لم تمض دقائق على رحيل السيد طارق عامر عن البنك المركزي حتى امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي بالصخب الذي لا يخلو من سعادة سافرة، واستبشار بما عساه يأتي من بعده من خيرات، وذلك لأسباب عدة نستعرض أهمها في السطور التالية.
التعقيب الأول لمحافظ البنك السابق على خروجه كان يشف عن زهد في المنصب، وترك الساحة لدماء جديدة وقيادة تكمل مسيرة رآها مكللة بالإنجاز! وناهيك عن كون هذا المبرر للخروج لا يتفق مع حساسية المرحلة التي تخوض فيها البلاد مفاوضات حاسمة مع صندوق النقد الدولي، للحصول على قرض جديد، ودقة التوقيت قبل أيام وربما ساعات من قرار لجنة السياسات النقدية بخصوص أسعار الفائدة، بل ناهيك عن مسوّغات عبثية قرار الرحيل الطوعي في هذا الوقت الدقيق، التي صاغها نائب المحافظ ذاته، قبل أيام لنفي الشائعات التي ترددت عن رحيل المحافظ في التعديل الوزاري السابق. ناهيك عن كل تلك الملابسات التي أظن أنها ستنكشف قريباً، فتصريح السيد طارق عامر يتنافى كلياً مع واقع مأزوم وتركة ثقيلة ومعقّدة تركها غير سائغة لخليفته.
التركة العامرية منذ نهاية عام 2015 وحتى أيام قليلة مضت (أي بعد انتصاف عام 2022) جاءت في رأيي محمّلة بعدد من الأخطاء أرصد أهمها في عدد من النقاط:
- خلافات مؤسسية مع رؤساء مصارف وإعلاميين ونواب واقتصاديين
- تضارب قرارات السياسة النقدية
- هيمنة السياسة المالية وانخراط البنوك في اقراض الحكومة
- الدوران حول احتياطي الدولار وكأنه هدف في ذاته مع إهمال تنوّع مصادره
- استهداف التضخم لم يأت بنتيجة ايجابية
- تحرير غير كامل لسعر الصرف مع ادعاء مغاير
- مشاكل وقيود الاستيراد
- ظاهرة “المستريحين” دليل تعثّر الشمول المالي
- شبهة تعارض مصالح وعدم التعامل معها بشفافية
وسوف أتعرّض لكل نقطة بشىء من التفصيل فيما يلي من سطور.
بالنسبة للخلافات المؤسسية مع عدد من رؤساء المصارف والاعلاميين والبرلمانيين والاقتصاديين…فقد كتبت في الشروق مقالا في 31 مارس من عام 2016 (أي بعد نحو ثلاثة أشهر فقط من تقلد السيد طارق عامر لمنصب المحافظ) مقالا بعنوان: “حروب البنك المركزي” جاء فيه: “تعددت المعارك التى يخوضها محافظ البنك المركزي فى آن واحد، فهو فى معركة مستعرة ضد السوق السوداء للدولار الأمريكى، انتقل منها إلى معركة ضد شركات الصرافة غير الملتزمة، ثم أعلن تقييد مدد شغل منصب رئاسة البنوك بتسع سنوات، ثم أصدر تصريحات متلفزة ضد فئات بعينها اتهمها بالعمل لمصالحها أو لحب الظهور..”.
وقد اشتمل المقال على أمثلة من الممارسات السلبية للمحافظ الجديد آنذاك تمثّلت في: تعدد المعارك، الإفراط في الظهور الإعلامي واهتزاز موقف الحياد. وتجدر الإشارة إلى أن القائم بأعمال المحافظ الحالي كان أحد أول ضحايا تلك الحروب المبكرة للسيد عامر.
ونلاحظ أن آخر ما صدر عن السيد عامر عشية رحيله عن منصبه كان خطابا للشاعر فاروق جويدة نشر على حلقتين يغص بمرارة من المحللين والاقتصاديين والسابقين واللاحقين! يرتبط بهذا الخطأ الإفراط في التصريحات المليئة بالإشارات الموجّهة للسوق، وذلك لا ينبغي أن يصدر عن أي محافظ لبنك مركزي.
