قبل 3 أعوام توقعت صيحفة “إندبندنت” البريطانية أن تؤدي المعركة الفوضوية التي اندلعت في جنوب اليمن بين الانفصاليين المدعومين من الإمارات وقوات الحكومة الشرعية إلى “تفرخ صراعات أخرى في مناطق مختلفة من البلد الذي تمزقه الحرب منذ سنوات”.

الصحفية قالت في تقرير نشرته الأسبوع الأول من أغسطس/آب عام 2019 إن “استيلاء الانفصاليين على عدن مزق تحالف دعم الشرعية الذي تقوده السعودية لمحاربة الحوثيين”. ولفت التقرير إلى أن “الإطاحة بسلطة الحكومة الشرعية من قبل الانفصاليين في عدن لا تهدد فقط بحرب جديدة بين الجنوب والشمال وإنما بحرب داخل الجنوب نفسه”.

توقعات الصحيفة صدقت وهاجمت القوات الانفصالية محافظة شبوة بعد أسبوع واحد من سيطرتها على عدن. رغم المعارضة السعودية التي كانت في ذلك التوقيت تسعى لدمج القوى والفصائل السياسية والعسكرية والقبائلية في تحالف واحد لمواجهة المتمردين الحوثيين المدعومين من إيران.

ورغم قتالهم المتمردين الحوثيين معا خاض الانفصاليون الجنوبيين المدعومين من أبوظبي والقوات الحكومية المدعومة من الرياض معركة ترسيخ نفوذ محتدمة في محافظات الجنوب.

ومع حلول العاشر من أغسطس/آب 2019 وتصاعد الصراع في محافظات عدن وأبين وشبوة أكد المجلس الانتقالي الجنوبي أنه يصر على استعادة “استقلال الجنوب”. وقال عيدروس الزبيدي رئيس المجلس في خطاب له: “نؤكد لكم ثباتنا على العهد الذي قطعناه على أنفسنا أمام شعبنا. والمتمثل في استعادة استقلال الجنوب وبناء دولته الفيدرالية المستقلة كاملة السيادة”.

الضربات الجوية التي نفذتها حينها مقاتلات إماراتية ضد قوات الحكومة الشرعية في مناطق الجنوب وأوقعت العديد من الضحايا أثارت المزيد من علامات الاستفهام حول “ما تريده أبوظبي من اليمن”. فالشريك الرئيسي للسعودية في التحالف الذي تشكل في الأساس بهدف تحرير البلاد من سيطرة الحوثيين يشتت الانتباه عن “معركة التحرير ويشرخ العلاقة بين الحلفاء. ما يؤدي إلى مزيد من سيطرة الأعداء”.

وفي الوقت الذي اتهم فيه الرئيس اليمني السابق عبد ربه منصور هادي الإمارات بدعم الانفصاليين وشن غارات جوية على قواته في الجنوب. قالت الإمارات إنها نفذت ضربات جوية ضد “تنظيمات إرهابية هاجمت قوات التحالف بقيادة السعودية”. مشددة على حقها في الدفاع عن النفس. أما “هادي” فدعا الرياض إلى “التدخل لوقف الدعم الإماراتي للانفصاليين”.

الدعم الإماراتي للانفصاليين آنذاك دفع العديد من اليمنيين للنزول في الشوراع لمطالبة حكومتهم بطرد أبوظبي من التحالف العربي المساند للشرعية. وردد المتظاهرون في شوارع تعز هتافات غاضبة تنديدًا بما وصفوها “مذبحة الإرهاب الإماراتي” بحق القوات اليمنية والمدنيين في محافظتي عدن وأبين جنوبي البلاد.

في معركة أغسطس/آب 2019 لم يقتنع اليمنيون بدوافع الإمارات ووكلائها في الجنوب بأنهم يخوضون حربا ضد التنظيمات الإرهابية. أو لاجتثاث جماعة الإخوان المسلمين التي كانت منخرطة في تحالف الشرعية. كذلك كان حال السعوديين. فمحاولة انقلاب المجلس الانتقالي الجنوبي على شرعية “هادي” في جنوب اليمن في هذا التوقيت “يجرد التدخل العسكري السعودي من أساسه القانوني” -بحسب ما ذهبت دراسة لمركز صنعاء للدراسات السياسية.

