قبل أربعة أسابيع بالضبط، كتبت في هذه المساحة مقالا عن سجناء الرأي وما تمثله تلك القضية من أهمية على أصعدة متعددة سياسيا وقانونيا وإنسانيا، وكذلك علاقة ذلك الملف بقضية الدعوة للحوار الوطني، الذي تبدو خطواته وإجراءاته في الآونة الأخيرة أكثر تباطؤا وتراجعا عن وتيرتها السابقة، وبعد أن كان ملف هذا الحوار الذى أطلق دعوته رئيس الجمهورية في إفطار الأسرة المصرية في إبريل/ نيسان الماضي محل زخم وتفاعل واسعين، بدا واضحا في الأسابيع الماضية تراجع حجم الاهتمام العام وانخفاض سقف التوقعات لدى كثيرين بل وفتور الحماس في بعض الدوائر التي كانت متفاعلة معه.

بالتأكيد المسائل التحضيرية والإجرائية تحتاج وقتا وجهدا، لكن المؤكد أيضا أن ملف الحوار الوطني يحتاج لدفعة جادة وحقيقية لخطواته ووتيرته، إذا كانت الإرادة نحو إكماله لا تزال حاضرة، وإذا كانت النوايا في أن يكون نقطة انطلاق لمرحلة مختلفة عما سبقه بتوصيات ومخرجات ونتائج تفتح الأفق أمام مجال عام أكثر انفتاحا وحيوية عن السنوات الماضية.

هذه الدفعة المطلوبة في تقديري تشمل خطوات عديدة، منها على سبيل المثال عدم الاستمرار في خطوات كبيرة محل خلاف في قضايا سياسية أو اقتصادية لحين التئام شمل الحوار الذى يفترض بحسب الدعوة له أن يناقش (أولويات العمل الوطني)، وبالتالي لا يتسق الانطلاق في خطوات وقرارات جديدة مهمة ورئيسية تؤثر على سياق المرحلة المقبلة في نفس الوقت الذى يتأخر فيه بدء نقاشات الحوار حول هذه القضايا وغيرها، ومنها أيضا سرعة إنهاء ما يتعلق بالإجراءات التحضيرية للحوار نفسه، والتي تفرعت وتشعبت بأكثر مما ينبغي من مجلس أمناء لمحاور للجان فرعية لمقررين ومقررين مساعدين، كل ذلك دون أن يكون واضحا أو معلنا حتى الآن متى ستبدأ جلسات الحوار الوطني، وما المدى الزمنى المتوقع لتلك النقاشات والجلسات، ومتى يمكن أن ينتظر المجتمع والرأي العام نتائج ومخرجات حقيقية منه، والأهم ما هي تحديدا الموضوعات التي ستناقش في كل لجنة فرعية بعيدا عن العناوين العامة التي طرحت.. ثم طبيعة جلسات هذا الحوار في القضايا المختلفة وهل ستكون جلسات شديدة الاتساع أم جلسات بين أصحاب رأي ومتخصصين وممثلين لقطاعات وقوى وتيارات هذا المجتمع، والأهم طبيعة المدعوين وهل سيكون هناك توازن وتكافؤ في حضور كافة الرؤى ووجهات النظر وبما في ذلك دعوة من يبدون أكثر اختلافا وحدة في النقد حتى لو قرر بعضهم عدم المشاركة.

هذه كلها إشارات ودلالات ومؤشرات، لكن يبقى في القلب منها ما يتعلق بملف سجناء الرأي الذي أعود للحديث عنه مجددا، ففي ضوء ما جرى خلال الشهر الأخير من قرارات عفو أو إخلاء سبيل من النيابة العامة أو غرف المشورة، يبدو حجم التراجع في وتيرة ذلك الملف، الذي كانت عادة الشكوى من البطء فيه وقلة الأعداد التي تخرج في كل دفعة، لكن الشهر الأخير تحديدا هو الأقل سواء من حيث العدد أو التقاطر الزمني، فبينما شهد شهر يونيو أكبر أعداد خرجت منذ بدء تلك المرحلة في إبريل/ نيسان الماضي، وهو ما كان متزامنا مع تفاعلات الحوار الوطني وتشكيل مجلس أمنائه وبدء جلساته، فإن شهر أغسطس/آب حسب المعلومات المتاحة والمعلنة لم يشهد سوى خروج 25 شخصا بقرارات إخلاء سبيل من النيابة العامة ثم 7 آخرين مؤخرا بقرارات من غرف المشورة وسبقتهم في نهاية يوليو دفعة عفو رئاسي عن 7 بينهم الزميل هشام فؤاد والباحث أحمد سمير وآخرون. وهو المعدل الأقل من حيث العدد الإجمالي خلال شهر، أو من حيث الوتيرة الزمنية بين كل دفعة وأخرى.

