شب الصغير في سنواته الأولى ليجد والده فنانا دمياطيا مهنته الحفر على الخشب. يرسم زخارف وأشكالا تخطف عيون الناظرين. مثله كباقي أبناء مدينته. “أويمجي” عشق مهنته التي أورثها لابنه ليقرر الأخير عدم استكمال دراسته ومساعدة أسرته بما تعلم ويحب. عمل الشاب أصبح الآن ضروريا لإصابة والده بانفصال في شبكية العين بعد أن اخترقتها قطعة خشب.

لكن “محمود” لم يكن يدري أن حالة الركود التي يعاني منها ستكون شبيهة بحال قلعة الصناعة في مصر “دمياط“.. المحافظة التي تعاني اليوم الكساد والإغلاق والخسارة. بعد أن ضربتها حرب أوكرانيا وهزتها أزمة الدولار وغلاء الأسعار.

من صنايعي لصبي قهوجي

ورش الأثاث في دمياط

“محمود” عمل طوال 32 سنة نجار صالونات، كان يعمل 15 ساعة يوميا. قبل عامين ونصف فوجئ بالاستغناء عنه هو مع 4 آخرين بدعوى قلة العمل وعدم الحاجة إليهم. يحكي “محمود” تفاصيل قصته لـ”مصر 360″.

يقول: “حسيت أن كارثة حلت على راسي بعد ما مشيت من الشغل في الوقت ده. كنت بجهز شقتي للزواج ومديون مش عارف هسدد ديوني منين. قررت وقتها العمل في أي شغلانة حلال هلاقيها والتراجع عن مشروع الزواج. أنا مش هرتبط بواحدة أظلمها معايا وأنا شغلي على كف عفريت” .

يرجع “محمود” بالذاكرة بعد تركه العمل في الورشة رغم السنين. يقول: “من وقتها وأنا بتردد على ورشة بعد ورشة لكن أطول مرة اشتغلت فيها لم يستمر العمل أكثر من 4 أشهر. لكن قبل 10 أشهر اضطريت اشتغل صبي قهوجي لكن الوضع أسوأ من عملي في الورشة. في القهوة بشتغل 18 ساعة متواصل وصاحبها بيقولي مفيش غير 70 جنيها أجرتك في اليوم، وبيماطل كمان مش عايز يديني فلوسي من 3 أسابيع كأني بشحت منه”.

أصبح الشاب لا يهتم بأي شيء، حتى أخبار المنتحرين الشباب من أبناء محافظته بعد وقوفهم في طابور العاطلين، أصبحت لا تجد لديه أي اهتمام. بدأ يفكر في الهجرة كما راوده الانتحار أيضا عدة مرات بعد أن ضاقت به الدنيا.

“لن أنسى كلمات أصحاب العمل لما أسألهم على شغل، كان ردهم إحنا مديونين للتجار والعمال مشيت.. أو إحنا قافلين الورشة أصلا ومش عارفين هنفتحها تاني و لا لأ”.. يتذكر “محمود” ابن محافظة دمياط.

دمياط “اليابان المصرية”

سفن الصيد في دمياط

اشتهرت دمياط بالحرف المتعلقة بصناعة الأثاث. توارثها أبناء المحافظة أبا عن جد. إذ لا يخلو شارع من شوارعها من ورش النجارة أو الأويما. ووفق مصادر بالغرفة التجارية في دمياط يصل عدد الورش والمعارض المسجلة في المحافظة إلى 13 ألف يعمل فيها 350 ألف صانع وفني.

سُميت دمياط في وقت من الأوقات بـ”اليابان المصرية”، فبجانب صناعة الأثاث امتلكت المحافظة أكبر أسطول لصيد الأسماك في مصر. بإجمالي 65% من السفن التجارية المصرية علاوة على تميزها وشهرتها في مجال صناعة الحلويات التي وصلت إلى العالمية.

من ناحية أخرى، تستورد دمياط أخشاب الزان والسويد والأرو والأبلكاش اللازمة لصناعة الموبيليا. كما يشارك عمالها المهرة في معارض “صنع في دمياط” على مدار السنوات الماضية. تلك المعارض تحقق نسبة مبيعات كبيرة كان آخرها مبيعات شهر يونيو/حزيران الماضي بحجم مبيعات وصل إلى 60 مليون جنيه.