الدراسة أشارت إلى أن السعودية لم تكن تُضمر أي تعاطف مع حزب الإصلاح (الإخوان المسلمين). لكنها كانت ترى أن الظرف التاريخي غير مواتٍ. فاجتثاث الإخوان يحتاج إلى وجود قوة يمنية نظامية تتمتع بدرجة من الشرعية والانتشار الفعال على مستوى البلاد. ما يجعلها قادرة على مواجهة الإخوان والقاعدة والحوثي في وقت واحد. وأن تضمن مصلحة اليمن ومصلحة المملكة معًا. على افتراض التوافق بين المصلحتين. وإن قوةً بهذه المواصفات لا وجود لها وليس من المتوقع أن توجد على المدى المنظور.

لم يقبل السعوديون الدخول في تسوية مع المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيا إلا بعد أن ضمنوا تعديل ميزان القوى في الجنوب. وجرى الأمر عبر مرحلتين الأولى: تفكيك قوات المجلس في محافظة شبوة أمام القوات الموالية للحكومة وعزل المجلس في المحافظات الغربية. وثانيا: إزالة وجود القوات الإماراتية في عدن وتمركز قوات سعودية بديلا عنها. وبالتالي تجفيف مصادر الدعم المالي والتسليحي المباشر للمجلس.

وتحت الضغوط السعودية انسحبت قوات الإمارات من اليمن في أكتوبر/تشرين الأول 2019. وبعد نحو 3 أشهر نجح السعوديون في إقناع أطراف الأزمة بالتوقيع على اتفاق الرياض الذي نص على تشكيل حكومة كفاءات سياسية. لا تتعدى 24 وزيرًا يُعيّن عبدربه منصور هادي أعضاءها مناصفة بين محافظات الجنوب والشمال خلال مدة لا تتجاوز 30 يومًا من توقيع الاتفاق.

وتضمن الاتفاق الذي تم توقيعه في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 مشاركة المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة لمشاورات الحل السياسي النهائي لإنهاء انقلاب الحوثيين. فضلًا عن إعادة تنظيم القوات العسكرية تحت قيادة وزارة الدفاع. وإعادة تنظيم نظيرتها الأمنية تحت قيادة وزارة الداخلية. بالإضافة إلى عودة جميع القوات التي تحركت من مواقعها ومعسكراتها الأساسية باتجاه محافظات عدن وأبين وشبوة منذ أغسطس/آب 2019 إلى مواقعها السابقة بكامل أفرادها وأسلحتها. وتحل محلها قوات الأمن التابعة للسلطة المحلية في كل محافظة.

لم ينجح اتفاق الرياض كخطة عمل على المدى الطويل. حيث تعرض لنكسات مستمرة خلال عامي 2020 و2021. وعجزت المملكة عن إدارة الوضع اليمني بشكل فعال. ولم تفلح كل محاولاتها لدعم الحكومة الشرعية. وتصاعدت المخاوف من عودة “الانتقالي” والحكومة الشرعية إلى منطق المواجهة الصفرية. وهو ما يصب في صالح الحوثيين وطهران ويضعف من الموقف السعودي في أي مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع إيران.

ولضمان تعديل ميزان القوى بين الحكومة الشرعية والمتمردين الحوثيين دفعت الرياض في اتجاه توحيد القوى العسكرية والسياسية والقبائلية المناوئة للحوثيين في مجلس واحد. وهو ما جرى في أبريل/نيسان الماضي. عندما أعلن عبد ربه منصور هادي تسليم سلطاته إلى مجلس قيادة رئاسي في أعقاب اختتام مشاورات الرياض. التي شاركت فيها قوى يمنية محسوبة على السعودية والإمارات في غياب المتمردين الحوثيين.

وكما رحل “هادي” رحل معه نائبه علي محسن الأحمر. وكان على رأس مهام مجلس القيادة الرئاسي الجديد الذي ترأسه رشاد العليمي توحيد قوى الشرعية والدخول في مفاوضات مباشرة مع الحوثيين لوقف الصراع الدامي المستمر في البلاد منذ سنوات.

عقب الإطاحة بهادي ونائبه أشارت بعض التقارير إلى أن الرياض توافقت مع أبوظبي على اجتثاث الإخوان وكوادر حزبها من مؤسسات الدولة. وهو ما بدأت بوادره تظهر عمليا بالإطاحة بوزير الدفاع محمد المقدشي المقرب من نائب الرئيس السابق علي محسن الأحمر. ثم اشتعال الأمور على جبهة محافظة شبوة واشتباك القوات المحسوبة على المجلس الانتقالي الجنوبي مع نظيرتها الحكومية التي تقودها كوادر “الإصلاح” في المحافظة بدعم الطيران الإماراتي ودون اعتراض سعودي وبضوء أخضر من مجلس القيادة الرئاسي.

