تزامنا مع ما يتردد عن قرب إنهاء الاتفاق النووي بين الغرب وإيران أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات دراسة بعنوان “الروابط بين إيران والصين: تضافر الاستراتيجيات الجغرافية الاقتصادية”. وتناولت الورقة مرتكزات العلاقات الصينية الإيرانية في ضوء الجغرافيا السياسية والاقتصادية.
واعتمدت الدراسة -التي أعدتها الباحثة ديبيكا ساراسوات المختصة بالجغرافيا السياسية لإيران في الشرق الأوسط والمنطقة الأوروبية الآسيوية- على تحليل تطور العلاقات بين إيران والصين.
وتناولت الدراسة التغيرات في النظام العالمي بعد الحرب الباردة. فيما تركز على مجالات التعاون بما فيها توقيع إيران والصين اتفاقية تعاون استراتيجي مدتها 25 عامًا في آذار/مارس 2021. كما ترصد أشكال التعاون المتنامي مع إيران في مجال الاقتصاد والدفاع بوصفهما عاملين “يقوضان فاعلية العقوبات الأمريكية”. ويهدفان في الوقت ذاته إلى تحدي القيادة الأمريكية في الشرق الأوسط.
تطرح “ديبيكا ساراسوات” التعاون الاستراتيجي طويل الأمد بين إيران والصين ضمن سعيها لبناء شراكات منوعة في آسيا والشرق الأوسط. وهذا التعاون يأخذ مسارا تصاعديا لا يقتصر على ما تشكّله من قيم رمزية مناهضة للأحادية الأمريكية. بل أيضا تعبيرا عن التعاون المتنامي بين إيران والصين في مجال الدفاع.
وتفند الورقة أوجه ودلالات التعاون المرتكز على عاملين. العوامل الجغرافية-الاقتصادية المحركة للشراكة. وثانيا أشكال التعاون الأمني.
عوامل جغرافية-اقتصادية
ضمن العوامل الاقتصادية والجغرافيا السياسية تطرح الدراسة مرتكزات ثلاثة للعلاقة بين الصين وايران. أولها مبادرة الحزام والطريق. وما يتعلق بربط إيران بالبحر المتوسط. وثانيا الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني. وثالثا مواجهة إيران العقوبات الأمريكية. وذلك عبر الانخراط في منظمة شنغهاي للتعاون. والتي تشكل كما تصفها الورقة البحثية “رد جمْعي” على العقوبات الأمريكية.
وترى الدراسة أن الولايات المتحدة مارست سياسة الاحتواء للحد من نفوذ إيران الاقتصادي والجيوسياسي. بينما ترى إيران في مبادرة الحزام والطريق فرصةً كبيرةً لجذب الاستثمارات لمشاريع النقل والطاقة. إذ تسعى لتعزيز ترابط عابر للقارات. والترويج لنظام اقتصادي عالمي خارج هيمنة واشنطن.
وستمكن المبادرة إيران من الاندماج في المنطقة الأوراسية لتصبح جسرًا يربط بين أوروبا وآسيا.
ويعزز ذلك البنية السياسية التي تتشاركها إيران والصين في تحقيق “السلام التنموي” في المنطقة.
مصالح استراتيجية بالإقليم
بذلت إيران جهدًا لتعزيز نفوذها الجيوسياسي في العراق وسوريا. بغية إنشاء ممر للتجارة والنقل من الخليج إلى سوريا ولبنان على طول ساحل البحر الأبيض المتوسط. وفي الوقت نفسه كانت طهران تلفت انتباه بكين إلى هذه الطريق البرية الجنوبية ضمن ممر الصين-آسيا الوسطى-غرب آسيا في مبادرة الحزام والطريق.
كانت فكرة ممر النقل محور نقاشات جادة بعد أن سيطرت قوات الأمن السورية وحلفاؤها العراقيون على منطقة البوكمال قرب الحدود العراقية. وحرّرتها من تنظيم “داعش” في نوفمبر/تشرين الثاني 2017.
وبدأت إيران والعراق محادثات لإعداد خطط استكمال خط سكة حديد يبلغ طوله 40 كيلومترًا يربط مدينة الشلامجة في جنوب غرب إيران بمدينة البصرة في العراق. ومع استكمال المشروع سيجري ربط شبكات السكك الحديدية للبلدين وسيُقرّب إيران من سوريا. هذا ليس بعيدا عن استخدام الصين وروسيا حق النقض ضد العديد من مشاريع قرارات مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيما يخص أزمة سوريا. متذرّعتين في أغلب الأحيان بدعم سيادة سوريا الوطنية وسلامة أراضيها.
مصالح تجمع البلدين
في زيارة وزير الخارجية الصيني -وانج يي- في يوليو/تموز 2021. اقترح خطة من أربع نقاط دعت إلى رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا. وإعطاء الأولوية لعملية إعادة الإعمار. وطالب بـ”احترام خيار الشعب السوري”. مضفيًا الشرعية على عملية إعادة انتخاب بشار الأسد في مايو/أيار 2021.