الخطأ الثاني يتمثل في تضارب قرارات السياسة النقدية. وهنا أشير الى وقائع بعينها كان أشهرها من وجهة نظري ما قام به المركزي من تخفيض أسعار الفائدة بمقدار 300 نقطة أساس دفعة واحدة عند صدمة كوفيد الأولى، ثم في اليوم التالي إصدار شهادات ادخارية من قبل أهم مصرفين في مصر (بتوجيه من المركزي) بأسعار فائدة شديدة الارتفاع! من الوارد أن تختلف قرارات السياسة النقدية والمالية، بأن تتخذ الأولى قرارات تقشفية والثانية قرارات توسعية مثلاً، لإحداث نوع من التوازن والموائمة بين السياستين، لكن أن تتخذ ذات الجهة قرارا توسعيا، وفي اليوم التالي يكون القرار انكماشيا فهذا لعمرك في القياس عجيب! يضيف ذلك الى تشوّهات هيكل أسعار الفائدة في مصر، والذي ترتفع معه الفائدة على المنتجات الخالية من المخاطر (على أدوات الدين الحكومي) بشكل لا يتناسب مع حجم مخاطرها الائتمانية، مما يربك حسابات المستثمرين بالسوق.
الخطأ الثالث تمثّل في هيمنة المالية العامة والتي أضرت بمبدأ استقلالية السياسة النقدية، ومن أبرز مظاهر تلك الهيمنة خضوع قرار تحريك أسعار الفائدة لاعتبارات تتعلق بتضخّم أعباء الدين العام، وتفرغ الجهاز المصرفي لشراء منتجات الدين الحكومية على حساب منح الائتمان للقطاع الخاص والإنتاجي. الأمر الذي أضر بالناتج المحلي الإجمالي، وجعلنا جميعاً رهناً لندرة العملة الصعبة المطلوبة باستمرار لسد فجوة الطلب المحلي.
هذا يقودنا مباشرة الى الخطأ التالي، وهو الدوران حول احتياطي النقد الأجنبي من الدولار، وكأنه هدف في ذاته، مع إهمال دعم مصادره وتنوّعها.. وإذا كانت مسئولية محافظ المركزي ليست كاملة عن الخطأ السابق فالمسئولية واضحة في هذا الخطأ، لأن السيد عامر لا ينفك يعلن في تصريحات دورية عن حجم احتياطي النقد الأجنبي دون اعتبار لتركيبة ذلك الاحتياطي وشموله على أموال ساخنة، بل ودون مصارحة لتواضع هذا الاحتياطي مقابل مخاطر التعثّر، ومتطلبات سداد الالتزامات تجاه العالم الخارجي. وقد أشرت مبكراً في مقال سابق بالشروق (متاح على الموقع بتاريخ 26 يونيو 2017) عنوانه “خداع الفائض في ميزان المدفوعات” جاء فيه: “القروض والتسهيلات طويلة ومتوسطة الأجل سجّلت أيضا صافى استخدام بلغ 5,1 مليار دولار مقابل نحو 504 ملايين دولار فى الفترة المقارنة! فلا شك أن الأحد عشر مليارا المتدفقة من العالم الخارجي لا تعدو أن تكون قروضا وتسهيلات وشراء الأجانب لأوراق دين مصرية، وتلك الأخيرة إذا صح وصفها علميا بأنها تمثل استثمارا غير مباشر، فعملياً هى ديون لا يتم إعادة توظيفها فى مشروعات تغطى عائدها، بل فى الغالب تستخدم لزيادة الاحتياطي من النقد الأجنبى لسداد الالتزامات! أى هى مديونية جديدة لسداد مديونية قائمة”.
وكان المقال كله في معرض الرد على بيان صادر عن البنك المركزي المصري يزف فيه ارتفاع الفائض في ميزان المدفوعات! وعليه فعندما تدفقت النقود الخضراء سريعاً خارج مصر، كان من المنطقي أن يتجه الناس بالسؤال الى المحافظ عن مصير أهم مستهدفاته.
اقرأ أيضًا: لماذا “استقيل” طارق عامر؟ رجل التعويم والمخاطر يغادر “المركزي”
كان ينبغي أن تدور أهم مستهدفات السياسة النقدية حول استقرار المستوى العام للأسعار، وهذا يقودنا الى الخطأ التالي المتمثل في عدم استقرار معدلات التضخم الأساسية عند التضخم المستهدف، على الرغم من وضع هامش مستهدف شديد الاتساع بين 5% و9%! ولا يفوتني هنا الإشارة الى تكرار مناشدتي لكل من البنك المركزي ووزارة التخطيط بالإفصاح عن ملابسات تراجع معدلات التضخم لأول مرة منذ عقود تحت الرقمين (تحت 10%) فقد حدث ذلك دون تمهيد في صدمة سعرية غير مفهوم أسبابها، وأتمنى ألا تكون أسباب متعلقة بمنهجية الحساب والتقدير.
