نظام مهتز، ودولة تترنح بين الفتنة والفساد، فتنة طائفية تطل برأسها من كل زاوية، وروائح الفساد تكاد تزكم الأنوف من كل جانب، وفي الواجهة رئيس غاضب، يُحركه القلق على استمرار حكمه، يعيش في عزلة عن الحقائق التي تُحيط به، فقد قدرته على تحمل أي نقد، أوضاع قلقة في المنطقة والعالم، واتساع رقعة المعارضة في الداخل لمجمل سياسات الرئيس وأولوياته وتوجهاته، وقبضة بوليسية تتحكم في المشهد العام، والمجتمع برمته يعاني أزمات اقتصادية حادة، واتساع الفوارق بين الأغنياء والفقراء، المجتمع السياسي يبدو بدوره غاضبًا وقلقًا ومتطلعًا إلى التغيير، والشواهد كلُها تؤشر باتجاه انفجارٍ لم يكن أحد يتوقع شكله، وإن كان الكل يُجمع على حتمية وقوعه.
هكذا كانت ملامح الصورة من 41 سنة صبيحة يوم 3 سبتمبر سنة 1981، التي تحل اليوم ذكراها، وهي حاضرة بدروسها أكثر من حضورها بوقائعها، بعد كل هذه السنيين ما يزال السؤال يطرح نفسه علينا:
-هل كان الرئيس أنور السادات مضطرًا لأن يحبس كل هذه الأعداد، وأن يسجن كل هذه القامات، وأن ينكل برموز الطيف السياسي والفكري في مصر؟، هل كان ضروريًا أن تمتلئ زنازينه بكل صاحب رأي، أو أن يفرض الصمت على كل صوت معارض لسياساته؟
بصياغة أكثر مباشرة:
ـ هل كان الرئيس في حاجة ماسة إلى أن يسجن مصر؟
**
الرئيس أنور السادات -مثل كل رؤسائنا- يحب إطلاق أوصاف فخمة على أفعال ليست كذلك، وكثيرٌ منهم يطلقون أوصافًا على عكس حقيقة أفعالهم، وكان (الله يرحمه) يعشق إطلاق الثورات، وهي هواية راح يمارسها طوال فترة رئاسته خلفا للرئيس جمال عبد الناصر.
كانت ثورته الأولى بعد سبعة أشهر من توليه الرئاسة، وهي الثورة التي أطاح فيها وتخلص من كل الذين جاءوا به في موقع الرئيس في 14 أكتوبر 1970، ولم يكن قد مضي غير بضعة أشهر، وبالتحديد في مايو سنة 1971، واتخذ السادات من هذا التاريخ مناسبة للاحتفال السنوي بانتصاره على من أسماهم «مراكز القوى»، واعتبره بداية لمرحلة جديدة أطلق عليها في البداية اسم «حركة التصحيح»، ثم ركبته هواية إطلاق الثورات فارتفع بمستواها من «حركة تصحيح» إلى «ثورة التصحيح» ثم رفعها من مجرد ثورة قامت لتصحيح مسار «ثورة 23 يوليو» إلى ثورة مستقلة سماها «ثورة 15 مايو».
**
بدأ السادات رئاسته بثورة وأنهاها بثورة أخرى، فكانت آخر ثوراته تلك التي فجّرها في خطابه إلى الأمة في يوم 5 سبتمبر سنة 1981، وأطلق عليها إعلامه وأبواقه اسم «ثورة سبتمبر»، وهي تعد أقصر الثورات عمرا في التاريخ، فقد اندلعت أولى شراراتها ليل الثالث من سبتمبر، وانتهت بعد شهر واحد من انطلاقتها ظهر يوم السادس من أكتوبر من نفس السنة، حيث اغتالت مجموعة من المنتمين إلى التيار الإسلامي قائد «ثورة سبتمبر» أثناء متابعته للعرض العسكري الذي نُظم بمناسبة الاحتفال بالعيد الثامن لنصر أكتوبر سنة 1973.
