تعددت رسائل المغازلة لمصر من إيران التي أبدى كبار مسئوليها رغبة في استعادة المستوى الدبلوماسي الكامل للعلاقات مع القاهرة، دون الاكتفاء بمستوى مكاتب رعاية المصالح. ذلك في وقت بدأت فيه طهران تطور استعدادها لبدء مستويات غير معهودة من العلاقات مع القوى الخليجية، ممثلة في السعودية والإمارات. وكانت لغة الصدام هي السائدة طوال السنوات الأربع التي قضاها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب في البيت الأبيض.
وقد شهدت الفترة الأخيرة تطورات وصفها مراقبون بالانقلاب في العلاقات الخليجية الإيرانية، بعدما نجحت وساطة عراقية في تقريب وجهات النظر بين الرياض وطهران. كما زار مستشار الأمن الوطني الإماراتي والرجل القوي في أبوظبي طحنون بن زايد العاصمة الإيرانية، حاملًا رسائل السلام كي تطوي صفحة الماضي، على أمل تحقيق الأمن لبلاده بعد هجمات صاروخية طالت قلب الإمارات، نفذتها جماعة “أنصار الله” الحوثية في اليمن، التي توصف بأنها أحد أذرع إيران في المنطقة.
كما بدا مؤخرًا أن هناك فارقا جوهريا بين الحالة المصرية الإيرانية، وتلك التي بين السعودية وإيران من جهة، والإمارات وإيران من جهة أخرى. ويتمثل هذا الفارق في كون طهران هي التي تسعى بقوة من أجل بناء علاقات مع القاهرة، فيما تلتزم الأخيرة الصمت بشأن الرسائل الإيرانية المتكررة.
طهران-القاهرة.. يوليو الرسائل
أقوى الرسائل الإيرانية جاءت في الحادي والثلاثين من يوليو/تموز الماضي. حينما أكد رئيس مكتب رعاية المصالح الإيرانية بمصر، محمد سلطاني فر، أن التطورات الراهنة تقتضي أن يرفع البلدان العلاقات الثنائية من مستوى رعاية المصالح إلى المستوى السياسي المنشود. وقد أشار في مقال بصحيفة “إيران ديلي”، إلى رفض مصر “محاولات الولايات المتحدة التواطؤ مع إسرائيل خلال مؤتمر جدة الأخير، لتأسيس حلف ضد الجمهورية الإسلامية الإيرانية”، باعتباره رسالة تثبت أن المعايير السائدة في العلاقات بين طهران والقاهرة تفوق الصورة التي يروج لها.
وأبدى الدبلوماسي الإيراني استعداد طهران لدخول أسواق مصر عبر إنشاء مصنع لإنتاج السيارات المحلية وعقد استثمارات مشتركة، بما في ذلك إعادة تشغيل البنك المصري الإيراني المشترك (ميد بنك). وكذا تأسيس شركات تعاون في مجالات النسيج والملاحة البحرية وتجارة السجاد، إضافة إلى التعاون في مجالي النفط والغاز.
قبل 3 أيام من تصريحات سلطاني، كانت لوزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان، تصريحات أخرى عقب زيارته العاصمة العراقية بغداد قبل شهر، أكد فيها أن “تعزيز العلاقات بين طهران والقاهرة يصب في صالح المنطقة والعالم الإسلامي”.
وفي الثالث عشر من الشهر نفسه، أكدت إيران أنها “ترحب بأي وساطة لتقريب المواقف مع مصر”.
وفي مؤتمره الصحفي الأسبوعي، قال المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، ناصر كنعاني: “لدينا تواصل مباشر دبلوماسي مع القاهرة من خلال مكاتب حماية المصالح، وأطر دبلوماسية أخرى. هذه العلاقة تخدم التفاهم بين البلدين دون الحاجة لوجود وسطاء. لدينا تعاون في المحافل الدولية، وهناك إرادة لاستمرار هذا التعاون”. بينما أكد أن “البلدين شهدا تعاونا بناء خلال السنوات الماضية”.
وساطة عراقية تساعد طهران
الرسائل الإيرانية المتكررة جاءت في وقت كشف فيه وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين عن رعاية بلاده وساطة بين الأردن وإيران ومصر وإيران. ذلك بعد الجهود الناجحة لبغداد في استضافة جولات حوار بين طهران والرياض، توجت مؤخرًا بزيارة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي إلى كلا البلدين.
قال الوزير العراقي، في تصريحات نشرت في 30 يونيو/حزيران الماضي، إن “حوارات بدأت في بغداد بين الأردن وإيران، ومصر وإيران”. وبدا واضحًا أن الوساطة العراقية بين طهران من جهة ومصر والأردن من جهة أخرى تأتي في إطار التنسيق المشترك بين البلدان الثلاثة، ضمن ما يعرف بالآلية الثلاثية. وشهدت لقاءات متعددة على مستوى القادة ووزراء الخارجية خلال الفترة الماضية.
في أكتوبر/ تشرين الأول 2020، كشف وزير الخارجية المصري سامح شكري عن آلية ثلاثية بين مصر والعراق والأردن. وأكد -حينها- أنها تستهدف تفعيل أطر التعاون بين البلدان الثلاثة في مجالات الطاقة والإعمار والكهرباء، في سبيل تحقيق التكامل بينها.
كما أوضح شكري -وقتها- أن المشاورات بين البلدان الثلاثة هدفها الحفاظ على الاستقرار وعدم التدخل في شؤون الدول العربية. مشيرًا إلى وجود رؤية مشتركة للحفاظ على الأمن القومي العربي والتصدي للتحديات المشتركة.