ماذا فعلت حرب أوكرانيا؟

“ارتفعت أسعار الخامات المستخدمة في تصنيع الموبيليا منذ الحرب الروسية الأوكرانية بنسب تتراوح من 15 لـ60%”.. يقول محسن التاجوري، نائب رئيس شعبة مستوردي الأخشاب بالغرفة التجارية بالقاهرة لـ”مصر 360″. إذ أكد أن أسعار جميع المواد ارتفعت حيث زادت إكسسوارات المقابض على سبيل المثال بنسبة 15% أما خشب الأرو ارتفع سعر المتر منه حتى وصل إلى 30 ألف جنيه.

“المشكلة أن الموضوع ده جاي بعد أزمة كورونا، اللي أثرت علينا، ولسة مفوقناش منها.. وتسببت حرب أوكرانيا في ارتفاع كبير في أسعار الخامات كالأخشاب التي يتم استيرادها من البلاد طرفي الحرب. كما تراجعت حتى 20%، رغم أن الصيف هو موسم بيع الأخشاب والأثاث في مصر بشكل عام، لكن مع إغلاق العديد من الورش تفاقمت حالة الكساد”. يؤكد التاجوري.

لكن في الحقيقة أزمة دمياط ليست وليدة اللحظة، الأمر بدأ منذ سنوات عندما بدأ عدد كبير من العاملين في صناعة الأثاث خاصة النجارة والأويما، في هجرة حرفتهم والعمل في مهن جديدة كعمال مقهى أو دليفري للصيدليات والمطاعم أو حراس أمن أو بائعي خضروات وفواكه. لكن الوضع ازداد سوءا بعد حرب أوكرانيا حيث أغلقت 25% من الورش بحسب تصريح رئيس شعبة الأخشاب بالغرفة العامة لـ”مصر 360″. كما أرجع السبب في ذلك لزيادة أسعار الخامات المستخدمة في الصناعة، وانخفاض المبيعات بسبب الأزمة الاقتصادية.

من صاحب ورشة لعامل

عامل في صناعة الأثاث

الحاج “نبيل عبد الغني” 57 سنة، تعلم خراطة الأخشاب منذ أن كان في السابعة من عمره. انقلب حاله فجأة. فبعد أن كان صاحب عمل يمتلك ورشة قرر إغلاقها قبل عامين لتوقف عمله بشكل شبه تام. الورشة لم تعد تدر أي ربح وفي نفس الوقت هو رب أسرة لثلاثة أبناء في مراحل التعليم المختلفة ومحمل بمصروفات كبيرة منها إيجار مسكنه. فجأة تحول “عبدالغني” إلى عامل باليومية لدى الغير وأغلق ورشته التي عمل فيها طوال 36 عاما.

“عبد الغني” قال لـ”مصر 360″: “في يوم وليلة قررت إغلاق ورشتي التي افتتحتها عام 1984 لم يعد هناك شغل جاي وأنا راجل مسئول عن أسرة ومريض عندي مصاريف علاج شهرية وعيال مسئول عنهم سواء ورشتي اشتغلت أم لا، مكنش في أدامي غير إني أقفل الورشة واشتغل عند الناس. لكن انا بتمنى أرجع ورشتي تاني بدل البهدلة”.

ارتفاع أسعار الخامات

تعلم مهنة النجارة على يد شقيقه الأكبر منذ أن كان عمره 8 سنوات، وقرر أن ينتهج نفس نهجه ليقضي سنوات عمره في مهنة النجارة، التي لم يعرف سواها. ظل يتعلم ويعمل مع شقيقه إلى أن قرر الاستقلال بورشته الخاصة في سن الـ25. لم يكن يعلم أن غلاء خامات التصنيع وديونه التي تراكمت لدى تجار الجملة ستدفعه لإغلاق ورشته.