بين الثورتين الأولى والأخيرة كانت هناك ثورات عدة، أطلقها السادات بمعدل كل ثلاث سنوات ثورة، فهو صاحب «الثورة الإدارية» منتصف السبعينيات، ثم هو صاحب «الثورة الخضراء» التي أطلقها بعد جولة استمرت ثلاثة أيام في الوادي الجديد بدأت في أول إبريل سنة 1978 لرؤية الأراضي الصالحة للزراعة على الطبيعة بواسطة الطائرة من جنوب مركز باريس إلى خور توشكي، وانتهت جولة الأول من إبريل بتصريحات السادات لوسائل الإعلام، التي أعلن خلالها انطلاقة «الثورة الخضراء» التي تستهدف استغلال الأراضي الصالحة للزراعة في هذه المنطقة والتي يبلغ إجمالها 3.5 مليون فدان، وكانت تلك واحدة من أكاذيب أول إبريل المعهودة.
**
الرئيس السادات قائد ثورة التصحيح، وهادم السجون، ومغلق المعتقلات، ومطلق مسيرة الديمقراطية، هو نفسه الرئيس الذي شهدت فترة رئاسته الأقل نسبيا بالمقارنة مع سلفه وخلفه، أسوأ استخدام لوسيلة الاستفتاء في تاريخ الاستفتاءات كلها، فقد كان يسارع إلى استفتاء الشعب كل مرة على مجموعة جديدة من الإجراءات والقوانين التي تصادر الحقوق السياسية للإنسان المصري.
وهو له باع طويل في فرض القيود على الحريات، وإهدار المبادئ القانونية المستقرة في التشريع المصري أو في المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وتسهل للسلطة خرق الضمانات المنصوص عليها في قانون الإجراءات الجنائية، وتنشئ محاكم استثنائية، وتسمح بمحاكمة المواطن أمام قاضٍ غير قاضية الطبيعي، وتهدر درجات التقاضي، وتؤسس لسلطة الاستبداد وللدولة البوليسية.
في عصر الرئيس السادات ظهر مصطلح «القوانين سيئة السمعة» كما ظهر المصطلح الأشهر «ترزية القوانين»، وهما المصطلحان اللذان اتسع نطاق استخدامهما في عصر مبارك، وحتى اليوم، وكان هذان المصطلحان حاضرين بكثافة عند إقرار ما سمي بقوانين حماية الوحدة الوطنية التي استفتى عليها في استفتاء فبراير سنة 1977 ثم عادا للظهور مرة أخرى حين صدر قانون العيب وقوانين حماية الجبهة الداخلية، واستفتي الشعب عليها في استفتاء مايو سنة 1978.
**
كان آخر ظهور للاستفتاءات عقب اعتقالات سبتمبر سنة 1981، ووضع ما سُمي بمبادئ الوحدة الوطنية، التي تم الاستفتاء عليها في يوم 10 سبتمبر 1981، وقد جاءت نتيجته بالموافقة بنسبة 99،45% على كل ما ورد فيه من انتهاك لحقوق المواطنين وعدوان على حرياتهم.
هذا الاستفتاء هو آخر إجراء قام به الرئيس السادات الذي بدأ رئاسته مبشرا بالديمقراطية وإطلاق الحريات ورفع الرقابة عن الصحف ووقف الاعتقالات وإلغاء الطوارئ ثم إذا به في نهاية حياته يختمها بفتح السجون واعتقال حوالي 3000 مواطن بينهم 1536 من المنتمين إلى كل القوى والتيارات السياسية، وإغلاق عدد من الصحف، ونقل عدد من الصحفيين وأساتذة الجامعات إلى مجالات عمل أخرى.
وكالعادة انطلقت أقلام السلطة تهاجم المعتقلين وتدافع عن قرارات السادات، في مقدمتهم موسى صبري في «الأخبار»، الذي اعتبرها قرارات لضرب الفتنة، وسمتها «الأهرام» ثورة العمل الداخلي، أما محسن محمد، رئيس تحرير جريدة «الجمهورية» فقد وصف الاعتقالات بأنها «ثورة سبتمبر»، وشبهها بالثورة العرابية التي كانت تحل ذكراها المئوية في تلك الأيام.
