أعلنت إثيوبيا -من جانب واحد- مطلع أغسطس 2022 اكتمال “الملء الثالث”، ولم تكد الردود المصرية والسودانية على هذا الإعلان تتضح حتى بادرت أديس أبابا عبر منافذ إعلامية متعددة بالترويج لاستعدادها للملء الرابع بعد أن نجحت في حجز نحو 22 بليون متر مكعب من المياه بنهاية الملء الثالث، وهي كمية تمثل ما يقرب من ثلث التخزين المستهدف لبحيرة سد النهضة البالغ 74 بليون متر مكعب، لتعزز إثيوبيا بقوة سياسة “الأمر الواقع” وتفرضها على بلدي المصب: مصر والسودان، وهو ما اعتبره المتخصص في الشأن الإثيوبي وليام ديفسون مؤشرًا قاطعًا على عزم إثيوبيا المتزايد عدم الاستجابة لأية طلبات من قبل القاهرة والخرطوم (بخصوص إدارة السد وتشغيله) مستقبلًا (The Africa Report, August 17, 2022)؛ ومع تصاعد سخونة الأزمة وتراجع خيارات القاهرة (والخرطوم) في التعامل مع الموقف الإثيوبي دبلوماسيًا، يبدو العامل التركي والخليجي (لاسيما الإماراتي والسعودي) فاعلًا مهمًا وحاكمًا لحدود استجابة القاهرة لهذه الأزمة المصيرية.
الموقف التركي: عدو عدوي؟
عزز نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صلات بلاده بإثيوبيا في العقد الأخير، وإضافة إلى النفوذ التركي الاقتصادي البارز في إثيوبيا فإن العلاقات العسكرية بين البلدين شهدت خطوات غير مسبوقة بتوقيعهما خلال زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لأنقرة (أغسطس/آب 2021) اتفاقًا للتعاون العسكري، وتضمن دعما تركيًا للجيش الإثيوبي “بالدرونز” ساهم في تفادي نظام آبي أحمد هزيمة عسكرية نكراء على يد قوات جبهة تحرير إقليم التيجراي في الأزمة التي شهدها الإقليم في الشهور الأخيرة من العام الماضي بعد نشر ما لا يقل عن ست طائرات تركية من طارز بيرقدار TB2 (Africa Intelligence, Nov. 15, 2021). وفي منتصف العام الجاري، بعد موافقة البرلمان الإثيوبي على حزمة الاتفاقات مع تركيا منتصف مايو/أيار 2022، شهد رئيس الأركان الإثيوبي مارشال بيرهان جولا B. Jula أكبر مناورة تركية في تاريخها ضمن 37 دولة مشاركة وتنفيذ عشرات الآلاف من جنود الجيش التركي (Borkena, June 9, 2022). ويؤشر هذا التشابك في العلاقات إلى وجود شراكة استراتيجية تمتد إلى موقف تركيا من “أزمة سد النهضة” (التي تملك بدورها تجربة سابقة في إقامة السدود على الأنهار التي تصب خارج حدودها وفرض مشروطيات سياسية على عدد من دول الجوار عبر هذه السدود وإدارتها) على نحو غير مباشر على الأقل، مع ملاحظة تفادي تركيا التعليق على هذه الأزمة.
ويمثل الدعم التركي لإثيوبيا (لاسيما منذ عرض أنقره خلال زيارة وزير خارجيتها لإثيوبيا في العام 2014 على أديس ابابا دعمها بالخبرة اللازمة لبناء سد النهضة الأمر الذي هاجمه صراحة وزير الري المصري حينذاك محمد عبد المطلب، وإعلانه تخوفه من نقل التجربة التركية في سد أتاتورك واستخدامه كأداة سياسية تركية ضد سوريا والعراق عبر أساليب التعطيش) توازنًا في القوى بعد نجاح القاهرة في تحقيق اختراقات مهمة في ملف غاز شرق المتوسط وتمتين صلاتها مع عدة دول متوسطية “باستثناء تركيا”.
وإضافة إلى الحضور الاقتصادي والأمني التركي الملفت في إقليم القرن الأفريقي في العقد الأخير (لاسيما في الصومال وإثيوبيا) وتصاعد الدور التركي في الإقليم قرب مدخل البحر الأحمر الجنوبي فإن هذا الحضور يكتسب أهمية متزايدة في دعم قدرات تركيا التفاوضية في مواجهة مصر ضمن جهود إعادة تطبيع العلاقات بين البلدين وخفض مشروطيات القاهرة (الآنية والمستقبلية) في هذا المسار.
