لم يتخيل أكثر الناس تشاؤما ما يحدث منذ سنوات بنقابة المحامين، تلك النقابة صاحبة أكبر تاريخ نضالي بين جميع النقابات المهنية والعمالية، تلك التي كان يطلق عليها في زمن مضى حارسة الحريات، وداعمة الشعب في مراحل نضالية كثيرة من حياة المجتمع المصري، فلم يمر بالبلاد شأن إلا وكانت النقابة حاضرة فيه بقوة. كما وأنه من زاوية ثانية فهي نقابة القانونيين في مصر، أو ما يطلق عليه القضاء الواقف، أحد جناحي العدالة، أولئك الذين لم يتوقف لهم نبض عن رفع ظلم أو دعم موقف وطني، انحيازا للعدالة، وحسن تطبيق القانون، هي تلك النقابة، ومهنة المحامة هي تلك المهنة التي قالت عنها المحكمة الدستورية العليا “إن المحاماة في أصلها وجوهر قواعدها مهنة حرة، يمارسها المحامون على استقلال، لا سلطان عليهم في ذلك إلا لضمائرهم وحكم القانون، وهم بذلك شركاء للسلطة القضائية يعينونها على توكيد سيادة القانون والدفاع عن حقوق المواطنين وحرياتهم، ويعملون معها من أجل تحقيق العدالة كغاية نهائية لكل تنظيم قانوني يقوم على إرساء الحق وإنفاذه، وهي باعتبارها كذلك باعتبارها كذلك تتمخض جهدا عقليا يتوخى ربطا عمليا بين القانون في صورته النظرية المجردة، وبين تطبيقاته العملية، ليقدم المحامون خدماتهم لموكليهم –في إطار من الإبداع والتأسيس– بما يكفل فعاليتها”. هذا ما أطلقته محكمتنا العليا عن مهنة المحاماة في حكمها الصادر بتاريخ الثامن عشر من مايو 1996، في القضية رقم 38 لسنة 17 قضائية دستورية.
اقرأ أيضا.. عن سلطة المجتمع وسلطة القانون
ولكن وللأسف، منذ سنوات بدأت نقابة المحامين في حالات من الصراع الداخلي بين من يمثلون مجلس النقابة، أحيانا بين بعضهم البعض، وأحيانا بينهم وبين النقابات الفرعية، وتارة أخرى مع من يكون أو يمثل مقعد النقيب، ومنذ بداية فترة النقيب الراحل بلغ الصراع أشده بينه وبين مؤيدي النقيب الأسبق، حتى بدأت فترة الترشح لخلافة النقيب الراحل في فترته المتبقية، وتم الطعن على البعض منهم أمام محكمة القضاء الإداري، والتي قضت في الحكم رقم 63568 لسنة 76 ق بجلسة السبت الموافق 27 / 8 / 2022، والذي قضت فيه باستبعاد كلا من المرشحين الأستاذين/ سامح عاشور ومنتصر الزيات، وذلك الحكم على الرغم من كونه لا يتعدى أن يكون كاشفا لحالة موجودة بالفعل، وهي تلك الحالة التي تمنع المرشحين سالفي الذكر من الدخول في مضمار الانتخابات النقابية المقرر لها 4/ 9 / 2022، إلا أن ذلك لا يمنع أنه قد كشف أيضا كما ذكر الأستاذ الدكتور/ رأفت فودة أستاذ القانون العام والإداري بجامعة القاهرة من خلال صفحته الشخصية على موقع الفيس بوك، والذي ذكر فيه بأن المرشحين المستبعدين لا يصلحان لتمثيل نقابة المحامين أو الدفاع عن مهنة المحاماة، وذلك لضعف قدراتهما القانونية أمام وضوح نصوص القانون المتعلقة والحاكمة لموضوع النزاع الخاص باستبعادهما من الترشح، وإلا لقام المرشح من تلقاء نفسه بسحب ترشحه، أو لما كان فكر أصلا في الترشح لتخلف الشروط في حقه، وما يزيد الأمر تصعيدا في هذا الصدد أنه كانت هناك لجنة مشكلة من أعضاء مجلس النقابة العامة لتلقي ملفات المرشحين على انتخابات مقعد النقيب وفحصها، فهل لم يتبين لهم ما بها من عوار ومخالفات قانونية، أم أن الأمر غاب عن حجتهم القانونية كما غاب عن المرشحين أنفسهم، أم أن أسماء المرشحين المستبعدين كان لها مهابة تمنع من الفحص الدقيق؟
وذلك يعود لكون السيد/ منتصر الزيات قد تم الحكم عليه في قضية إهانة القضاء، والتي اعتبرت من القضايا المخلة بالشرف، وبالتالي فقد أحد شروط الترشح، أما حالة النقيب الأسبق/ سامح عاشور، وتلك التي قيل عنها إنها مناورة بخصوص تقدمه بالاستقالة من عضوية مجلس الشيوخ، وعدم تحصله على موافقة من المجلس على هذه الاستقالة، وكيف يغيب عنه وهو من مثل النقابة في دورات متتالية كنقيب، أن يعي أن الاستقالة ليست من تاريخ التقدم بها، وإنما من تاريخ الموافقة عليها، وهو الأمر الذي يؤكد على غياب المعلومة القانونية الأصلية.