**
تعددت التخمينات حول أسباب اتساع حملة الاعتقالات في سبتمبر 1981، حيث وصلت في بعض تقديراتها إلى أكثر من 3 آلاف معتقل في يومين، وكانت قوائم الاعتقال مفتوحة ويدخل الزنازين كل يوم خلال الأحداث وراد جديد.
أول وأوضح هذه التفسيرات يشير إلى عامل الخوف المزمن من تكرار أحداث يناير 1977، وهو الخوف البادي اليوم من تكرار وقائع يناير 2011، يجعل السلطة في حالة فزع وتتحسب من أن يأتي اليوم الذي لا تتمناه مرة أخرى.
هناك سبب آخر يقف وراء الحمق في توسيع دائرة المعتقلين لتشمل رموز التيارات السياسية الرئيسية ورموز وطنية عامة إلى جانب رموز دينية لها اعتبارها في المجتمع، هذا الحمق -في رأي البعض- مسئولٌ عنه بشكل أساسي وجود شخصية غير سياسية على رأس وزارة الداخلية التي كان يتولى حقيبتها قبل ثورة يوليو رئيس الوزارة أو سكرتير عام الحزب الحاكم، فكان الوزير بهذه الحيثية شخصية سياسية بالأساس، وبعد الثورة جاء وزراء الداخلية من ضباط المخابرات العامة أو من ضباط أمن الدولة ما يؤهله بالضرورة ليكون ذو عقلية سياسية، أما في سبتمبر 1981 فقد كان على رأس الوزارة اللواء النبوي إسماعيل، وهو أول وزير للداخلية كل مؤهلاته أنه كان ضابط سكة حديد.
**
اتساع رقعة المعارضة لنظام السادات في الداخل والخارج جعل الدولة تبدو مهزوزة تجاه هذه المعارضة ما أدى إلى الإمعان في توسيع دائرة الاعتقالات، ودفع السلطة إلى القرارات والإجراءات الخشنة التي تسببت في نهاية المطاف باغتيال الرئيس، وكادت تسقط نظامه.
كان الرئيس السادات دائم التركيز على حزب التجمع اليساري في معرض هجومه الشرس المتتابع على المعارضة، وكان الحزب في أوج سنوات صعوده، وكثيرًا ما كان جهاز أمن الدولة يعتقل قادة الحزب ورموزه وكوادره النشطة في الحياة السياسية، وكان أكثر ما يزعج السادات النجاح الإعلامي الذي حققه الحزب وانتشار توزيع جريدته الأهالي رغم الحصار الذي كان مفروضًا عليها طول الوقت.
ما زاد في اهتزاز السلطة في طريقة التعامل مع معارضة الداخل وجود معارضين مصريين كثيرين مقيمين في الخارج، وكانوا يتضامنون مع المعارضة المصرية التي كانت تزعج النظام، إلى جانب معارضة عربية لتوجهات السادات، ما ساعد على وجود إذاعات عربية عديدة وصحف كثيرة تشن حملات متواصلة على النظام، كانت المعارضة في الداخل حاضرة في الشارع، وكان امتدادها العربي والدولي يمثل إشكالية حقيقية لحكم الرئيس السادات.
**
في النصف الثاني من سنة 1981 كان شعور السادات بأنه محاصر يزداد كل يوم، حصار من كل مكان ومن كافة الاتجاهات، في الداخل ومن الخارج، وكان هذا الشعور يدفع به إلى حمأة العصبية، وتجلت عصبيته وتوتره من خلال خطاباته المتسارعة التي ظهرت فيها حالة الغضب التي تملكت منه، وبدا شرسًا في التعامل والحديث عمن يعارضونه، وفي تلك الخطابات ظهر تعبيره الشهير: (الديمقراطية لها أنياب أشرس من الدكتاتورية)، وقادته عصبيته في تلك الفترة إلى أخطاء سياسية فادحة كان ثمنها –للأسف- حياته نفسها.
تبدى السادات في تلك الآونة في صورة رئيس غاضب من الجميع، وقد ضاق صدره بكل معارضيه، ومن أي معارضة، أو حتى شبهة معارضة لقراراته وتوجهاته وسياساته التي بدا وقتها أنها تأخذ البلاد في طريق خطأ، وتحملها نتائج تبدو كارثية في نظر جميع المعارضين.