الوساطة العراقية بين مصر وإيران لاستعادة وتحسين العلاقات بين الجانبين، صاحبها حديث بشأن وساطة من جانب سلطنة عمان، التي زارها الرئيس عبد الفتاح السيسي الشهر الماضي.
وفي هذا الشأن، ذكرت تقارير أمريكية أن زيارة كبير المفاوضين الإيرانيين، على باقري، لسلطنة عُمان مطلع يوليو/تموز الماضي جاءت على خلفية تقارير بشأن وساطة السلطنة بين طهران والقاهرة.
خصوصية القاهرة لدى طهران
يقول اللواء محمد عبد الواحد، الخبير المتخصص في الأمن القومي والعلاقات الدولية، إن المدقق في الرسائل الإيرانية الأخيرة، يرى خطابًا يتسم بالاعتدال تجاه القاهرة. وهو خطاب يؤكد أهمية القاهرة بالنسبة لطهران، التي تنظر إلى مصر باعتبارها الأقرب إليها حضاريًا وثقافيًا.
“مصر لدى إيران أهم دولة عربية وإسلامية، وهذا يتضح في طبيعة الدبلوماسيين الإيرانيين الذين يتم اختيارهم لقيادة مكتب رعاية المصالح الإيرانية في القاهرة”؛ يقول الدكتور محمد محسن أبو النور ، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية، مضيفًا: “لقياس أهمية من يتولوا مسئولية هذا المكتب انظر العائدين إلى طهران بعد انتهاء فترات خدمتهم في القاهرة. أغلبهم يعودون فيتولون مناصب كبيرة وذات أهمية في الدبلوماسية الإيرانية”.
ويرجع الخبير في شئون الأمن القومي والعلاقات الخارجية، اللواء محمد عبد الواحد، المحاولات الإيرانية المكثفة مؤخرًا لاستعادة العلاقات مع مصر إلى رغبة طهران في تحييد القاهرة والتأكد من عدم انخراطها في تحالف أمني ضدها. وفي رأيه هذا تفسره الاتصالات العراقية المصرية الإيرانية في الوقت الراهن. إذ تنحصر في المستوى الأمني.
يرى “عبد الواحد”، أن القاهرة بالنسبة لطهران هي صوت العقل أو العامل المساعد في تهدئة المنطقة عندما تخرج الأمور عن السيطرة، سواء بين إيران وإسرائيل، أو بين إيران والخليج.
الأمر نفسه، يؤكد عليه الباحث في الشأن الإيراني، محمد محسن أبو النور. يقول إن طهران تسعى بشكل حثيث لتحييد الموقف المصري، كونها تدرك ثقل القاهرة السياسي والعسكري. وهو ما يجعلها تسعى دائمًا لتجنب أي صدام معها.
ويرى “أبو النور” أنه رغم عدم إبداء القاهرة مواقف معلنة بشأن الرسائل الإيرانية، إلا أنها تحاول من وقت لآخر طمأنة طهران بأنها ليست طرفًا في أي صراع ضدها. كما أنها أيضًا لن تسمح بتهديد الأمن القومي العربي.
وفي المقابل، فإن طهران تتمسك بعلاقات مع القاهرة كونها ترى فيها وسيطًا نزيهًا. وهو ما ظهر خلال عمليات وساطة قادتها مصر في سوريا، التي تعاني فيها إيران عزلة كبيرة. حيث لا يوجد وسطاء يمكنها الوثوق بهم بخلاف مصر وروسيا، كما يقول “أبو النور”.
ما الذي يعوق تطور العلاقات؟
يعتقد عبد الواحد أن تحسين العلاقات مع إيران يرتبط بمجموعة من الشروط المصرية، يجب توافرها أولًا قبل الحديث عن تحريك مستوى العلاقات بين البلدين. وأول هذه الشروط -من وجهة نظره- التزام إيران بوقف تهديداتها للأمن القومي العربي، عبر وكلائها في المنطقة: جماعة الحوثي في اليمن، وحزب الله في لبنان.
ويضيف أن القاهرة وإن كانت حريصة على عدم الانخراط في تحالفات مناوئة لطرف إقليمي بعينه. إلا أنها في الوقت نفسه تبث رسائل بأنها تحافظ على حلفائها في الخليج.
ويرى عبد الواحد أنه إذا استشعرت القاهرة اطمئنان حلفائها في الخليج لإيران وتطورت علاقتهم بها، فإن ذلك سيساعد على تحريك مسار العلاقات بين البلدين وتحسنها.
أديس أبابا هي أحد ثلاثة أسواق رئيسية تعتمد على الطائرات المسيرة الإيرانية. وهنا تكمن أحد الأوراق الرئيسية في أي حوار سيجرى بين القاهرة وطهران، كما يقول “أبو النور”، خاصة في الوقت الذي تهدد فيه إثيوبيا الأمن المائي المصري.
يقول: “الدرونز الإيرانية (مهاجر1) و(أبابيل 6) التي زودت بها إيران رئيس الحكومة الإثيوبية آبي أحمد لعبت الدور الحاسم في قمعه الأخير للمعارضة التيجرانية ضده”، بينما يرجح أن يكون ذلك الملف ورقة تفاوض إيرانية حال جلست طهران إلى مائدة مفاوضات مصرية.
ويبدو أن هناك تباينا في الرؤى داخل مصر بشأن التعامل مع الرسائل الإيرانية لإعادة العلاقات، فهناك من يرى أن عودة العلاقات تخلق نوعًا من التوازن في المنطقة، في ظل العلاقات مع إسرائيل. فيما يرى فريق آخر أن التجاوب مع الرغبة الإيرانية قد يمثل مساسًا بمصالح مصر المرتبطة بالقوى الخليجية.