ربما يبدو هذا التزامن ما بين بطء وتيرة إجراءات الحوار الوطني من ناحية، وتراجع أعداد المفرج عنهم، مثيرا للقلق، لكن ما تحتاجه هذه اللحظة، هو الإعلان عن موعد واضح ومحدد لبدء جلسات الحوار وموضوعات جلساته وخريطتها، وفى نفس الوقت عودة وتيرة الإفراجات سواء بقرارات عفو أو إخلاء سبيل لما هو أوسع وأسرع من وتيرتها الأولى، إذا كنا راغبين في استعادة الحيوية والزخم لهذا الملف كله.

من بين الرسائل التي تمثل أيضا إشارات مهمة ودالة، أن تشمل الإفراجات المقبلة أسماء بعينها، فإذا كانت هناك ثلاثة محاور سياسية واقتصادية واجتماعية، فإن المجتمع السياسي في مصر سيمثل له الإفراج عن اسم زياد العليمي دلالة بالغة الأهمية، فهذا سياسي قيادي في حزب قبض عليه على خلفية مشاركته في الإعداد لتحالف سياسي انتخابي، ثم إن وسيلته الرئيسية هي التعبير عن آرائه ومواقفه بالكلمة لا بالسلاح وممارسته العمل السياسي السلمي لا إنتاج العنف، ثم إن اسم زياد تحديدا من بين الأسماء الشائع أن هناك صعوبات وتعقيدات في قرار الإفراج أو العفو عنه، وبالتالي فاتخاذ تلك الخطوة الآن وليس لاحقا يقدم رسالة أخرى أن حتى الملفات التي بها صعوبات يمكن فتحها وإنهاؤها والتقدم للأمام باتجاه غيرها.. ومجتمع المال والأعمال المهتم والمشارك في الأنشطة الاقتصادية سواء على مستوى الخبرات والرؤى أو على مستوى الممارسة يحتاج أيضا لرسائل من هذا النوع، وهنا يأتي اسم عمر الشنيطي كواحد من هؤلاء الذين يمتلكون رؤى وخبرات حقيقية وجادة ومختلفة في الملفات الاقتصادية، وقد طالت فترة حبسه لتتجاوز الآن 3 سنوات من الحبس الاحتياطي، وبينما يدعى لحوار وطني يحتاج لأن يكون بين من يطرحون آراءهم وأفكارهم فيه من هم مثل عمر وغيره، وربما هناك نماذج أخرى من رجال أعمال لم يتورطوا في فساد أو تمويل عنف يستحقون النظر في ملفاتهم واتخاذ قرارات عاجلة بالإفراج عنهم.

أما ما هو أوسع فهو المجتمع، الذى يظن البعض أنه غير مهتم بملف سجناء الرأي كله، وهو انطباع قد يكون صحيحا في جانب منه، لكن يظل أن كثيرا من الأسر والأهالي بأعداد واسعة عانت في السنوات الماضية من التوسع الشديد في دوائر الاشتباه الأمني وحملات الملاحقة والقبض الواسعة التي تفضي إلى حبس احتياطي يطول مداه الزمنى، وبالتالي فحتى على مستوى المجتمع هناك أهمية لعمليات إفراج واسعة وكبيرة ومتسارعة لكل من لم يثبت تورطه في دم أو عنف، وهى أعداد كبيرة أغلبها أسماء غير معروفة وتستحق آلية ومعايير واضحة ربما أهمها وأبرزها الالتزام بالإفراج عن كل من بلغ سنتين من الحبس الاحتياطي وهو وحده كفيل بالإفراج عن كثيرين، فضلا عن غيرها من الاعتبارات الإنسانية والصحية وغيرها.

بالتأكيد ما ذكرته هنا لا يعدو كونه مجرد أمثلة، فالأسماء التي تستحق في رأينا استعادة حريتها وتصحيح خطأ حبسها كثيرة وعديدة، لكن الإشارات هنا فقط فيما يتعلق بأسماء محددة على سبيل ما تمثله من دلالة، وبالتأكيد هناك آخرون مثل أحمد دومة، وعلاء عبد الفتاح، وهيثم محمدين، وأحمد علام، ويحيى حلوة، ولؤي الخولي، ومحمد الباقر، ومحمد القصاص، وعبد المنعم أبو الفتوح، وهشام جنينة، وأحمد ريجو، ومحمد أكسجين، وخالد لطفي، وأحمد بدوي، ومروة عرفة، وحسن مصطفى، وعمرو نوهان، وحمدي الزعيم، وحسام ناصر، ومحمد بهنسي، وغيرهم كثيرون وكثيرون، ممن أثق شخصيا في عدم تورطهم في أي مما يجعل استمرارهم في السجن أمرا مقبولا أو طبيعيا.

باختصار: يحتاج ملف سجناء الرأي لدفعة ونقلة كبيرة وحقيقية وعاجلة، ويحتاج ملف الحوار الوطني لخطوات أكثر تسارعا ووضوحا، فأوضاع المحلك سر الراهنة لا تتلاءم مع طبيعة اللحظة واستحقاقاتها.