السعودية والإمارات: بين تفهم أمن مصر القومي وتجاوزه
بادرت الرياض نهاية يونيو/ حزيران 2022 باتخاذ الموقف العربي والخليجي الأكثر وضوحًا وقوة في دعم موقف مصر في أزمة سد النهضة بتأكيد تأييدها “جميع الإجراءات التي تقوم بها القاهرة لحماية أمنها القومي”؛ وجاء الإعلان في شكل بيان مشترك صدر في ختام اجتماع الرئيس عبد الفتاح السيسي مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في القاهرة؛ وتضمن البيان دعم السعودية الكامل لأمن مصر المائي كجزء لا يتجزأ من الأمن المائي العربي ودعوة إثيوبيا إلى عدم اتخاذ أية إجراءات أحادية بخصوص ملء وتشغيل سد النهضة. ومثل الموقف السعودي تفهمًا كاملًا للمخاوف المصرية إذ دعا أديس أبابا صراحة إلى التفاوض بحسن نية مع مصر (والسودان) للتوصل إلى اتفاق ملزم قانونًا في هذا الصدد تطبيقًا للبيان الرئاسي الذي أصدره مجلس الأمن الدولي في سبتمبر 2021.
اقرأ أيضًا: سد النهضة| طبيعة الاستجابة المصرية في النطاق الأفريقي
ويمكن أن يمثل الاختراق السعودي الحالي في الشأن السوداني والتنسيق مع الولايات المتحدة في ملفات المرحلة الانتقالية والوساطة بين مجلس السيادة والقوى المدنية المتنوعة في السودان دعمًا لتوجهات السودان بقيادة عبد الفتاح البرهان في التطابق التام في وجهات النظر مع القاهرة بخصوص سد النهضة وعدم تكرار تذبذب مواقف الخرطوم (من وجهة نظر مصر) في هذا الملف الحساس، وهو ما يصب في النهاية في صالح الشراكة الاستراتيجية بين الرياض والقاهرة.
وبينما ترسخ التفهم السعودي لأمن مصر القومي فإن الإمارات، العضو غير الدائم في مجلس الأمن بالدورة الحالية، صعدت من “مناورتها” بمخاوف مصر في هذا الصدد كما اتضح في بيانها بخصوص سد النهضة 2 أغسطس (الذي صدم دوائر مصرية عديدة ولاقي صمتًا غريبًا في وسائل الإعلام ومنافذ النخبة المصرية رغم خطورة ما تضمنه من افتئات غير مسبوق وتجاهل تام للحقوق المصرية وخطورة سياسة الأمر الواقع على هذه الحقوق) إذ أكد إيمان الإمارات –التي حثت القاهرة في وقت سابق على الانتظار لما بعد الملء الثالث لإطلاق جولة استكشافية للتفاوض مع أديس أباب- بإمكان إكمال مفاوضات السد بنجاح وأنها تقر بالفرصة القيمة التي سيمثلها ذلك لتعزيز التكامل الإقليمي وتسارعه (في إشارة لمشروع مقايضة المياه بالطاقة الذي أشار لفكرته آبي أحمد في بداية عهده) ويعزز التعاون والتنمية المستدامة في الإقليم وما ورائه” بدافع من التوصل لحل أفريقي لمشكلة أفريقية”، في تجاهل تام لجوهر المطالب المصرية بصيانة حصتها التاريخية في مياه النيل عبر ضبط عمليات إدارة السد وتشغيله وما تسعى له القاهرة بالتوصل لاتفاق قانوني ملزم.
ورغم قوة روافع النفوذ الإماراتي في إثيوبيا فإن استقراء دعم أبوظبي لنظام آبي أحمد منذ بدايته ماليًا وعسكريًا واقتصاديًا يوضح استحالة نجاح أية وساطة إماراتية في الملف كونها لن تقترب حتى من الحدود الدنيا التي تطالب بها القاهرة والخرطوم، وأن هذا الاستقراء يكشف عن مصالح إماراتية أصيلة ومستدامة في مشروع سد النهضة وما سيفرضه من “واقع إقليمي جديد” (كما ورد في نص البيان الإماراتي في مجلس الأمن) بغض النظر عن تصورات القاهرة “التقليدية” لأمنها القومي والاستراتيجي حسب الإمارات ودبلوماسيتها القارية وثيقة الصلة بالنشط الإسرائيلي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
الموقف الخليجي
أبدت بقية دول الخليج، بما فيها قطر منذ اجتماع وزير خارجيتها محمد بن عبد الرحمن آل ثاني بنظيره المصري سامح شكري في القاهرة نهاية مارس/ أذار 2022، تفهمًا ملموسًا لمخاوف مصر من تداعيات سد النهضة بعيدة الأجل على أنها القومي والمائي. فقد كررت الكويت والبحرين إعلانهما في أكثر من مناسبة دعم الموقف المصري، لاسيما منذ قمة وزراء الخارجية العرب في الدوحة منتصف يونيو/ حزيران 2021 والتي كرست لمناقشة أزمة السد.
ومن جهة أخرى حرصت القاهرة، في مسار تطبيع العلاقات مع قطر، على وضع بند “أزمة سد النهضة” في قمة أجندة هذا المسار، والبناء على الموقف القطري الرسمي بالدعوة إلى عدم اتخاذ خطوات أحادية في مسألة سد النهضة، وهو ما يمثل انتقادًا غير مباشر للسلوك الإثيوبي. كما واصلت سلطنة عمان موقفها الداعم للدبلوماسية المصرية في إدارة ملف سد النهضة خلال زيارة الرئيس السيسي لمسقط نهاية يونيو/ حزيران 2022 ورؤيتها “وجوب التوصل إلى اتفاق يلبي مصالح جميع الدول الأطراف”، وهو جوهر المطالب المصرية في واقع الأمر.
تعامل مصر مع القوى الإقليمية: ما المعضلات والقيود؟
تأتي في قمة المعضلات والقيود الإقليمية التي تواجه مصر للوصول إلى اتفاق قانوني ملزم في سد النهضة مدى قدرة القاهرة على إقناع الإمارات، الحليف “الاستراتيجي” لمصر في ملفات عدة منذ بدء الرئيس السيسي قيادة البلاد، بخطورة استمرار تبنيها الرؤية الإثيوبية على مجمل العلاقات المصرية الإماراتية، وربما الاتفاق على تبني رؤية محايدة للأزمة (وتفادي تكرار أزمة البيان الإماراتي لمجلس الأمن مطلع أغسطس/آب من العام الجاري على الأقل عبر تنسيق “مشترك” مسبق عند تجديد مصر طرح المسألة لدى المجلس). ويبدو أن القاهرة تحركت في هذا المسار بالفعل في قمة العلمين “العربية المصغرة” (22-23 أغسطس/آب) التي حضرها رئيس الإمارات محمد بن زايد وشملت أجندتها استمرار أزمة سد النهضة.
وللمفارقة تظل الورقة الأقرب للقاهرة في مواجهة التخاذل الإماراتي والتربص التركي في ملف سد النهضة تعميق التعاون مع قطر ذات الخبرة السابقة في ملفات القرن الأفريقي والسودان وربط الاستثمارات القطرية المتوقعة –بقيمة تتجاوز 20 بليون دولار حسب مصادر إعلامية- بتنسيق سياسي يهدف ضمن ما يهدف إلى احتواء الهيمنة الإماراتية في القرن الأفريقي ويعزز قدرة القاهرة على فك الارتباط الضروري مع الإمارات في هذا الإقليم في المرحلة المقبلة.
أما تركيا، والتي أعلنت منذ شهور عن مساعيها لإعادة العلاقات مع مصر لمستوياتها “الطبيعية”، فإنه لا يتوقع بأي حال من الأحوال تراجعها عن دعم نظام آبي أحمد لاعتبارات أخرى -إلى جانب مواصلة الضغط على مصر- مثل الشراكة مع إثيوبيا لضمان نفوذ تركيا المباشر في القرن الأفريقي أو غير المباشر (حتى الآن) في البحر الأحمر. كما أن نظرة تركيا لنفسها كقوة دولية بارزة في شئون القرن الأفريقي وذات رؤية “أشمل” للإقليم ككل ضمن سيناريوهات دمج مصر في بناء نظام إقليمي في البحر الأحمر والقرن الأفريقي (في رؤية تتطابق مع تصورات الإمارات كما اتضح في بيانها في مجلس الأمن بخصوص سد النهضة) تكون فيه مجرد قاطرة اقتصادية وبشرية مرهونة في حركتها السياسية بإرادة الفاعلين في هذه الرؤية (دون أن تغيب إسرائيل عن المشهد تمامًا في ضوء علاقاتها العضوية المتطورة مع الإمارات).
ويتوقع حال فشل قمة العلمين الأخيرة في بلورة موقف إماراتي أكثر تفهمًا لمخاوف مصر في ملف سد النهضة –الأمر الذي بدت مؤشراته واضحة إلى ذلك قبل نهاية أغسطس/ آب من العام الجاري- أن تلجأ مصر لمزيد من فك الارتباط مع الإمارات في ملفات أخرى سواء في القرن الأفريقي والبحر الأحمر أم في مسائل أخرى.
كيف يمكن تقليص مخاطرها؟
يمكن لمصر لتقليص مخاطر تهديدات مواقف عدد من الدول الإقليمية من سد النهضة وسعي هذه الأطراف لدمج مصر في مشروع “إقليمي فرعي” يفوق مكانتها الإقليمية والدولية -رغم الصعوبات التي تواجهها حاليًا- اللجوء إلى خيارات أكثر “ثورية” من قبيل فك الارتباط الكامل مع مصالح سياسات دول إقليمية أخرى مثل الإمارات (كما تم في النموذج الليبي في مراحل مختلفة)، والبناء على المواقف الخليجية الإيجابية في الملف، وتعميق الارتباط مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة (اتخذا مواقف رسمية أكثر تفهمًا لمخاوف مصر الاستراتيجية في الملف المائي مقارنة بمواقف بعض حلفاء القاهرة) بشكل مباشر للدفع في مسار “تدويل الملف” مع استنفاد وساطة الاتحاد الأفريقي وجاهتها وخطورة خفض الخيارات السياسية المتاحة أمام القاهرة على النحو الذي نشهده حاليًا.