وبعد أسبوعين من سيطرة “الانتقالي” على مدينة عتق عاصمة محافظة شبوة واصلت قواته الموالية للإمارات تقدمها لبسط نفوذها على ما تبقى من محافظات الجنوب بدعوى محاربة التنظيمات الإرهابية في تلك المحافظات.

وأعلن المجلس الانتقالي في 22 أغسطس/آب الجاري عملية “سهام الشرق” العسكرية للسيطرة على محافظة أبين المحاذية للعاصمة المؤقتة عدن.

وقال المتحدث الرسمي باسم “الانتقالي” في تغريدة على موقع “تويتر” إن “القوات المسلحة الجنوبية تطلق عملية سهام الشرق في أبين”.

في المقابل رد مستشار وزير الإعلام اليمني مختار الرحبي بتغريدة قال فيها إن “العملية تهدف للقضاء على ما تبقى من ألوية للجيش اليمني بمحافظة أبين”. متهما “الانتقالي” باستخدام محاربة الإرهاب كغطاء للقضاء على ما تبقى من الجيش الوطني وإخضاع المحافظة لسيطرته الكاملة.

فيما أصدرت القوات المشتركة بيانا أكدت فيه أن “مواطني أبين هم الخاسر الأول من الصراع المنتظر”.

وذكر البيان أن التحركات العسكرية للمجلس الانتقالي تأتي بالرغم من توجيهات رئيس المجلس الرئاسي إلى كل الجهات ووزارة الدفاع بعدم الإقدام على أي عمل عسكري في محافظة أبين. وإعادة تموضع القوات بحسب اتفاق الرياض. وإعلان نقل السلطة من اللجنة الأمنية والعسكرية والتوجيهات العليا للمجلس الرئاسي بوقف كل التحركات الأمنية والعسكرية.

وتهدف هذه العملية العسكرية إلى تأمين تحرك القوات الجنوبية بين عدن وباقي محافظات الجنوب -بحسب بيان المجلس الانتقالي. لكنّ القوات الحكومية ترى في ذلك “ذريعة لاستكمال مشروع توسعي انفصالي يسعى للقضاء على قوات الحكومة الشرعية”.

وتقول مصادر سياسية يمنية أن هدف العملية العسكرية في أبين هي تعزيز سيطرة وكلاء الإمارات على محافظات الجنوب الغنية بالنفط والغاز. لافتة إلى أن المخاوف التي طرحها البعض عن نيّات المجلس الانتقالي إعلان دولة منفصلة في الجنوب تتحول إلى واقع.

ويجري في الرياض منذ أمس الأربعاء مشاورات (يمنية-يمنية) لبحث الصراع الذي يتصاعد من محافظة جنوبية إلى أخرى في الأسابيع الأخيرة. ويبحث السعوديون مع رئيس مجلس القيادة رشاد العليمي وعدد من أعضاء المجلس وقيادات سياسية يمنية منهم رئيس البرلمان سلطان البركاني توابع الموقف المشتعل في أبين. في ظل تصاعد المخاوف من نجاح مخطط إعلان دولة منفصلة في الجنوب. وهو ما سيضع قوات الحكومة الشرعية في “كماشة” على حد تعبير المصادر. “الحوثيين يسيطرون على معظم الشمال والمجلس الانتقالي الذي تدعمه الإمارات يسعى إلى انفصال الجنوب والخسائر تتعاظم على اليمن وشعبه”.

وتعتقد المصادر أن الرياض لا تسعى في هذه اللحظة إلى الدخول في صراع معلن مع شريكتها الإمارات التي ترفع راية محاربة الإخوان والجماعات الإرهابية. لكنها على الأرض تعمل على فصل الجنوب وتنصيب سلطة موالية لها.

وتوضح المصادر أن أبوظبي دعمت الحراك الجنوبي قبل الإطاحة بالرئيس الأسبق علي عبد الله صالح. وكان لها يد في التحركات التي تصاعدت منذ عام 2007 وتحالفت حينها مع الجماعات السلفية المسلحة التي تدعي الآن أنها تواجهها.

معركة “سهام الشرق” الأخيرة أعادت مجددا سؤال “ماذا تريد الإمارات من اليمن؟”. والذي يسعى الباحثون والمراقبون إلى الوصول إلى إجابة عنه منذ عام 2015 دون جدوى. فيما أثار صمت الرياض على تصاعد الصراع في شبوة ومن بعدها أبين سؤالا آخر: “هل هناك ضوء أخضر سعودي لما تقوم به أبوظبي؟”.