وسبق ورحّب رئيس هيئة التخطيط والتعاون الدولي في سوريا -الذي وقّع مذكرة التفاهم عن الجانب السوري- بدور الصين في عمليتي إعادة الإعمار. وهي تضم أنشطة في قطاع النقل وطريقا برية سريعة وإنشاء سكك حديدية ومنطقة تجارة حرة صينية في ميناء اللاذقية.
أما إيران فقد أطلقت خطًّا ملاحيًّا مباشرًا بين مدينتي بندر عباس [المطلة على مضيق هرمز] واللاذقية في مايو/أيار 2021. ويحرص البلدان على تأمين ربط السكك الحديدية بين الميناءين عبر العراق.
وعززت الصين استثماراتها في مجالَي الطاقة والبنى التحتية في العراق. إذ حصلت على تمويل بقيمة 10.5 مليارات دولار لمصلحة مشاريع الطاقة والبنى التحتية.
ورحبت إيران بذلك في إطار الحد من الوجود الاقتصادي والأمني للولايات المتحدة في العراق.
وفي عام 2019 وقّع رئيس الوزراء العراقي السابق عادل عبد المهدي خلال زيارة إلى الصين اتفاقية “النفط في مقابل إعادة الإعمار”. التي بموجبها يتم إيداع عائدات النفط في صندوق استثمار مشترك لاستخدامها في مشاريع البنى التحتية الرئيسة التي تنفذها الشركات الصينية.
الصين واستثمار الاحتجاجات الشعبية
أدت الاحتجاجات الشعبية في العراق إلى تردٍّ حاد في الاستثمار والبيئة الأمنية. ما دفع كبرى شركات النفط الدولية الغربية إلى مغادرة العراق. وكانت هذه الشركات غالبًا ما تبيع حصصها إلى الشركات الصينية التي كانت مستعدة لقبول هوامش ربح أقل في أغلب الأحيان في خمسة عشر حقلًا نفطيًا جنوب العراق.
وفي عام 2019 ظهرت تقارير جديدة تفيد بأن إيران تسعى لتفعيل “خط أنابيب الصداقة” بين إيران والعراق وسوريا لنقل الغاز الطبيعي من إيران إلى مرفأ بانياس المطل على البحر الأبيض المتوسط في سوريا.
ففي عام 2011 وقّعت إيران والعراق وسوريا اتفاقية مباشرة. وتعهّدت إيران بموجبها ببناء خط أنابيب طوله ستة آلاف كيلومتر. يتيح لها الالتفاف على العقوبات وتجنّب مضيق هرمز في حال نشوب مواجهة عسكرية تكون إيران طرفًا فيها.
المشاريع المتشعبة الفائدة
تأمل إيران في أن يتوسع المشروع الرائد لمبادرة الحزام والطريق. المرتبطة بالممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني China Pakistan Economic Corridor, CPEC ليصبح ممرًا للتجارة والطاقة يمتد من الخليج -عبر باكستان- وصولًا إلى غرب إقليم شينجيانج الغربي.
وتسعى طهران للاستفادة من الاستثمارات الصينية لتحويل ساحل مكران إلى قوة في مجال الصناعة والطاقة. وترى إيران أن البنى التحتية للطاقة في الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني فرصة اقتصادية.
وبعد توقيع اتفاقية شراء الغاز في عام 2009 استكملت في عام 2011 بناء القسم الخاص بها من خط الأنابيب. حتى إنها عرضت تمويل القسم الباكستاني في عام 2013. كما عرضت إيران على الهند تسهيل الوصول إلى احتياطيات النفط الاستراتيجية في ميناء جاسك. وإلى خط أنابيب غاز مستقل يمتد من جزيرة جاسك إلى الهند.
وضاعفت إيران جهودها الساعية لتنويع نشاطها الاقتصادي وزيادة الصادرات غير النفطية. بخاصة إلى الدول المجاورة لها. في الوقت الذي تراجعت صادراتها النفطية بفعل العقوبات الأمريكية. ويبقى اهتمام إيران مركّزًا على مناطق التجارة الحرة الممتدة على طول ساحل الخليج.
إيران في “شنغهاي”
عضوية إيران في منظمة شنغهاي للتعاونأبدت إيران حماستها للتجمعات المتعددة الأطراف التي يمكنها احتواء قوة الولايات المتحدة المهيمنة ضمن النظام المالي الدولي. فتشجعت لمجموعة البريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا. وتشجعت لمنظمة شنغهاي للتعاون. وأسهمت المنظمة في عملية تواصل إقليمية بين آسيا الوسطى وجنوب آسيا.
وطالبت إيران بتعزيز البعد الاقتصادي للمنظمة بغية مواجهة العقوبات الأمريكية أحادية الجانب.
