تعتبر السياسات التقشفية الدواء الأساسي الذي يفرضه صندوق النقد الدولي على الحكومات التي تتعاطى معه. بدعوى أن انخفاض عجز الموازنة العامة يؤدي إلى الثقة في الاقتصاد لكنها في حقيقة الأمر مجرد حقنة مسكنة، تشتد بعدها تداعيات المرض.

تتعلق السياسات التقشفية بالإجراءات التي يتم اتخاذها لتخفيض عجز الموازنة المالية للدولة عبر تخفيض الإنفاق الحكومي خاصة الدعم وفي بعض الأحيان الأجور، وزيادة الإيرادات عبر زيادة حصيلة الضرائب.

اقرأ ايضا.. قراءة في مشروع الموازنة الجديدة.. توسعية في الأرقام تقشفية في المضمون

يرتبط التقشف في غالبية الأحوال بوجود قروض ضخمة من جهات خارجية ممنوحة للدولة للخروج من الأزمات المالية، ومن أشهر مطبقيه صندوق النقد، الذي لديه برنامج تقشفي ثابت بتخفيض نسبة الدعم خاصة سعر صرف العملة. وتحرير أسعار الغذاء والوقود وزيادة الأوعية الضريبية، رغم أن تلك السياسة أثبت أن التقشف هو الانكماش الذي يؤدي لمزيد من الانكماش.

التاريخ يشير إلى أن السياسات التقشفية لم تؤت ثمارها في الدول التي طبقتها، مثل البـرتغال وأيـرلندا وإيطاليا واليونان وإسبانيا في أعقاب أزمة 2008. وكانت النتيجة انكماش اقتصادي بدلا من النمو، وارتفاع الديون بدلا من تراجعها.

بيانات المؤسسات الدولية تؤكد تلك الحقيقة، فنسبة الديـن إلى الناتج المحلي الإجمالي ارتفعت في البـرتغال من 62% عام 2006 إلى 126% عام 2012. وأيـرلندا من 25% إلى 119% واليونان من 103% إلى 159%، وإيطاليا من 102% إلى 123% وإسبانيا من 39% إلى %85 في الفترة المقارنة ذاتها.

إذا كان الهدف من التقشف هو نمو الاقتصاد فإن ذلك الأمر لم يتحقق أيضا في جميع الدول سالفة الذكر، فنمو البرتغال هبط من 1.55% عام 2006 إلى سالب 4%. وأيـرلندا من 5.52% إلى 0.04%, َواليونان، من 5.65% إلى سالب 7.3%، وإيطاليا مـن 2.01% إلى سالب 2.82% وإسبانيا من 4.17% إلى سالب 2.93% خلال الفترة المقارنة.

وزير المالية

التقشف التوسعي.. العيوب حاضرة أيضا

تحاول بعض الدول استخدام نموذج آخر من التقشف هو “التقشف التوسعي”، بتخفيض معدلات العجز في المالية العامة ما ينحفض معه مستويات الدين والحاجة إلى الاقتراض، الأمر الذي ينعكس في النهاية عبيد النمو.

من الناحية النظرية، قد يبدو “التقشف التوسعي” أقل سوءا من التقشف التقليدي. لكن الناحية العملية تشير إلى عدم فاعليته في تحفيز الناتج المحلى الإجمالي الحقيقي أيضا.

البرازيل كانت أوضح الأمثلة على ذلك النوع من التقشف، فالعلاقة بين الإنفاق الحكومي والخاص أظهرت أثرا تكامليا. ما يعني أن تلك السياسة فشلت في تحفيز النمو الاقتصادي. كما فشلت في معالجة البطالة، بينما كانت الميزة الأساسية له هي علاج التضخم.

يعتبر البعض التقشف بمثابة حقنة مسكنة لتخفيف آلام الأزمات الاقتصادية لكنها لا تقدم حلا جذريا. إذ تنتج أثارا انكماشية على الاقتصاد. بالإضافة إلى تفاقم حالة الركود.

حينما ترتفع الديون تزيد معها مخاطر التخلف عن السداد، وللتعويض عن تلك المخاطر يطلب المستثمرون فائدة أعلى. وبالتالي من الصعب أن ينخفض سعر الفائدة في الاقتصاد، عندما يكون الدين مرتفعا.

توجه اقتصادي لا يمكن رصده

اعتبار المستوى الفعلي للإنفاق الحكومي تقشف هو أمر مضلل، ففي حالة الركود الاقتصادي يزداد عجز الحكومة تلقائيا بسبب انخفاض الإيرادات الضريبية التي يتم جمعها من الشركات (إذا كانت أرباح الشركات ضعيفة فستقل معها الضرائب)، وزيادة الإنفاق على إعانات البطالة في الوقت ذاته.

في حالات أخرى، ترفع الحكومات مزايا الرعاية الاجتماعية لكنها تخفض استثمارات القطاع العام بمقدار أكبر. فإن التأثير الإجمالي على الإنفاق الحكومي يتضح على أنه تقشف لكنه في الحقيقي ليس تقشفا فعليا.

