى الرغم من أن روسيا تقدم تنازلات لتركيا في سوريا وفي العديد من دول العالم التركي، إلا أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دائما ما يمسك بأوراق أخرى تحسبا لأي انعطافات مفاجئة من جانب نظيره الروسي فلاديمير بوتين. فبينما تضع موسكو وأنقرة اللمسات الأخيرة على عقد الفوج الثاني من منظومات (إس 400) الروسية، تتفاوض أيضا مع الولايات المتحدة وغيرها على أنواع وطرازات أخرى من الأسلحة المتقدمة. وكانت روسيا وتركيا قد وقعتا أول عقد في عام 2017 بمبلغ 2.5 مليار دولار، مع خيار شراء فوج آخر. وتم تسليم الفوج الأول للجانب التركي في صيف وخريف عام 2019. غير أن اللافت في تعاون بوتين وأردوغان بشأن المنظومات الدفاعية الروسية هو أن مجموعتين أو فوجين يحتوي كل منهما على أربع منظومات أمر غير مؤثر عسكريا، وليس له أي قيمة عسكرية. والجانبان الروسي والتركي يعرفان جيدا أنه مجرد إجراء سياسي لا أكثر.
وعلى مستوى الأزمة الروسية- الأوكرانية يواصل أردوغان تحركات نشطة للغاية على أكثر من اتجاه، قد تكون في ظاهرها من أجل دفع المفاوضات بين موسكو وكييف وتطبيع الأوضاع بينهما. لكن في الحقيقة، فإن أردوغان الذي يستفيد من كل شاردة وواردة هو آخر طرف يمكنه أن يتحدث عن ذلك.
فمؤخرا، أعلنت وزارة البنية التحتية في أوكرانيا، عن توقيع ممثلي أنقرة وكييف اتفاقية تشارك تركيا بموجبها في ترميم البنية التحتية لأوكرانيا. وتم التوقيع على الوثيقة بحضور رئيسي تركيا وأوكرانيا رجب طيب أردوغان وفلاديمير زيلينسكي. وهناك أمثلة كثيرة أخرى عن تطويقات تركية لروسيا في آسيا الوسطى والقوقاز وما وراء القوقاز. بهذا المفهوم تحدث تقرير إعلامي روسي حول محدودية قدرة أردوغان من جهة، وعن المؤشرات الواقعية التي تفيد بأن الصراع في أوكرانيا سوف يستمر لفترة طويلة. فقد سافر أردوغان، بعد لقائه مع بوتين مؤخرا في سوتشي، إلى لفوف بأوكرانيا في مهمة “سلام” ووساطة للقاء الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش. في ضوء ذلك، يرى التقرير أنه يمكن لأردوغان تحقيق اختراقات تكتيكية في المفاوضات (وسيكون هذا أيضا إنجازا كبيرا)، لكن من الناحية الاستراتيجية، سوف ينتقل الصراع في أوكرانيا، بل والصراع الأساسي الأكبر بين روسيا والغرب، بالتأكيد إلى العام 2023. والعام 2024 على بعد خطوة من العام 2023، وهكذا عاما بعد عام. فلا أحد من الطرفين (روسيا والغرب) مستعد للاتفاق على حل دائم وراسخ.
وحتى الآن لا يوجد أي مجال لحل وسط يناسب الجميع بشكل أو بآخر. وتتواصل الضغوط بين الطرفين بشكل يعطى انطباعات يإمكانية نشوب حرب نووية. هذا كله يجعل جهود أردوغان عديمة الجدوى نظريا. لكن على أرض الواقع “فحتى المواجهة يجب أن تكون تحت السيطرة، وضمن الالتزام بقواعد معينة”. وهنا تكمن “لعبة” أردوغان. ولكن من المهم أيضا عدم المبالغة في التوقعات.
مؤشرات مهمة على إمكانية تفادي أي حرب نووية
لقد وافقت الحكومة الإستونية، على حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا، والتي سيتم من خلالها إرسال المزيد من قذائف الهاون والأسلحة المضادة للدبابات، بالإضافة إلى مستشفى ميداني إلى كييف. وأعلنت شركة “ICEYE” الفنلندية، العاملة في مجال المراقبة باستخدام صور الأقمار الصناعية، أنها ستسمح للقوات الأوكرانية بالوصول إلى أقمارها الصناعية، والتي ستوفر صورا بمعدل تحديث مرتفع. ووقع الفنلنديون بالفعل عقدا سيوفر للحكومة الأوكرانية إمكانية التقاط صور من الأقمار الصناعية. ونشرت الشركة التي أطلقت بنجاح، حتى الآن، 21 مركبة فضائية، وتقوم بشغيل أكبر أسطول في العالم من أقمار الرادار الصناعية التجارية، بيانا مهما يقول إنه “كجزء من الاتفاقية، ستنقل “ICEYE” القدرات الكاملة لأحد أقمارها الصناعية الموجودة بالفعل في المدار، لتستخدمها الحكومة الأوكرانية عبر المنطقة.
وستقوم شركة “ICEYE” بتشغيل القمر الصناعي. بالإضافة إلى ذلك، ستوفر “ICEYE” إمكانية الوصول إلى كوكبة من الأقمار الصناعية، مما سيسمح للقوات المسلحة الأوكرانية باستقبال صور الأقمار الصناعية الرادارية للمواقع الحرجة مع معدل تحديث مرتفع”.