الحد من “سويفت”
وتعمل طهران على توسيع نطاق استخدام العملات الوطنية في التسويات التجارية الثنائية. بوصفها عملية يتيحها انتشار نظام مقاصة بديلة للمدفوعات ونظام تسوية مثل نظام التحويل المالي بالتراسل لدى مصرف روسيا Financial Messages Transfer System, SPFS.
وقد أُدخل هذا النظام إلى أنظمة مصارف الدول الأعضاء في الاتحاد الاقتصادي للمنطقة الأوراسية في عام 2019. إضافة إلى نظم الدفع فيما بين المصارف عبر الحدود Cross-Border Interbank Payment System, CIPS الذي أطلقته بكين في عام 2015. وذلك لتخليص معاملات بعملة اليوان الصينية عبر الحدود وتسويتها. وسعت من ثم لتدويل اليوان.
لا شك في أن اجتياح روسيا لأوكرانيا والعقوبات المنسقة التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها على نظام روسيا المصرفي. بما في ذلك استبعاد المصارف الروسية من نظام التراسل المصرفي الذي يُعرف بـ”سويفت” SWIFT.. أثار المزيد من القلق بشأن قدرة الغرب على فرض سيطرته بالقوة على النظام المصرفي والمالي العالمي.
لقد جددت هذه العقوبات المفروضة على روسيا -التي يحتل اقتصادها المرتبة الحادية عشرة عالميا- النقاشَ بشأن صلاحية بدائل نظام سويفت في آسيا.
وفي مايو/أيار 2022 اتفقت روسيا وإيران على التحول إلى العملات الوطنية في تسوية عمليات التداول من خلال استخدام نظام التحويل المالي بالتراسل.
وفي السياق نفسه تعمل الصين على تسوية عمليات تداولها في تجارة الطاقة مع روسيا بعملة اليوان.
ثانيًا: التعاون الأمني
ترى إيران الوجود العسكري الأمريكي بخاصة في منطقة الخليج تهديدا للاستقرار الإقليمي ولقوتها ونفوذها في المنطقة. كما تسعى للاستفادة من الاستراتيجيات الروسية والصينية من خلال إبراز نفسها قوة إقليمية مستقلة.
وتوثقت العلاقات الدفاعية بين إيران والصين مع تنفيذ خطة العمل الشاملة المشتركة في عام 2016 إذ وقّع البلدان اتفاقية ثنائية للتعاون العسكري. تعهّدا فيها بتوثيق التعاون. بما في ذلك التدريب المشترك على عمليات مكافحة الإرهاب.
وأجرت إيران والصين تدريبات بحرية مشتركة بالقرب من مضيق هرمز في يوليو/تموز 2017. في الوقت الذي كانت البحرية الأمريكية تَتهم إيران بإرسال زوارق هجوم سريعة لاستفزاز السفن الحربية الأمريكية التي تمرّ عبر مضيق هرمز.
كما أدت سلسلة الحوادث التي عطّلت عمليات الشحن في الخليج في صيف 2019 إلى اضطلاع بكين بدور أمني أكبر لحماية حرية الملاحة الضرورية من أجل أمنها في مجال الطاقة.
وجاء ذلك في الوقت الذي شكّلت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تحالفًا بحريًا دوليًا ضم حلفاءها الإقليميين وشمل الإمارات والسعودية والبحرين. إضافة إلى أستراليا والمملكة المتحدة. في حين كانت تتهم فيه مشترين آسيويين لنفط الشرق الأوسط بـ”الانتفاع المجاني” من الوجود الأمني الأمريكي في المنطقة.
وفي وقت لاحق أجرت إيران والصين وروسيا مناورة بحرية ثلاثية عُرفت بـ”الحزام الأمني البحري” في خليج عُمان في ديسمبر/كانون الأول 2019. وأتت للتشديد على شراكة الصين وروسيا في ضمان الأمن في الممر المائي الحيوي. وأشارت إلى توفير دعم دبلوماسي سياسي لإيران.
ترابط السياسة والاقتصاد
بجانب علاقتها بالصين أسست إيران أيضًا لنفوذ جيوسياسي في العراق وسوريا وأماكن أخرى في المنطقة. وركزت استراتيجيتها على الاستفادة من النفوذ الجيوسياسي. كما تسعى من خلال انضمامها إلى مبادرة الحزام والطريق وتأسيس شراكة طويلة الأمد مع بكين لأن تصبح مركزًا أساسيًا للنقل والطاقة في النظام الاقتصادي الناشئ الذي تقوده الصين.
كان جزء من اعتماد إيران الاقتصادي على الصين يقوم على مواجهة العقوبات وممارسة “الضغوط القصوى” التي تمارسها الولايات المتحدة. وفي إطار ذلك تبرز الدراسة أيضا أن الصراع على سوريا والعراق ولبنان يرتبط بشكل واضح بمصالح إيران الاقتصادية ومشاريعها الاستراتجية في المنطقة العربية.