لم يلبث القس أنطونيوس إبراهيم عياد أن أتم الشهرين الأولين بعد رسامته كاهنًا لكنيسة العذراء بالعبور، حتى عاد مرة أخرى يتصدر التريند القبطي بعد أن كلفه البابا تواضروس بالخدمة في يوليو/ تموز الماضي. إذ ينحدر القس أنطونيوس من عائلة شهيرة بالخدمة الكنسية، وهو ابن المعلم إبراهيم عياد رئيس مرتلي الكنيسة الشهير وأحد أشهر معلمي الألحان الكنسية المعاصرين. وكذلك فإن شقيقه يخدم ككاهن بأحد الكنائس القبطية بالمهجر. ما أثار حفيظة كثيرين رأوا في رسامته توريثًا للكهنوت. بينما حظي القس الشاب بدعم كثيرين ممن شاركوه الخدمة الكنسية، مشيدين بثقافته اللاهوتية الواسعة كتلميذ نجيب في مدرسة التيار الآبائي للكنيسة ممن تربوا على كتابات القمص متى المسكين وأثناسيوس وباسيليوس المقاري. غير أن الهجوم على عظة القس الشاب قد تحولت بين ليلة وضحاها لحملة جمع توقيعات لإقالة البابا تواضروس، متهمين إياه بـ”إدخال التعاليم الخاطئة للكنيسة”، ناشرين استمارات على صفحات تأسست حديثًا لهذا الغرض بمواقع التواصل الاجتماعي.
بين الإنسان والخطيئة.. عظة أنطونيوس عياد
يقول القس أنطونيوس -في عظته التي أثارت الجدل: “أحبك يارب يا يسوع المسيح أشكرك يارب يسوع المسيح فقد كان آباء الكنيسة يقولون (يارب يسوع المسيح ارحمني). يقولونها وهم في محضر الله، فحين تقف في محضر الله فأنت في ملأ النعمة فلا توجد خطيئة، لا تقول لله أنا الخاطئ لأنه يعرف”.
يحاول القس أنطونيوس أن يفك الاشتباك في العلاقة بين الله والإنسان والخطيئة. وهي قضية فلسفية عميقة استحوذت على اهتمام بالغ في الفكر اللاهوتي، ويمكن النظر إليها بأكثر من زاوية.
يقول كيرلس بشرى، باحث الدكتوراة بجامعة فيينا: “هل يحتاج المؤمن أن يقول أرحمني يارب أنا الخاطئ؟ ويجيب: نعم نحتاج أن نقولها لأننا نحتاج للاعتراف بالخطيئة. ولكن متى نقولها.. هنا لب المشكلة”.
مركزية المسيح في التعليم الأرثوذكسي
يوضح بشرى: “نعترف بخطايانا عند ممارسة سر الاعتراف أمام الكاهن أو أمام الله، وأقولها كل يوم وأنا أصلي بانسحاق: سامحني يارب وأغفر خطيئتي. ولكنها حالة استثنائية في حياتنا وليست عامة. لأننا أولاد الله، فلا يمكن أن يركز التعليم الكنسي على الخطيئة، إنما العلاقة مع المسيح والشركة معه. وهي حالة دائمة وليست استثنائية مثل الخطايا. ويضيف: “المسيح هو المركز في كل حياتنا، ومن ثم كل السلبيات الأخرى ستتلاشى مثل الشر والموت والخطيئة حين نركز على المسيح وعلى نعمته التي نجاهد بها كل القوى المضادة”.
ويرى مارك فلبس، الباحث في اللاهوت الأرثوذكسي، أن الهجوم على القس أنطونيوس عياد الذي وصل حد اتهامه بالهرطقة، ثم انسحاب ذلك إلى الدعوة لإقالة البابا تواضروس إنما يعبر عما يمكن وصفه بـ”الانقسام اللاهوتي الحاد”. يقول: “بهذا نستطيع وصف رحى الجدل الدائر الآن في الكنيسة القبطية، عندما تفلت المعاني ذات الدلالة الواحدة من عقول لاهوتيي الكنيسة القبطية ومعلميها، نستطيع القول إن الكنيسة تمر بأزمة معنى شديدة وطويلة الأمد؛ فالكنيسة منقسمة إلى مجموعات تختلف اختلافًا يكاد يكون جذريًا حول المفاهيم ودلالات المصطلحات”.
ساحة للاقتتال الإيماني في جسد الكنيسة
وفقا لفلبس فإن الخلاف الكنسي يشتد حينما تتحول مجرد عظة ذات كلمات عابرة بسيطة إلى ساحة للاقتتال الإيماني على معاني عباراتها وتصريحاتها، كلمات بتلك البساطة قد تتحول فجأة إلى نِصال وخناجر يتطاحن بها المدافعون عن الإيمان الذين يظنونه مستقيمًا مع أصحاب أي تأويل أو منحى أو مقاربة جديدة. كل كلمة وفعل وإيماءة أصبحت مثير قوي لغدد حماية الإيمان الملتهبة التهابًا مزمنًا لا يشفى أبدًا.
واعتبر فلبس إن الحملة التي انطلقت وتطالب شعب الكنيسة بإقامة حد الحرمان والتجريد على كل من تسول له نفسه المناداة بتعاليم لم تعرفها أو تكتشفها أو تتداولها من قبل إنما تؤسس لخطاب الكراهية والإقصاء باسم “الشعب”، وكأنها موجة ثورية شيوعية أو في محاكمة نازية لأعداء الأمة لا كنيسة المسيح.
