على مدار العقدين الماضيين، عكفت أغلب القوى الدولية على التغلغل في القارة الأفريقية عبر عدة أدوات، على رأسها الأدوات الاقتصادية بالإضافة إلى توثيق علاقاتها بالنخب السياسية حتى نشر القوات العسكرية. الهدف الأول من ذلك التغلغل تحقيق أكبر استفادة ممكنة من حجم الفرص الاقتصادية والموارد الطبيعية في القارة. كذلك الرغبة في لعب دور فاعل في القرار الأفريقي في إطار التنافس الدولي وتوسيع مساحات النفوذ.
وفي الآونة الأخيرة، شهدت الساحة الأفريقية صورا أعمق ودرجات متصاعدة من التعاون مع الشركاء التقليديين. كذلك زادت القمم واللقاءات الدبلوماسية ومنتديات الشراكة الاقتصادية. كما أعادت الولايات المتحدة وروسيا والصين صياغة أولوياتها، وشكل تفاعلها في القارة من خلال إصدار استراتيجيات جديدة. بالشكل الذي وضع أفريقيا في بؤرة الاهتمام الدولي.
اقرأ أيضا.. الاقتصاد أولا.. الخليج وأفريقيا خريطة مزدحمة بالمصالح والفرص والنفوذ
الصين.. الاقتصاد أولا
الصين اتخذت من الدبلوماسية الاقتصادية الآلية الرئيسية للوصول إلى أهدافها في الساحة الأفريقية، وهي المحرك الأول للانتشار الصيني في القارة. وبناء عليها شاركت في العملية السياسية في بعض الدول. كما ساهمت قواتها العسكرية في عمليات حفظ السلام الأممية. كذلك حفزت المنافسة بين القوى الكبرى بكين لتتخذ خطوات نحو الاستحواذ الاقتصادي. إذ أصبحت الشريك الأول للدول الأفريقية بإجمالي تبادل تجاري قيمته 207 مليارات دولار للعام 2021.
كما تعتبر العلاقات الأمريكية الأفريقية دافعا مؤثرا في تشكل السياسة الخارجية للصين مع الدول الأفريقية. على سبيل المثال، استخدمت الصين الأداة الدبلوماسية من خلال تعيين مبعوث صيني خاص بمنطقة القرن الأفريقي “شيويه بينج” في وقت تشهد المنطقة توترت عدة. على رأسها الصراع في إثيوبيا بين حكومة آبي أحمد وجبهة تحرير تيجراي. كذلك الأزمة الحدودية بين الخرطوم وأديس أبابا. وجاء تدخل الصين بغرض كشف عجز الولايات المتحدة عن إدارة أزمات المنطقة. كما تحاول بكين إظهار التضامن والوجه المنفتح على العلاقات مع الدول الواقعة تحت رحمة العقوبات الأميركية. كما تبين خلال جولة وزير الخارجية الصيني “وانج يي” لإريتريا كأحد محطاته في يناير/ كانون الثاني هذا العام.
مؤخرا، تحاول الصين إعادة بناء الثقة مع الدول الأفريقية، كما تبين في الكتاب الأبيض في نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، بعنوان “الصين وأفريقيا في العصر الجديد: شراكة متساوية”. الكتاب أكد أولوية العلاقات الصينية الأفريقية. كذلك حرصت على معالجة الاتهامات التي طالتها بشأن “ممارستها دبلوماسية فخ الديون”. إذ أن 62% من الديون الأفريقية مستحقة لدائنين صينيين. كما أعلنت الصين إلغاء الديون على 17 دولة أفريقية بإجمالي 23 قرضا من دون فائدة.
وخلال المؤتمر الوزاري الثامن لمنتدى التعاون الصيني- الأفريقي (FOCAC) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أعلنت الصين خطة عمل داكار (2022- 2024) لتدشين مرحلة جديدة من التعاون المربح والكسب المشترك للجانبين. إذ ترتكز استثماراتها على مشروعات البنية التحتية باعتبار أفريقيا محور رئيسي في مبادرة الحزام والطريق (BRI)، بإجمالي استثمار يصل إلى نحو 200 مليار دولار في هذه المشروعات.
روسيا.. تجدد علاقات النفوذ
تواجه القارة ضمن سياق عالمي، حالة استقطاب بين الولايات المتحدة وروسيا والصين. كما كشفت الحرب الأوكرانية، كيف تعيد روسيا صياغة علاقتها بالعالم الخارجي من خلال إضافة متغير الحرب. كذلك جاءت زيارة وزير الخارجية الروسي “سيرجي لافروف” لأفريقيا في يوليو/ تموز 2022 لتحمل رسائل عدة حول استراتيجية موسكو في القارة. كما حققت استحواذا كبيرا في منطقة الساحل وغرب أفريقيا، من خلال توظيف النفور الأفريقي من التواجد الفرنسي. كما مثلت الساحة الأفريقية منفذا روسيا لاحتواء العقوبات الغربية. أيضا تطلبت الاستراتيجية الأمريكية الخاصة بأفريقيا، استجابة عاجلة من روسيا بهدف إبعاد دول أفريقيا عن التعاون مع أمريكا.
وتسعى روسيا بقوة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية ومنها تأمين وجودها في شرق البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، وتوسيع فرص استخراج الموارد الطبيعية. بالإضافة إلى إزاحة النفوذ الغربي، والاستفادة من الكتلة التصويتية في الأمم المتحدة. كما حدث عند امتناع 25 دولة في أفريقيا عن التصويت لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتركز استراتيجية روسيا على الاستفادة من الحروب والنزاعات حيث تنتشر قواتها العسكرية “فاجنر” على امتداد أفريقيا كما في مالي وليبيا وأفريقيا الوسطى ومدغشقر وموزمبيق. كذلك تسعى للحصول على قاعدة عسكرية في السودان.