وقد أكدت المحكمة الإدارية العليا ممثلة في الدائرة الأولى لفحص الطعون يوم الأحد الموافق 28/8/2022، ذلك الحكم، وأحالت القضية في شقها الموضوعي إلى هيئة مفوضي المحكمة.
وباتت النقابة اليوم وهي على أهبة الاستعداد لانتخابات تكميلية لمنصب النقيب خلال أيام قليلة مفتقدة لأهم مرشحين لذلك المنصب، أيا ما كانت الأسباب، ولكن بصدور حكمي القضاء الإداري والإدارية العليا تأكدت معلومة هامة، أن المرشحَين لم يدرسا موقفهما القانوني بشكل جيد، ويقفا على حدوده القانونية، وهو أمر خطير لمن كان يريد أعلى منصب نقابي لمهنة المحاماة وما يتبعه من ترأسه لاتحاد المحامين العرب.
وإن كنت أرى أن السبب الرئيس في تهاوي دور نقابة المحامين، هو استحواذ السلطة على مقعد النقيب بشكل أو بآخر، أو انحياز النقيب للحفاظ على كرسي النقابة أكثر من انحيازه للقضايا الوطنية أو الحقوقية أو النقابية ذات الشأن المهني، فمنذ ما يزيد عن عشرين عامًا بدأ يقل أو يهفت ذلك الدور في القضايا السياسية والوطنية، ومنذ أن سعت السلطة إلى تقويض ذلك الدور لأهم نقابة شعبية مصرية، وبعد ذلك بدأ دورها حتى في حدود الدفاع عن مصالح المهنة يقل ويخفت رويدًا رويدًا. كما أن لكن الوضع الآني لنقابة المحامين لا يوحي بالقدرة على استعادة رونقها وبريقها أو قدرتها الحقيقية في تحسين دور المحامين والدفاع عن مصالحهم وحقوقهم، فهي لا تسعى في ذلك سعيًا لا يقف عند حدود معينة لاستعادة دورها القديم، على نحو يسهل إجراءات التقاضي من ناحية على المحامين، وييسر أو يُفعل مفهوم الحق في الدفاع على نحوه الحقيقي، بحسبه الدور الأساسي للمحامين.
فهل لنا أن نستبشر خيرا فيما هو آت لتولي منصب النقابة على الرغم من قصر المدة المتبقية لمنصب النقيب الراحل، والذي وافته المنية في أروقة محكمة جنوب الجيزة، وهو على أهبة الاستعداد لتولي الدفاع عن محامين شمال الجيزة في إحدى القضايا ذات الطابع المهني، وهل سينصلح حال النقابة من خلال من هو قادم لتمثيلها، أم أن الأمر سيعود كما كان من قبل خلافات ومشاكل بينه وبين أعضاء مجلس النقابة العامة أو الفرعيات، واستقطاب فريق ضد آخر، أو انحيازات غير متكافئة لا تعود بالخير على الشأن العامة للنقابة أو لمهنة المحاماة، أم أن الأمر سيتوقف على شخصية من سيفوز بالمقعد البراق، وما يهمني وأعتقد أنه يهم المجتمع المصري بشكل كامل أن تكون هناك نقابة قوية للمحامين تعتني بالشأن العام، مع اهتمامها بالقضايا الداخلية لمهنة المحاماة، وبالتالي الانحياز للعدالة وحقوق الإنسان.