وهنا يأتي دور “العامل الإيراني” المتمثل في الصيغة النهائية لاتفاق إيراني جديد مع الغرب عموما، ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص، حول إمكانية رفع العقوبات بشروط محددة، على رأسها إعادة توجيه مصادر الطاقة الإيرانية. ولا شك أن الغرب يضع إيران أمام خيارات واضحة، حتى وإن كانت ستبقى على علاقات طيبة مع روسيا. وهو نفس الوضع الذي يتعلق بالخيارات المطروحة أمام الدول العربية، سواء تلك المصدرة للطاقة أو تلك التي ستصبح ممرات لنقلها إلى أوروبا. ويكتمل المشهد نسبيا بحصار الغرب لكل من روسيا والصين، ومحاولات دق الأسافين بينهما على المديين المتوسط والبعيد، انطلاقا من إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، ومن ثم فرض أمر واقع يضع كل دولة أمام مهمات أكثر صعوبة، بداية من توفير الغذاء لشعوبها والاندماج في حلقات إنتاج السلع الاستراتيجية وتنشيط التنمية الاقتصادية والانخراط في فضاء التقنيات الرفيعة وإمكانية تجميعها على أراضيها.
إن روسيا لم تستول بالكامل بعد على إقليمي “دونيتسك” و”لوجانسك”، حتى وإن كانت قد استولت على مفاصل معينة بين أقاليم شرق أوكرانيا، وعزلت كييف عن بحر آزوف. فهي تواجه من جهة أخرى في الأسابيع الأخيرة عمليات عسكرية نشطة في شبه جزيرة القرم ودونيتسك ولوجانسك. وهناك ارتفاع في وتيرة استخدام أسلحة غربية مؤثرة وطائرات مسيرة تركية وغربية. ومن المتوقع أن يتم تنظيم حروب عصابات ذات طبيعة خاصة تتلاءم مع طبيعة الصراع وطبيعة المنطقة، والأهداف التكتيكية للمواجهة الأوسع بين روسيا والغرب الذي يعول على حرب استنزاف طويلة على عدة محاور من جهة، وعلى انتهاء مرحلة حكم الرئيس بوتين بشكل طبيعي أو عبر تحولات أو تغيرات أو لأسباب أخرى. وفي حال عدم انتهاء مرحلة بوتين فإن الأمور سوف تستمر على ما هي عليه، وستتفاقم وتزداد سوءا. وسيصبح الكرملين من جهة ودول الغرب من جهة أخرى أمام أكثر من مأزق على مستوى الداخل والخارج. وهي مآزق يمكن التعامل معها. وفي كل الأحوال، فاقتصاد الغرب أقوى من الاقتصاد الروسي. وهو اقتصاد متنوع وموزع على أكثر من دولة. ما يمثل أحد أشكال الردع أو أحد أشكال منع التفكير في أي حرب نووية.
أما روسيا، فهي تعول على تحركات وانقلابات وثورات في الغرب. على الأقل هذا ما تبثه وسائل الإعلام الروسية يوميا للرأي العام الداخلي، ولحلفائها في الخارج. لكن الدعاية شيء، والواقع شيء آخر تماما. فالاقتصاد الروسي يضعف عمليا مع الوقت، وتتجه عمليات التنمية إلى نوع من أنواع عسكرة البلاد واقتصادها وحياتها بالكامل.
فالهدوء والتروي اللذان يمارسهما الغرب يدفعان روسيا للمزيد من الانزلاق في أوكرانيا وصعوبة التراجع إلا بانتصارات حاسمة. ولا يمكن تجاهل أن احتلال شرق أوكرانيا أو نصف أوكرانيا أو كل أوكرانيا سيشكل حملا ثقيلا على الاقتصاد الروسي، وسيعرض القوات الروسية إلى عمليات استنزاف ممنهجة، خاصة إذا لجأت موسكو إلى احتلال كل أوكرانيا لإغلاق جميع منافذ تدفق السلاح إليها!
هناك آراء أكثر حكمة وواقعية، تدعو إلى عدم الوقوع تحت تأثير الآلات الدعائية، سواء لروسيا أو للغرب، بل انتظار الشتاء المقبل والوقوف عمليا على درجة تحمل الغرب من جهة، ودرجة تحمل الاقتصاد الروسي من جهة أخرى. هذا العاملان سيلعبان دورا مهما في حرب الاستنزاف الأوسع، أو في حرب الاستنزاف العسكرية في أوكرانيا. أما بخصوص “الحرب النووية” التي يتعجلها البعض، فكل الاحتمالات واردة بشأن الأخطاء العسكرية التي يمكن أن تؤدي إلى مواجهات مباشرة. ولكن الطرفين يدركان عواقب ذلك وإلى ماذا يمكن أن تؤدي بالنسبة للتحولات الداخلية في المقام الأول. وعلى عكس كل التوقعات، فكلما امتد الوقت واشتد حصار الغرب لروسيا، كلما فكرت موسكو ألف مرة قبل غزو أي دولة أوروبية ضمن الاتحاد الأوروبي، وكلما فكرت ألف مرة في استخدام الأسلحة النووية: فأين ستستخدمها، في أوكرانيا المجاورة أم في دول أوروبية تابعة للناتو؟!
في نهاية المطاف، لا يوجد أصدقاء أثناء التحولات والانعطافات الكبرى. وبالتالي، لا توجد أي ضمانات لتحالف روسي- صيني عسكري ضد الغرب أثناء اندلاع أي حرب بين روسيا والغرب. فكل الدول أثناء الحروب تحاول أن تنأى بنفسها. بمعنى أن طرفي الحرب سيكونان روسيا من جهة، وجميع أعضاء حلف الناتو والدول المتضررة من السياسات الروسية، وعلى رأسها أوكرانيا وجورجيا ومولدوفا، من جهة أخرى. إضافة إلى العديد من دول آسيا الوسطى والقوقاز وما وراء القوقاز التي تهادن “الدب” الروسي، لكنها تنتظر اللحظة المناسبة للانقلاب عليه.