مجلة “الإيكونوميست” على سبيل المثال تبحث في العجز الهيكلي في الميزانية في أوروبا وتصنف ذلك على أنه تقشف. وأحيانا أخرى يتم اعتبار السياسة النقدية المتشددة “أسعار الفائدة المرتفعة” وسعر الصرف المبالغة في التقييم مثل البلدان التي تتعامل باليورو جزءا من “نهج التقشف” العام للاقتصاد.

سياسة تلقى الزيت على النار

رغم دعم كيانات اقتصادية مثل البنك الدولي وصندوق النقد للسياسات التقشفية لكنها تلقي البنزين على النار. مثلما حدث في اليونان حينما طلب منها خفض إجمالي النفقات العامة على الأجور والرواتب إلى 5.5% وتجميد رواتب الموظفين الحكوميين وتقليص مكافآت العمل الإضافي. وبدلات السفر رفع الضرائب على القيمة المضافة والسيارات المستوردة.

الدول التي طبقت تلك السياسات عانت من الاعتصامات والاحتجاجات مثل المظاهرات التي اندلعت في اليونان وأيرلندا ضد سياسات التقشف المالي عام 2011، التي تحمل دائما انعكاسات على مستوى المعيشة.

منظمة “أوكسفام” طالبت صندوق النقد الدولي بالتخلي عن مطالبه بالتقشف بالنسبة للدول الفقيرة بشكل خاص، على اعتبار أن تلك السياسة تفاقم أزمة الفقر وعدم المساواة. مع فرض الضرائب على المواد الغذائية والوقود وتخفيض الإنفاق، بما قد يؤثر على الخدمات العامة.

تقول المنظمة إن 87% من قروض فيروس كورونا المستجد من صندوق النقد الدولي طلبت من البلدان النامية التي حُرمت من المساواة في الحصول على اللقاحات والتي تواجه بعضا من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم أن تتبنى تدابير تقشفية صارمة جديدة من شأنها أن تزيد من تفاقم الفقر وعدم المساواة.

13 من أصل 15 برنامجا لقروض صندوق النقد الدولي تم التفاوض عليها خلال السنة الثانية للوباء تتطلب تدابير تقشف جديدة مثل الضرائب على الغذاء والوقود أو خفض الإنفاق الذي قد يعرض الخدمات العامة الحيوية للخطر. كما يشجع صندوق النقد الدولي ست دول إضافية على تبني إجراءات مماثلة.

تناقضات صارخة في خطاب الصندوق

حثت رئيسة صندوق النقد الدولي، كريستالينا جورجيفا، أوروبا على عدم تعريض تعافيها الاقتصادي للخطر “بالقوة الخانقة للتقشف”. ومع ذلك طالب بفرض تدابير التقشف على البلدان ذات الدخل المنخفض. وهي دول يحتاج قاطنيها للمساعدة في تعزيز الوصول إلى الخدمات الأساسية والحماية الاجتماعية، وليس الظروف القاسية التي تدفع الناس إلى السقوط، بحسب ” أوكسفام”.

حينما وافقت كينيا وصندوق النقد الدولي على برنامج قرض بقيمة 2.3 مليار دولار عام 2021، تطلب منها تجميد أجور القطاع العام لمدة ثلاث سنوات وزيادة الضرائب على الغاز والمواد الغذائية. رغم أن أكثر من 3 ملايين كيني يعاني جوعا حادا حيث أدت الظروف الأكثر جفافا منذ عقود إلى انتشار الجفاف المدمر في جميع أنحاء البلاد. ما يقرب من نصف جميع الأسر في كينيا مضطرون إلى اقتراض الطعام أو شرائه عن طريق الائتمان.

يُطلب من 9 دول، بما في ذلك الكاميرون والسنغال وسورينام، إدخال أو زيادة تحصيل ضرائب القيمة المضافة والتي غالبا ما تنطبق على المنتجات اليومية مثل الطعام والملابس. وتقع بشكل غير متناسب على الأشخاص الذين يعيشون في فقر. كما طُلب من السودان، إلغاء دعم الوقود الذي سيصيب الأشد فقرا، في بلد يحتاج أكثر من 14 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية (ما يقرب من واحد من كل ثلاثة أشخاص) ويعاني 9.8 مليون شخص من انعدام الأمن الغذائي.

من المرجح أن تقوم 10 دول، بما في ذلك كينيا وناميبيا، بتجميد أو خفض أجور ووظائف القطاع العام. ما قد يعني تدني جودة التعليم وقلة عدد الممرضات والأطباء في البلدان التي تعاني بالفعل من نقص في طاقم الرعاية الصحية فناميبيا كان لديها أقل من ستة أطباء لكل 10 آلاف شخص.

يكشف تحليل جديد أجرته منظمة أوكسفام ومنظمة تمويل التنمية الدولية (DFI) أن 43 من أصل 55 دولة عضو في الاتحاد الأفريقي تواجه تخفيضات في الإنفاق العام يبلغ مجموعها 183 مليار دولار على مدى السنوات الخمس المقبلة. إذا تم تنفيذ هذه التخفيضات فمن المرجح أن تتلاشى فرصهم في تحقيق أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة.