منتصف أغسطس/آب 2022، استأنفت تركيا العلاقات الدبلوماسية كاملة مع إسرائيل وعاد السفراء إلى البلدين، بعد أعوام من توتر العلاقات وأشهر قليلة من خطوات تحسينها. في اليوم نفسه صرح وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو، أن تركيا “لن تتخلى عن القضية الفلسطينية”، وزاد من البيت شعرا بأن القرار “سيسمح لتركيا بالضغط من أجل المصالح الفلسطينية في غزة والضفة الغربية والقدس”.
بعد أقل من أسبوع، استضاف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، نظيره الفلسطيني محمود عباس لـ”تحسين العلاقات الثنائية”، وكان لافتا أن السلطة الفلسطينية لم تعلق قبلها على قرار أنقرة استئناف العلاقات مع تل أبيب.
يشرح ذلك بوضوح طبيعة النهج التركي في التعامل مع القضية الفلسطينية، والذي يحاول إدارة حبال التوازنات واللعب عليها، رغم التطبيع؛ توظيفا للقضية الفلسطينية ضمن معادلات المصالح الإقليمية.
فمن ناحية تجمع تركيا علاقات قوية بحركة المقاومة الإسلامية “حماس” (التي تدير قطاع غزة) والتي وفّرت لها منبرا من أراضيها ومنحتها دعما دبلوماسيا وقانونيا خلال الأعوام الماضية. وأيضا السلطة الفلسطينية حيث التعاون الاستثماري والاتفاقات الأمنية المتبادلة، والزيارات الدبلوماسية الهامة مثلما جرى في أعقاب معركة “سيف القدس”/ “انتفاضة الوحدة”، في مايو/أيار من العام الماضي، حين كانت وجهة “أبو مازن” الخارجية الأولى صوب أنقرة.
اقرأ أيضًا- التقارب التركي الإسرائيلي: ما جنته الاتفاقات الإبراهيمية
مصالح إقليمية وتوازنات داخلية
“تدرك تركيا أنه من خلال القضية الفلسطينية يمكنها أن تلعب الكثيرمن الأدوار الإقليمية في الشرق الأوسط، فهي لا تترك الطرف الفلسطيني يتجه لتحالف الغاز المضاد في المتوسط من جانب، وتبقي على القضية الفلسطينية واحدة من أهم أدوات الضغط على إسرائيل، أو تخفيف الضغط الإقليمي عليها عبر المنظمات الكردية -التي تصنفها إرهابية- المدعومة من الولايات المتحدة وإسرائيل”، تقول “مجموعة الحوار الفلسطيني“.
وتضيف المبادرة البحثية الفلسطينية أن ما يميز القضية الفلسطينية عن غيرها من القضايا الإقليمية المتعلقة بتركيا، أنها تحظى بتعاطف شعبي جيد مقارنة بالملفات الأخرى. الأمر الذي حرصت أحزاب المعارضة على إظهاره مؤخرا من خلال ترحيب واستقبال بعض قياداتها لرئيس المكتب السياسي لحماس، إسماعيل هنية.
وهو موقف لافت يُظهر التحول في سياسات المعارضة التي انتقدت سابقا العلاقات الرسمية مع حماس باعتبارها جماعة إرهابية، و”لكن التوجه الشعبي والحكومي الذي رسخ القضية ضمن أولويات السياسة الخارجية” خلال الأعوام الماضية أجبر أحزاب المعارضة على “التماشي” مع هذا التوجه.
يوضح موقع “مودرن دبلوماسي“: “غالبية الشعب التركي يدعم الفلسطينيين وحقوقهم، ويشعرون بالتضامن الكامل معهم ويعارضون الوجود الإسرائيلي. بجانب أن أردوغان يعتبر القضية الفلسطينية عاملا مهما في بناء هوية وطنية إسلامية تركية متجددة. وهذه المواقف تزيد من شعبيته وتعزز دعم الناس له ولحزبه، وكذلك سلطته ومكانته في العالم الإسلامي”.
تستدرك مجموعة الحوار الفلسطيني “لكن تبقى بعض مكونات المجتمع التركي ذات الصبغة العلمانية والقومية عائقا أمام الانفتاح على العالم العربي وبدرجة أقل الفلسطيني لذلك تراعي الحكومة التركية تلك البيئة وتحرص على عدم توفير دعم عسكري وأمني لحماس وتكتفي بالدعم الإنساني والسياسي؛ مراعاة لتركيبة السياسية الداخلية المتمثلة بأحزاب المعارضة من جهة والقوى الإقليمية والدولية من جهة أخرى”.
بجانب ذلك، وفّرت أنقرة البيئة السياسية والقانونية للعديد من الجهات والمؤسسات الفلسطينية لعقد لقاءاتها ومؤتمراتها ومنحتها تراخيصا قانونية ما “ساهم في تطوير الحالة الفلسطينية داخل تركيا وخارجها باتجاه دعم وإسناد الفلسطينيين في الداخل، فضلا عن إمكانية الانفتاح على المجتمع المدني التركي”.
وعلى الرغم من السعي، تراجع الحضور التركي في ملفات الإغاثة وإعادة الإعمار بغزة، وفي ملفات أخرى كملف المصالحة الذي فشلت الجهود التركية عام 2017 في تحقيق تقدم يذكر فيه، وظل الثقل الأكبر من الملف لدى القاهرة. ثم في 2019 غابت تركيا بشكل كامل عن مسار تفاهمات تخفيف الحصار الذي أنتجته مسيرات العودة واحتكرته كل من مصر وقطر، بحسب موقع “متراس” الفلسطيني.
علاقات جيدة مع قطبي السياسة الفلسطينية
مع حركة حماس:
شكل صعود حزب العدالة والتنمية لسدة الحكم في تركيا عام 2002، وما رافقه من خطاب قومي عثماني ديني، بدل خطاب الدولة العلمانية الأتاتوركية، نقطة تحول في سلوك تركيا السياسي تجاه القضية الفلسطينية، بحسب مركز أبحاث منظمة التحرير الفلسطينية.
وانطلق هذا التحول من باب أيديولوجيا الحكم القريبة من حركة “حماس” ومن البعد الديني للقضية الفلسطينية من جهة، ومن باب التحول في الدور الذي يراه صناع القرار في أنقرة بالانتقال من الغرب -خاصة بعد فشل المساعي المتكررة للانضمام للاتحاد الأوروبي- إلى الشرق كمرتكز لتقديم تركيا نفسها كقوة إقليمية فاعلة تمتلك أوراق فعل مؤثرة، منها القضية الفلسطينية.
حاولت تركيا أن تلعب دور الوسيط بين الاحتلال والفلسطينيين، لا سيما بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية التي جرت عام 2006، حيث اعتبر أردوغان أن صعود حماس جاء كخيار فلسطيني حر، وأن عمله في المستقبل سينصب حول أهمية إدماج حماس في المنظومة السياسية الفلسطينية، وفي المنظومتين الإقليمية والدولية، كما شدد أردوغان على أهمية التوضيح لهم -أي لحماس- أن عدم اعترافها بإسرائيل وعدم قبولها بالاتفاقيات الموقعة لن يساعد العملية التفاوضية والسلمية.
وقد استقبلت تركيا خالد مشعل -رئيس المكتب السياسي آنذاك- في زيارة رسمية شكلت التواصل الخارجي الأول لـ”حماس” بعد فوزها في الانتخابات. ووصف مشعل الزيارة في حينها بأنها “تمثل خطوة أولى على طريق علاقات قويّة ومثمرة تُمَهد لدور تركي أكبر في المنطقة والقضية الفلسطينيّة”.
تشير مجموعة الحوار “تتمحور السمة الإيجابية في العلاقة بين تركيا وحماس في كون الطرفين على اتصال دائم ومباشر على المستويات المختلفة وفي مقدمتها المستوى السياسي خلافا لما جرت عليه العادة في علاقات الفصائل الفلسطينية بالأنظمة السياسية المجاورة والتي ظلت تتعامل معها كملف أمني أو حصرت التواصل في القنوات الأمنية والاستخبارية”.
ولكن يؤخذ على حركة حماس -والحديث لمجموعة الحوار الفلسطيني- عدم سعيها إلى الانفتاح على المجتمع التركي بمكوناته المختلفة وأطرافه السياسية المتعددة، وهو ما انتبهت له مؤخرا في ظل تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية.
مع السلطة الفلسطينية
في الآن ذاته، احتفظت تركيا بعلاقات جيدة مع السلطة الفلسطينية في رام الله على كافة الأصعدة: السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، في محاولة واضحة للموازنة بين فتح وحماس في معادلة إقليمية معقدة، بتعبير مركز أبحاث منظمة التحرير.
وقد وقعت الحكومة الفلسطينية اتفاقية لتشجيع الاستثمار المتبادل مع تركيا عام 2018 بجانب اتفاقات أمنية كذلك. كما بدا وأن هناك توجها فلسطينيا رسميا لتشجيع الأتراك على الاستثمار داخل القدس لاحتواء التهويد الإسرائيلي للمدينة المقدسة ومواجهة حلقات الاستيطان الداخلية والخارجية. كما عيّنت أنقرة مسؤولا برتبة وزير مختص بشؤون القدس بشكل مباشر.
لكن الحدث اللافت أن عقدت حركة فتح في مارس/آذار 2018 مؤتمرها الدوري العام بمدينة إسطنبول بمشاركة عناصرها من المدن التركية، “ولعلّها المرة الأولى، التي تعقد فيها فتح مؤتمرا تنظيميا في تركيا، مما يشير لتطور علاقاتها مع الحكومة التركية، وارتفاع مستوى تنسيقهما، رغم أن تركيا يمكن اعتبارها دولة داعمة لحماس، وتستضيف على أرضها العشرات من كوادرها”، وفق الباحث الفلسطيني عدنان أبو عامر.
ويشير أبو عامر إلى أن تركيا تفضل إبقاء تعاملها الرسمي مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، في حين يقتصر تعاملها مع قطاع غزة على دعم المنظمات غير الحكومية والمؤسسات الإغاثية، ولا يبدو أن حماس تستفيد من المنح المالية التي تقدمها تركيا للقطاع، لأن هذه المساعدات تقدم مباشرة للفئات المستهدفة من الفقراء والمحتاجين الفلسطينيين، دون الحاجة لوجود وسيط بينهما.
يوضح أبو عامر: “الأتراك حريصون، كما يبدو، على عدم تقديم مساعدات مالية لحماس خشية اتهامهم من قبل الولايات المتحدة وإسرائيل بدعم “الإرهاب”. ومع ذلك، فإن التقارب المتزايد الذي تبديه تركيا باتجاه السلطة الفلسطينية، من خلال الاتفاقيات معها، وفي الوقت ذاته بقاء علاقاتها مع حماس، يؤكد أن أنقرة حريصة على عدم التفريط بأي طرف على الساحة الفلسطينية، حماس وفتح، وإن كان ذلك لا يرضي أيا منهما، لأنهما حريصتان على كسب أنقرة لصالحهما بصورة حصرية”.
الأثر على التطبيع مع إسرائيل
يلفت الخبير الإسرائيلي، ألون ليئيل، إلى أن مستقبل العلاقات بين تركيا وإسرائيل سيبقى عرضة للمد والجزر، في ظل وجود حقيقتين: الأولى أن القيادة السياسة التركية الحالية ذات “المنابت الإسلامية” ستبقى في سدة الحكم إلى فترة طويلة، وفق رؤيته. أما العامل الثاني فهو أن هناك روابط عقائدية تجمع الحزب الحاكم في تركيا-العدالة والتنمية- مع حركة حماس، و”ليس بإمكان إسرائيل أن تعول كثيرا على تباعد الموقفين في المستقبل المنظور”.
بينما يقول “معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي” إنه على مدى العقد الماضي، حاول أردوغان تقديم نفسه على أنه أبرز زعيم مسلم يدافع عن حقوق الفلسطينيين وحياة المسلمين في القدس. وقد تم التعبير عن هذه السياسة جزئيًا في تصريحات قاسية ضد إسرائيل، والتي وصفها بأنها دولة إرهابية. ومع ذلك، في الشهر الأخير من رمضان وحتى أثناء عملية الفجر الصادق (العدوان الأخير ضد غزة)، كان الرد الرسمي التركي أقل سلبية تجاه إسرائيل مما كان عليه في الماضي.
“موقف أنقرة من حماس، التي يقيم عدد كبير من أعضائها في تركيا، يمكن أن يتحدى استمرار عملية التطبيع. على الرغم من وجود مؤشرات على حدوث تغيير معين في سلوك تركيا تجاه حماس، لا سيما طرد العديد من نشطائها من أراضيها، فمن المشكوك فيه أن يستجيب أردوغان بشكل إيجابي لجميع المطالب الإسرائيلية المتعلقة بالتنظيم”، يضيف المعهد.
بينما ترى “مجموعة الحوار الفلسطيني” أن أزمات شرق المتوسط واستمرار سخونة الجبهة السورية والدعم الإسرائيلي للتنظيمات الكردية “الإرهابية” كلها أمور تجعل عودة العلاقات التركية الإسرائيلية إلى ما كانت عليه قبل 2010 ليس بالأمر اليسير، وبالتالي “ستبقى تركيا بحاجة للقضية الفلسطينية وأقطابها السياسية للحفاظ على دور إقليمي فعال تستطيع من خلاله أن تحافظ على ميزان القوى كونها لاعب رئيسي في المنطقة”.