تمثل لي رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ، المحرمة في عرف الكثيرين، ذكرى حلوة، فقد قرأتها وأنا في الصف الثالث الإعدادي، كانت قراءة تلك الرواية في ذلك العمر، أكبر من لحظة فخر أمام عمي الصحفي اللامع الشاب حينها، والذي كنت أنظر إليه طفلا كمثل أعلى، وهو يتفحص فهمي للرواية بسعادة واندهاش، ربما كانت الإشارة الأولى لي أني جاهز لخوض عالم القراءة والكتابة، وأن مصيري لن يكون في صيدلية أبي، بل بالحياة والعمل والتنفس ككاتب.
كان كتاب أولاد حارتنا المحرم، موجودا في الأصل بمكتبة أبي، لكن تلك المكتبة كانت بدورها محرمة، لأن مسار حياتي كان قد حدد، لا وقت إلا لكتب الدراسة، لأن علي أن أظل متفوقا على الدوام كي ألتحق بكلية الصيدلة كي أتسلم منه إرث عهد لم يناسبني، وكان ذلك يعني ألا أتوقف عن المذاكرة ولو في الصيف، رغم أني حافظت على تفوقي الدراسي، إلا أني لم أتوقف عن سرقة الكتب من مكتبته وقراءتها، ما تبقى من ذلك الأمر هو أن القراءة ظلت لي أشبه بالفعل المحرم والمسروق، وفي ذلك الشق سكنت لذتي، ولم تفتر، وبه فهمت أي سر تشمله القراءة، إنها ليست فقط ضد جفاف الدراسة بل ضد جفاف العالم، أن الحرية تنتزع ولو بالسرقة، وأن دائما هناك عالم آخر ممكن.
اقرأ أيضا.. أمير عيد ومستر هايد
فهمت كطفل أن بناء الشخصيات يرتكز على قصص الأنبياء، وأن المقصود بعرفة هو العلم أو التجلي للرغبة في العدل، متجسدا في إنسان بلا معجزات، لم تحركه رسالة الجبلاوي ولا تنبع رغبته في إقامة العدل من نداء علوي، بل من نداء صاعد من أحشائه.
لم أكترث لتلك المعاني بالطبع؛ لأن ما كنت أتبعه بلهاث هو مغامرة أبطال الرواية في معارك الفتوات من الهزيمة المطلقة إلى الانتصار لتحقيق العدل، ولقد فتنت، كطفل يخطو إلى المراهقة بتلك الفكرة القائمة على البداهة كشأن كل ما يشكل الإنسانية، القوة ليست احتكارا لحفنة أقوياء، بل عليها أن تنتزع لصالح البسطاء والضعفاء.
ستظل فكرة رواية أولاد حارتنا ماثلة في ذهني لأفهمها لاحقا كالتالي: أليس هؤلاء الضعفاء، هم هدف كل فكرة كبرى، سواء كانت ديانة روحانية أو مذهبا فكريا ماديا، هم من وعدوا بالاسم في القرآن أنهم سيرثون الأرض، وفي الإنجيل “طوبى للمساكين”، ألم تكن رحلة موسى كلها مع قومه هي نصرة لقوم مضطهدين أذلهم فرعون، ألم يطالب كارل ماركس في دعوته للضعفاء أن يتحدوا ضد احتكار السادة، أليسوا هم هدف كل الثورات، أيبني رؤساء الجمهوريات شرعيتهم وخطابهم السياسي حول شيء آخر عدا نصرتهم وإنقاذهم من الفقر؟ الجامع المشترك إذن بين آدم ورفاعة وجبل وقاسم وعرفة هو تحدي الظلم وإقامة العدل.
لاحقا سأفكر أن ربما تكون تلك هي رغبة الله نفسه، لذا توقف عن إرسال الأنبياء والدعوات، لأن الإنسان قد نضج بما يكفي كي يحاول تحقيق العدل وحده، لأنه ذكره بما يكفي أن تلك هي مهمته. عدل وظلم، لا شيء في المنتصف، كل بين بين هو انحراف ينبغي تقويمه.
اللافت طبعا أن تلك الفكرة المؤسسة على الفتوة الفرد في عالم نجيب محفوظ الداعي إلى تذكير المستضعفين بقوتهم، تنهار ليس عبر تحققها، لكن عبر الطبع المتأصل في الإنسان: النسيان. لذا كان عرفة هو النداء اليائس والأخير لتحقيق عدل مستدام، لا يرتكز على فرد أو طبع، بل عبر العلم، وهي الفكرة نفسها التي سينتهي إليها محفوظ في الحرافيش، لكن بشكل آخر بعد أن يستعرض أشكالا مختلفة من الحكم كلها تنهار بسبب خطأ درامي في تكوين الفرد، العدل بالناس لا بيد الفتوة، العالم الحق لا يرتكز على كاريزما فرد.
فهمتها كطفل لأن نجيب محفوظ عندما قام بتخليص قصص الأنبياء من المقدس والساحر، تجرد معناها الأساسي، وصار قابلا للفهم الدنيوي والتطبيق.