الأزمة ضربت أصحاب الورش الصغيرة بصفة خاصة، أصبحوا غير قادرين على الوفاء بأجور العمالة أو شراء المواد الخام المحلية أو المستوردة. يقول “عزيز السيد” 48 عاما لـ”مصر 360″: “كل يوم والثاني خامات التصنيع بتزيد عليا وأنا مديون لتاجر الخامة بـ50 ألف جنيه. أنا صاحب أسرة مسئول عن 3 أبناء في مراحل التعليم المختلفة. ده غير أني ملزم بسداد إيجار ورشة وشقة كل شهر. كل ده خلاني أقفل محلي وورشتي وأروح اشتغل في مصنع في دمياط الجديدة”.

إغلاق 25% من الورش

عامل في دمياط الجديدة

من ناحية أخرى، يقول محمد الحطاب مستشار نقابة صناع الأثاث بمحافظة دمياط لـ”مصر 360″: “لو التاجر عنده خامات قديمة في مخازنه بعد زيادة الأسعار بيبيعها بالسعر الجديد، رغم أنها كانت قديمة عنده، لكن هو مضطر يعمل كدة عشان يعرف يشتري خامات بالأسعار الجديدة. السنة الأخيرة أغلق 25% من الورش الصغيرة ومن يعمل حاليا فاتح أبوابه لعدد محدود من العمالة لكنه أكيد استغنى عن الباقي”.

يقول الحطاب إن غلاء أسعار الخامات ليس السبب الوحيد في أزمات الصناعة وأصحاب الورش في دمياط. إذ أن بعض التجار استغلوا الأزمة واشتروا أثاث الورش بأقل من سعر تكلفته ليعرضوه في معارضهم بأسعار أغلى من السوق. ما أدى لإغلاق عدد كبير من الورش والمصانع الصغيرة.

يرى الحطاب، أن المشكلة الأساسية تكمن في عدم بيع أصحاب الورش لإنتاجهم بالسعر العادل له، والسماح بيعه بأقل كثيرا من قيمته. إذ أنه من المفترض أنه بعد غلاء الخامات، لابد أن يرفع سعر الإنتاج ليستطيع كل صاحب ورشة سداد ديونه خاصة وأنه يشتري الخامات بالأجل. يقول: “مينفعش الطقم يكون مكلفني كصانع مثلا 10000 جنيه أروح للتاجر أعرضه عليه فيعرض عليا 7000 جنيه وأوافق مهما كانت ظروفي”.

كابوس الماكينات الصينية

ماكينة cnc

في الفترة ما بين 2012 و2013 أدخل عدد من نواب جماعة الإخوان ممن يمتلكون مصانع وورش، نوعا حديثا من الماكينات يسمى بالماكينات الصيني أو الـ CNC. تلك الماكينات تستطيع تنفيذ مهام الصانع “الأويمجي” بكل دقة. إذ تحفر الماكينة على الخشب في وقت أسرع من الصانع الذي يقوم بالمهمة يدويا بإبداع وبراعة مستخدما “الدفرة والأزميل والمثلث”. بعد دخول الماكينة بدأ عدد من أصحاب العمل في الاستغناء عن عمالهم ومن بقى منهم في المجال، بات لا يحصل على نفس الأجر الذي كان يحصل عليه سابقا.

32 سنة مع الأثاث

لم يستكمل تعليمه توقف عند المرحلة الإعدادية ليخرج “محمود خير الله” 47 عاما، الشهير بـ”الأويمجي”. وكعادة أبناء محافظته، تعلم فنون الحرفة وبات عاشقا لها. ظل طوال 32 عاما يمارس مهنته التي لم يعرف سواها حتى انقلبت حياته رأسا على عقب.

قبل ثلاث سنوات استعان صاحب ورشته بماكينات CNC، ليقرر بعدها الاستغناء عنه وعن غيره من العمال. ظل يتردد على عدد من الورش لكن عمله لم يستمر لأكثر من أسبوع واحد على أقصى حد، قبل أن يتم الاستغناء عنه مجددا ولكونه مسئول عن أسرة مكونة من 4 أفراد قرر أن يبحث عن مهنة أخرى بديلة.

