لا تنمية حقيقية ولا استقرار دائم دون تعليم، ولا يمكن لمجتمع أن يتخلص من أزماته ومشكلاته اقتصادية كانت أم اجتماعية أو حتى سياسية إلا بالوقوف على أسباب تخلف منظومته التعليمية ووضع خطط واستراتيجيات واضحة للنهوض بهذا المرفق بما يضمن زيادة عدد المدارس والمُدرسين المُدربين وتطوير المناهج وتطويعها لتتناسب مع تحديات العصر، ما يؤمن تخريج مواطن مؤهل ومدرب كما وكيفا قادر على الإنتاج والإبداع والابتكار.
أكثر الدول حاجة إلى الاستثمار في التعليم والإنفاق على متطلباته هي الدول الفقيرة النامية التي تسعى إلى طي صفحات عهود التخلف والفقر والمرض واللحاق بقطار التقدم والتنمية والاستقرار، فالتعليم في تلك الدول لم يعد غاية في حد ذاته، بل أصبح «أداة أساسية لإحداث التغييرات اللازمة في المعارف والقيم والسلوك وأنماط العيش وتحسين المهارات وتعزيز مشاركة الجماهير في عملية صنع القرار ورسم السياسات التنموية الشاملة والمستدامة»، على ما جاء في إحدى تقارير الأمم المتحدة الخاصة بالتعليم.
إن أردت قياس نجاح أو فشل نظام حكم فانظر إلى ترتيب أجندة أولوياته وسياسات وأوجه إنفاقه، فإذا وضع التعليم على رأس تلك الأجندة وخصص لخطط تطويره الميزانيات المناسبة، فيمكنك تصنيفه على أنه نظام حكم يبتغي «الرشاد» يعرف كيف يدير أدواته وإمكانياته بما يضع بلاده في مصاف الدول المتطورة الحديثة، ولأنظمة الحكم في ماليزيا وسنغافورة تجربتين هامتين في هذا السياق، فالحكومات المتعاقبة للدولتين تمكنا من تغيير واقع بلديهما المزري ورفع مستوى معيشة المواطن ومزاحمة الدول الكبرى بالاستثمار في التعليم.
أما إذا تأخر التعليم على أجندة الأولويات وتقدمت عليه مرافق وقطاعات أخرى، فيمكنك بضمير مطمئن أن تحكم بـ«الفشل» على هذا النظام الذي لا يقدر قيمة وأهمية التعليم في النهوض بمجتمعه، ويمكنك أن تسيء به الظن وتعتبره نظاما «مستبدا» يدرك أهمية العلم والتعليم لكنه يتعمد تجهيل محكوميه حتى لا تتفتح عقولهم ويطالبون يوما بحقهم في المشاركة والاختيار.
«لا يخفى على المستبد مهما كان غبيا أن لا استعباد ولا اعتساف إلا ما دامت الرعية حمقاء تتخبط في ظلامة الجهل»، يقول المفكر الإصلاحي الكبير عبد الرحمن الكواكبي، مشيرا إلى أن الاستبداد والعلم ضدان متغالبان «كل إدارة مستبدة تسعى جهدها في إطفاء نور العلم وحصر الرعية في حالك الجهل».
في مصر يحاول البعض تحميل وزير التعليم السابق طارق شوقي مسئولية انهيار وتردي المنظومة التعليمية، رغم أن الرجل حذر في مناسبات عدة من أن الميزانية التي تخصصها الحكومة لوزارته لا تكفي للنهوض بنظام التعليم ولا بتطوير منشآته التي تهالكت وضاقت فصولها على ما بها من تلاميذ، واعترف أكثر من مرة أنه منفذ للسياسات وليس مُنشأ لها.
في منتصف عام 2019 وقف شوقي أمام لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب شاكيا وزارة المالية التي لا تمنح وزارته «مليما إلا بطلوع الروح»، ودعا من يطالبون بتطوير التعليم إلى العمل على ضخ الأموال اللازمة لعملية التطوير «كل ما نطلب مبالغ مالية نحصل على ما هو أقل منها.. وأعداد الطلاب تتضاعف، ووضع المناهج وتأليفها يكلفنا ملايين الجنيهات، ولو أردنا أن يستمر التطوير يجب أن نضخ أموالا، ولو ما أخدناش اللي عايزينه المرة دي، مشروع تطوير التعليم هيقف، ودا مش تهديد، عايزين 11 مليار جنيه فوق المعتمد من المالية، مش هكمل من غيرهم، والوزارة هتقفل».
حديث شوقي في اللجنة البرلمانية أثار سخط الرأي العام وسخر رواد مواقع التواصل الاجتماعي من السلطة التي تضخ مليارات الجنيهات لإنجاز مشروعات من عينة العاصمة الإدارية التي تتضمن أعلى برج وأوسع مسجد وأكبر كنيسة، ومدينة العلمين الجديدة بأبراجها الشاهقة المنيفة، فضلا عن القطار الكهربائي السريع والمونوريل وغيرها، وفي ذات الوقت تضن على موازنة مرفق التعليم.
صراحة شوقي وخروجه عن النص دفع الأجهزة المعنية التي تمسك بجهاز السيطرة والتحكم إلى إصدار قرار غير معلن حينها بحظره إعلاميا، فقاطعت وسائل الإعلام تصريحات شوقي وصوره عقابا له على «زلة لسانه»، فحجبت تقريبا أخبار التعليم في الصحف والبرامج التلفزيونية، ولو استدعت الأمور تناول ملف التعليم من أي زاوية تنشر بيانات الوزارة دون أي إشارة للوزير المحجوب.