لماذا غضب التقليديون من عظة أنطونيوس عياد؟
فلبس يشير أيضًا إلى أن المنزعجين من عظة القس أنطونيوس عياد ثاروا لسببين؛ الأول أن عظته تستعيد مكانة الإنسان مرة أخرى في علاقته بالمسيح يسوع. وهو الهدف الكبير لكل حركة الاستعادة الأرثوذكسية، بداية من مفكريها الكبار: متى المسكين ود. جورج بباوي، مرورًا بالنخبة الأرثوذكسية من مترجمي نصوص آباء الكنيسة ومصنفيها أمثال باسيليوس المقاري، انتهاءً بجميع الخدام المعنيين بنشر وإتاحة تلك الكتابات والأفكار، مؤكدًا أن لب حركة الاستعادة الأرثوذكسية هي استعادة الإنسان لمكانته وكرامته وبهائه وتجليه في المسيح.
اقرأ أيضًا: “ليلة الكاتدرائية”.. لماذا أوصى السيسي الأقباط بالبابا تواضروس؟
يعود فلبس للمفاهيم التي طرحها القس أنطونيوس -في عظته- فيقول إنها مطابقة لتعاليم القمص متى المسكين، بينما يستند مهاجموه لفلسفة مغايرة، وهي ما طرحه البابا شنودة في كتاب “بدع حديثة” للرد عليه. وبالتالي، فإن الدعوة لإقالة البابا تواضروس التي ظهرت في ظل الهجوم على القس الشاب إنما هي تجل آخر للصراع بين تيارين كنسيين كل منهما يقدم تعاليما مغايرة للآخر بل ومضادة لها مضيفا: لقد مست العظة هذا الوتر الحساس وهو الفرق بين التعليم القبطي الرسمي المُشبَّع بالحديث عن الخطية والذنب والعقوبة، وهو تعليم يلغي الإنسان ويهمشه لصالح الله فقط، أي تعليم مريض بالقصور الأنثروبولوجي مرضًا مزمنًا، وهو علَّة كبرى من علل الخلل اللاهوتي الحاصل في الكنيسة القبطية
أما السبب الثاني -وفقا لمارك فلبس- لهذا الهجوم الحاد على العظة أنها جاءت مخالفة للخطاب القبطي السائد المشبع بمعاني العقوبة والذنب. فعندما يقف القبطي أمام الله ليصرخ: “ارحمنا.. كيرياليسون.. يا رب ارحم”. يقول له معلمو الكنيسة إن الرحمة هنا هي استغاثة من العذاب، وطلب للصفح عن عقوبة، ورفع ذنب يشعر به المسيحي بشكل دائم، مع عدم ذكر معناها في الكتب المقدسة المشتق من “رحاميم” بالعبرية أي رحم الأم، أي أنه تعبير يولد معاني الحميمية والاحتواء والاتحاد مع الله.
استمارات عزل البابا.. ضجيج بلا طحن
كذلك، فإن الاستمارة التي ظهرت للدعوة إلى إقالة البابا تواضروس قد أشارت إلى ما وصفته بتقاعس أعضاء المجمع المقدس عن محاكمة وإيقاف كل من ينادي بالتعاليم الخاطئة مثل “عقيدة التأله الخطرة وهي عقيدة فاسدة تدعو للشرك بالله وضد جميع الديانات وترفضها الدولة والأزهر الشريف” ومحاولة -بحسب تعبير كمال زاخر- لسحب السياسة بمصطلحاتها ونظمها الحاكمة وصراعاتها إلى داخل الكنيسة.
يضيف زاخر: “الكنيسة لا تعرف مصطلح سحب الثقة من البابا، إنما هو مصطلح سياسي بامتياز. كذلك، فإن أصحاب الاستمارة الغامضة قد أرادوا تأليب الرأي العام المصري بشكل عام ضد الكنيسة، وهو ما يتضح في عبارة مثل (عقائد ترفضها الدولة والأزهر الشريف) في محاولة لافتعال أزمة داخل المجتمع الكنسي. لكنها محاولة بلا جدوى”.
لم تكن تلك الاستمارة هي الأولى في عصر البابا تواضروس. فقد سبق وأطلق مجموعة من النشطاء الأقباط عام 2015 استمارة تحمل عنوان “تمرد ضد البابا تواضروس”، مستعيرة الاسم من حركة “تمرد” التي دعت للإطاحة بحكم الإخوان 2013. إلا أن دوافع تلك الحركة كانت مختلفة. فقد كانت تنادي بإقالة البابا مستندة لأزمات متضرري الأحوال الشخصية وطالبي الطلاق الأقباط. وحين عملت الكنيسة على علاج الأزمة التي ورثتها من عصر البابا شنودة، فإن جماعات قبطية أخرى تشكلت بدافع “حماية الإيمان الأرثوذكسي القويم”، وبدأت في إطلاق حملات شبيهة تستهدف النيل من أي محاولات تعيد الاعتبار للاهوت متى المسكين ومدرسته الآبائية إلى المشهد الكنسي بعد سنوات من الاستبعاد والحجر الفكري طوال الأربعين سنة الماضية.
ومن ثم، فإن حملات الإطاحة بالبابا التي تظهر وتخفت فجأة ليست بعيدة عن صراع القوى داخل أروقة الكنسية بين الحرس القديم والحرس الجديد تظهر في تجليات متعددة، بعضها لاهوتي وبعضها سياسي وبعضها لا يتخطى مواقع التواصل الاجتماعي. إلا أن المؤكد في ذلك أن تلك الحملات لا تصل لعموم الشعب القبطي في الكنائس، ذلك الشعب الذي يرى في البابا البطريرك منصبًا ومكانة روحية لا علاقة لها بالجدالات اللاهوتية والسياسية الدائرة.