كان انشغال صانع السياسة النقدية بأسعار الصرف مقدما على اهتمامه بمعدلات التضخم، وهنا نأتي الى خطأ جديد تم خلاله تحرير غير كامل لسعر الصرف في نوفمبر عام 2016 مع تأكيد المحافظ على ان التحرير كامل وليس مدارا! الأمر الذي يجعل التعويم الأخير مارس الماضي شيئا غير مفهوم أو هو قفزة مفاجئة في تاريخ بعينه على غير المعتاد مع أسواق العملات إلا في حالات شديدة الاستثناء.
نافذة التعويم في 2016 لم تستغل بشكل جيد من سائر قطاعات الإنتاج والتصدير، وهنا لا نلقي باللائمة على محافظ المركزي الا بالقدر الذي يكون فيه مسئولا عن بعض اختيارات القيادة لمؤسسات أخرى مثل الهيئة العامة للرقابة المالية، والتي كان لقيادتها السابقة أثر شديد السلبية على أداء أسواق المال والتأمين والتمويل العقاري، مما وضع المستثمر الأجنبي أمام خيار شبه وحيد للاستثمار والعمل في مص،ر وهو شراء أدوات الدين! ولا يمكن أن أجزم بأي دور للسيد عامر في هذا النوع من القرارات رغم تعدد المشاهد التي وقف فيها الرجل مدافعا عن الرئيس السابق للهيئة، وآخرها ما ورد بخطابه المنشور على مساحة الشاعر جويدة!
الفهم الصحيح لطبيعة السوق المصرية واعتماد قطاعاتها الإنتاجية على استيراد المعدات ومدخلات الإنتاج الوسيطة من الخارج كان ليعفي قيادة البنك المركزي من اتخاذ قرارات عنيفة لتقييد الاستيراد، الأمر الذي كان ليتسبب في كارثة، لولا تدخل القيادة السياسية لاستثناء تلك المنتجات من قرارات التقييد.. فسلاسل الإمداد مضطربة بالفعل بسبب الجائحة والحرب في أوكرانيا، وهذا الاضطراب المفتعل بالتقييد كان ضاغطا بقوة على معدلات التضخم، نظرا لنقص المعروض السلعي مع تعافي الطلب العالمي والمحلي الذي بدأ منذ عام 2021.. تقييد الاستيراد إلا عبر الاعتمادات المستندية تسبب في وقوف المستوردين في قوائم انتظار طويلة، دفع ثمنها المستهلك النهائي ومستهلك السلع الوسيطة.
أما فيما يتعلّق بشبهة تعارض المصالح التي ربما تشوب عمل زوجة السيد المحافظ السابق، فهي أمر لن أخوض فيه وأتركه للجهات المختصة، لكن أذكره هنا لأنه كان موضوعا لتحركات برلمانية سابقة ضد المحافظ، تسببت في خلق عداوات أيضاً مع عدد من النواب المحترمين، بسبب شخصنة المحافظ لمواقفهم الوطنية بغير داع!
في النهاية لم يتحقق خلال سنوات تولي السيد عامر لمنصب محافظ المركزي مستهدفات الشمول المالي، ودليلنا على ذلك شيوع ظاهرة “المستريحين” في مختلف ربوع مصر وخاصة في الريف الذي تشبّع بعدد كبير من النصابين الذين ينهبون فوائض ومدخرات المواطنين بزعم توظيفها خارج الجهاز المصرفي، الذي أصبحت معدلات الفائدة الحقيقية فيه سالبة، وذلك حينما يلتهم التضخم قيمة الفائدة المصرفية ويتخطاها.
عندما صرح المحافظ السابق للمركزي بأن الدولار سيكون بأربعة جنيهات وضع لنفسه هدفا حاسبه المواطن عليه، خاصة بعدما اقترب الدولار من العشرين جنيها عند كتابة تلك السطور، ارتفاعا من قرابة الثمانية جنيهات عند تولي السيد عامر مهام منصبه!
د/مدحت نافع كاتب ومحلل اقتصادي