يحكى محمود تفاصيل قصته لـ”مصر 360″ قائلا: “بعد أن كنت صنايعي يطلب بالاسم للعمل في الورش أويمجي، أصبحت لا أجد عملا بعد أن اشترت أغلب الورش ماكينات CNC ليتم الاستغناء عن الأويمجية الشاطرين. الماكينة مهما عملت لا يمكن أن تنتج طقم أثاث بذات مهارة الأويمجي. مش هنسى لما صاحب الورشة اللي اشتغلت معاه أكثر من 12 عاما وبعد خدمة السنين دي كلها يقول لي ريح لك أسبوعين في البيت يا محمود. مطلبنيش بعد كدة طبعا. حاليا أنا شغال حارس أمن في مستشفى حكومي، باخد  1000 جنيه في الشهر بعد أن كان أقل دخل لي من الأويما 3000 جنيه شهريا. أنا واحد زي كتير سابوا الشغلانة”.

الحرب

أحد عمال الأويمة في دمياط

من ناحيته قال منير راغب القصاب رئيس شعبة الأخشاب بالغرفة التجارية بالقاهرة لـ”مصر 360″ إن أسعار الخامات ارتفعت 40% منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية ما أدى لتراجع حجم المبيعات بنسبة تقدر بـ50%. “للأسف بعض التجار استغلوا الموقف ورفعوا أسعار الخامات فترة وقف الاستيراد، وده أدى لإغلاق 20% من الورش الصغيرة”. يضيف القصاب.

البرلماني ضياء بصل، أحد العاملين على ملف إنقاذ صناعة الأثاث مع الجهات المسؤولة في الدولة، يرى أن أزمة الصناعة تتمثل في استغلال التجار للصناع وليس رفع أسعار الخامات. يقول لـ”مصر 360″ إن زيادة أسعار الخامات أمر طبيعي، لكن المشكلة في من يشتري إنتاج الورش بقيم أقل من السعر العادل لها. كما يرى أن عدم اقتناع الصناع بأهمية التطوير والميكنة كان له أثر سلبي على عملهم، رغم أن الكثير ممن استخدموا الميكنة اقتحموا الأسواق العربية والأفريقية والأوروبية.

ودلل على أن الأزمة ليست أزمة ارتفاع أسعار خامات. إذ قال إن حجم مبيعات معارض “صنع في دمياط” والتي تقيمها الدولة كل فترة للترويج لصناعة الأثاث، مرتفعة وخارح التوقعات. حيث بلغت أرباح المعرض الأخير المنعقد في يونيو/حزيران الماضي خير دليل. كذلك تم مد المعرض لـ15 يوما بدلا من 10 أيام فقط نتيجة الإقبال الكبير.

أين الدولة؟

يتوقع محمد الحطاب مستشار نقابة صناع الأثاث في دمياط، استمرار الأزمة حتى تستقر السوق العالمية. خاصة وأن أسعار الجمارك والتأمين على الخامات المستوردة، والتي يسددها التجار قبل نزول الشحنة في الميناء من المراكب، مازالت مرتفعة للغاية.

أما البرلماني ضياء بصل فيقول إنه لن تقوم صناعة الأثاث في مصر بصفة عامة ودمياط بصفة خاصة إلا من خلال مدينة الأثاث بشطا على مساحة 331 فدانا. كما تضم عددا كبيرا من الهناجر. حيث سيتم العمل خلال الفترة المقبلة على تصنيع خامات مستخدمة في تصنيع الأثاث كالمقابض والإسفنج وألواح الكونتر والأبلكاش، متوقعا أن تصبح مدينة عالمية.

أما منير راغب القصاب رئيس شعبة الأخشاب بالغرفة التجارية بالقاهرة، فيطالب الجهات المعنية في الدولة بتسهيل الإجراءات الجمركية على المستوردين وخفض الرسوم. كذلك تسهيل عمليات الإفراج الجمركي عن الشحنات القادمة من الخارج.

أما محسن التاجوري نائب رئيس شعبة مستوردي الأخشاب بغرفة القاهرة طالب بـ”توحيد الرسوم الإدارية للبنوك وتسهيل إجراءات الإفراج الجمركي. بالإضافة إلى الحد من استيراد السلع الاستفزازية لتقليل الطلب على الدولار. كما أشار إلى أن البعض استغل الموقف ورفع أسعار الخامات رغم أنها كانت لديه قبل الزيادة”.