اقتصاديا بلغ حجم التبادل التجاري بين روسيا وأفريقيا 14.5 مليار دولار عام 2020. كما أن روسيا المصدر الرئيسي للأسلحة إلى أفريقيا، حيث تسيطر على 49% من إجمالي سوق السلاح الأفريقي. كذلك بدأت خطوات فعّالة في الاستثمار في قطاع الطاقة، من خلال بناء شركة روساتوم الروسية التي تبني أول محطة للطاقة النووية في مصر بقيمة 60 مليار دولار.
محاصرة تمدد الصين وروسيا.. استراتيجية أمريكا
ترى إدارة الرئيس الأمريكي “جو بايدن” أن تقليص واشنطن حجم وجودها العسكري في أفريقيا وعدم تفاعلها الجدي مع المشكلات الأفريقية يفقدها نفوذها الذي حافظت عليه لفترة طويلة. الأمر الذي أفسح المجال للمنافسين (روسيا والصين) وأدى إلى ترسيخ وجودهم بصورة أكبر. ومن هنا جاءت الاستراتيجية الأمريكية الأخيرة بشأن أفريقيا لتعيد تأكيد العلاقات وتعزيز الشراكات، بما يخدم المصالح الأمريكية في المرتبة الأولى.
وفي السياق ذاته، أدركت الولايات المتحدة أنها بحاجة إلى إعادة تفعيل قنوات الحوار مع شركائها في أفريقيا. كما شكّل التدافع الجديد على القارة حافزا رئيسيا لدى الولايات المتحدة إلى إعادة تشكيل أدواتها بعد أن أصبحت القارة ساحة مواجهة بين روسيا والصين من جهة والولايات المتحدة من جهة. وفي هذا السياق استقبلت الدول الأفريقية 3 زيارات متتالية لوفود من أمريكا وروسيا وفرنسا خلال النصف الأول من آغسطس/آب 2022.
شكل قانون أجوا حجر الزاوية في العلاقات الاقتصادية بين الولايات المتحدة وأفريقيا جنوب الصحراء منذ عام 2000. وتحاول الولايات المتحدة من خلال هذا القانون إعادة تنشيط التجارة والاستثمار في القارة. كما شهد العام الماضي عدة فعاليات تشير إلى ذلك منها إطلاق إدارة بايدن حملة “ازدهار أفريقيا نبني معا”. بينما جاءت زيارة وزير الخارجية الأمريكي “آنطوني بلينكين”، إلى القارة في أغسطس/ آب 2022، متضمنة إعلان خطة استثمار بـ11 مليار دولار على 5 سنوات مع 16 بلدا أفريقيا لمواجهة تأثير بكين المتنامي.
انعكاسات التنافس الدولي على أفريقيا
ترتب على التنافس بين القوى الكبرى لتقاسم موارد القارة عدة نتائج، أبرزها:
أولا: التأثير على الديمقراطية
بطبيعة الحال، تعمل أي قوة خارجية على إنشاء شبكة من الحلفاء والمصالح في الدولة المستهدفة بهدف تمرير مشروعاتها والحصول على قدر أكبر من الامتيازات. كما تعمل على الدفع بهم إلى مراكز اتخاذ القرار بما يتضمنه من اللجوء إلى بعض الوسائل التي تؤثر على الديمقراطية مثل نشر المعلومات المغلوطة، وتوجيه الجماهير، والإعلام المضلل والتجسس السيبراني. الأمر يؤدي إلى تهميش المشاركة الشعبية وخلق ديمقراطية مشوهة كما يتبين في عدد الانقلابات في فترة قصيرة التي تعرضت لها الدول الأفريقية.
ثانيا: الانكشاف الاقتصادي
يؤدي اعتماد الدول الأفريقية على القوى الغربية في الوصول إلى التكنولوجيا أو المواد الطبية أو الحصول على القروض والمنح والمساعدات المالية إلى خلق قوى استهلاكية تعجز عن تغطية احتياجاتها. كما أدى التنافس الشديد على الفرص الاقتصادية بالقارة إلى استنزاف المواد الخام والموارد.
ثالثا: التدهور الأمني
تشير التقديرات إلى أن المشاركات العسكرية للدول الغربية في أفريقيا ساهمت في إطالة أمد النزاع وتوسيع نطاق التوتر وتمدد الإرهاب عابر للدول. بالإضافة إلى أن انتشار العنف المسلح يضمن الساحة الأفريقية كمستورد سلاح مستمر. بالإضافة إلى إدراج دبلوماسية المرتزقة التي ظهرت مؤخرا ما جعل الدول الأجنبية شريك في تحديد مستوى الأمن والاستقرار في القارة.
من خلال مقارنة المسارات الأمريكية والروسية والصينية في القارة يتبين أن أفريقيا تمثل مؤشرا رئيسيا على عودة حقبة الحرب الباردة. إذ أنه من الممكن أن يقود إلى أن تصبح بعض الدول ساحات تصفية للخلافات في ظل انتشار القوات والقواعد العسكرية لمختلف القوى الخارجية الفاعلة على امتداد القارة. كما يحط من قيمة الدول الأفريقية ككيانات مستقلة قادرة على حماية سيادتها من أي تدخل أجنبي. أيضا يكشف انتشار المبادرات والمشروعات الاقتصادية لتلك القوى، أولوية المصلحة الاقتصادية في العصر الحالي، وأنها العامل الأول وراء نشر القوات العسكرية أو التدخل في العملية السياسية. كما أن تباين المصالح بين القوى المتنافسة ينذر بالخطر على الأمن والاستقرار على مستوى أفريقيا.