تكررت أزمة مشابهة نهاية العام الماضي عندما واجه نواب البرلمان وزير التعليم السابق بأكثر من 120 طلب إحاطة وسؤال عاجل حول مشاكل العملية التعليمية من نقص في عدد المدارس، وسوء حالة الأبنية التعليمية، مرورا بارتفاع كثافة الفصول، وصولا إلى نقص أعداد المدرسين وسوء أحوالهم، فتنصل الوزير بشكل ضمني من مسئولياته عن تلك المشاكل قائلا: «لم أكن أعمل بالسياسة قبل تولي موقعي في الوزارة.. أنا راجل فني»، محملا المسئولية لنقص الموارد المالية، «أي موضوع فيه فلوس يكون طرف فيه وزارتي المالية والتخطيط».
وأمام هجوم نواب الموالاة والمعارضة على حد سواء رد شوقي بقوله: «من 2014 حتى الآن نعمل على حل موضوع كثافة الفصول.. تم إنشاء أكثر من 94 ألف فصل بتكلفة 31 مليار جنيه، هل دا حل لا، دا آخر مليم معانا، لو معايا 5 أضعاف الرقم دا أكون أسعد وزير في العالم، وكنت هبني مدارس كتير جديدة».
وكما ألقى الوزير بالكرة في ملعب زملائه في الوزارات الأخرى فيما يخص أزمة كثافة الفصول فعل ذلك أيضا في أزمة نقص أعداد المدرسين، «لا يوجد معانا فلوس للتعيينات.. التعيينات بالجهاز الإداري للدولة ليست بيدي ولا يوجد قانون يعاقب على فكرة عدم التعيين، وهذا الأمر أريد دعمكم لي فيه.. أنتم بتوع القوانين»، مردفا: «بقولكم نفسي استثني المعلم والطبيب من قرار عدم التعيينات.. ممكن نطالب الاستثناء للمعلمين والأطباء طول الوقت».
كشفت وقائع تلك الجلسة عن أن شوقي صار على قوائم الترقب والخروج في أي تعديل وزاري أو تغيير حكومي، فالوزير المغلوب على أمره أصبح حائطا مائلا استباحه أعضاء البرلمان بغرفتيه -الشيوخ والنواب- واستهدفته وسائل الإعلام وحملته مسئولية التدهور الذي ضرب مرفق التعليم.
وفي الوقت الذي تتحدث بعض الدوائر عن ملاحقة الوزير السابق ببلاغات لاتهامه بإهدار المال العام خلال فترة استوزاره، لم يجرؤ أحد على الإشارة إلى الفاعل الأصلي الذي يرتب أجندة الأولويات فيُقدم مشروعات لا جدوى منها أو ذات جدوى محدودة أو أن جدواها في علم الغيب، على مشروع من المفترض أن يكون المشروع القومي الأول للدولة «النهوض بالتعليم».
بالصدفة البحتة أنه بعد جلسة البرلمان التي حمل فيها شوقي مسئولية تداعي منظومة التعليم إلى عدم وجود ميزانية «مش معانا فلوس»، تسابقت الصحف والبرامج في نشر وبث تقارير وصور عن مسجد مصر الكبير والمركز الثقافي الإسلامي المحيط به والذي سيتم تنفيذه على مساحة 60 فدانا بالعاصمة الإدارية، وفق تصريحات المهندس هاني ماهر المدير التنفيذي للمشروع.
المسجد الذي سيكون أحد أكبر مساجد مصر وإفريقيا بل والعالم يحتضن أعلى مآذن إفريقيا والشرق الأوسط بطول 140 مترا وتبلغ مساحته 19100 متر مربع ويسع 131 ألف مصل بتكلفة تقترب من مليار جنيه (45 مليون دولار)، يتم الترويج له على أنه سيكون وجهه للسياحة الدينية رغم أن مصر بها مئات بل آلاف من الوجهات السياحية الدينية والتراثية التي تحكي مبانيها وتشهد أروقتها على وقائع وأحداث تاريخية يمكن تسويقها وترويجها بتكلفة أقل بكثير، فضلا عن أن بها عشرات الآلاف من المسجد التي لا تمتلئ بالمصلين إلا في صلاة الجمعة.
كان يمكن أن تسهم ميزانية إنشاء المركز الإسلامي الثقافي الذي يضم المسجد الكبير والكاتدرائية الجديدة بل والعاصمة الإدارية نفسها وغيرها من مشروعات بدأت السلطة في إقامتها خلال السنوات القليلة الماضية في بناء المئات من المدارس الجديدة وتعيين وتأهيل المعلمين وتحسين أحوالهم وتطوير المناهج والأدوات التعليمية بما يضعنا على أول طريق النهوض بالمنظومة.
لا تحتاج دولة فقيرة مثل مصر تتحايل على حل أزماتها المالية ومشاكلها الاقتصادية بالاقتراض والدين، إلى مسجد كبير تعتليه أعلى مآذنه ولا إلى أكبر كاتدرائية ولا أعلى برج أيقوني ولا إلى المباني الشاهقة الفارهة المطلة على ساحل المتوسط ولا حتى إلى عاصمة إدارية.
مصر تحتاج إلى مشروع قومي للنهوض بالتعليم والصحة، تحتاج إلى إعادة ترتيب أجندة أولوياتها، تحتاج إلى برلمان حقيقي يحاسب المسئولين عن التقتير على ما هو أهم والإسراف على ما ليس مهم على الأقل في هذه اللحظة، تحتاج صحافة حرة تراقب أداء مؤسسات الدولة نيابة عن المواطنين، تحتاج إلى ديمقراطية وتعددية وتداول سلطة.