**
ظل الرئيس السادات يُتقن فن إخراج قراراته في أثواب زاهية على غير حقيقتها، ليتمكن من تمريرها على المواطنين، لكن فشله الكبير، هو فشله الأخير، حين عجزت قدراته الإخراجية عن تمرير وتبرير قرارات وإجراءات 5 سبتمبر الغاضبة، التي شملت التحفظ على ما يزيد عن 1500 شخصية عامة من السياسيين والوزراء السابقين والكتاب والصحفيين والأدباء والشيوخ والقساوسة، بالإضافة إلى التحفظ على أموال كثير من الهيئات والمنظمات والجماعات والجمعيات، وإلغاء تراخيص الكثير من الصحف والمطبوعات مع التحفظ على أموالها ومقارها، ونقل بعض أعضاء هيئة التدريس والجامعات والمعاهد العليا إلى وظائف أخرى، ونقل كثير من الصحفيين وغيرهم من العاملين في المؤسسات الصحفية القومية وبعض العاملين في اتحاد الإذاعة والتليفزيون والمجلس الأعلى للثقافة إلي هيئة الاستعلامات أو غيرها من الجهات الحكومية.
ثم كان الخطأ الأكبر الذي يقارب الخطيئة متمثلًا في القرار الفجيعة بالتحفظ على الأنبا شنودة بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية في دير وادي النطرون، وتشكيل لجنة من خمسة من الأساقفة للقيام بالمهام الباباوية.
**
بدا أن طرق السادات قد سُدت، فراح يخطب ويعقد المؤتمرات الصحفية في محاولة لتبرير اجراءاته، وتمريرها وسط أجواء احتقان داخلية وعدم رضا خارجي من أصدقائه في أمريكا والغرب.
ومن اللافت أن البعض ذهب إلى أن أحد التفسيرات لما جرى في سبتمبر 1981 يرجع إلى أن الرئيس السادات كان قبل تلك القرارات مباشرة يقوم بآخر زيارة له لأمريكا، وطبقًا لرواية الكاتب الكبير مكرم محمد أحمد فإن الرئيس كان منفعلًا جدًا ومتوترًا حين قابل الصحفيين المرافقين له في قصر “بلير هاوس” الذي كان ينزل فيه بعد مقابلته الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان.
انفجر هذا الضيق مرة أخرى في صورة لم يكن يتوقعها أحد حين عقد السادات مؤتمرًا صحفيًا يوم 7 سبتمبر في منزله بميت أبو الكوم، وجاء انفجار غضبه عارمًا مع سؤال وجهه إليه مراسل محطة (أي بي سي) الأمريكية، كان السؤال وقحًا:
-سيادة الرئيس، إنك كنت في الولايات المتحدة قبل أقل من أسبوع، فهل أخطرت الرئيس ريجان بما تنوي عمله؟
فقد السادات قدرته على التحكم في أعصابه، وهي ميزة تحلى بها طويلًا، وذكَّر صاحب السؤال بأنه لا يوجد رئيس يحترم شعبه ويحترم وطنه، ويحافظ على كرامته، يمكنه أن يسمح لأي أحد بالتدخل في شئونه الداخلية، ثم نظر في عين المراسل وهو يقول بغضب بادٍ وانفعال كبيرين:
-لو لم نكن في بلد ديمقراطي لأخرجت مسدسي وضربتك بالنار.
**
بدت مصر في تلك الآونة تواجه انسدادًا للأفق لم تشهده من قبل، وبدا أن الدولة بكامل قواها دخلت نفقًا مظلمًا لا ترى فيه شيئًا، وجاءت قرارات سبتمبر لتزيد الطين بلة، وضعت مصر أمام معادلة صفرية، وتطورت الحالة العامة إلى وضع لا حل فيه إلا بإنهاء المعارضة أو اختفاء السادات، فكان ما كان مما يعرفه الجميع.
دروس عديدة، وعِبر متعددة خلفتها وراءها وقائع ما جرى في سبتمبر 1981، وبعدها في أكتوبر من نفس السنة، وهي ما تزال قادرة على أن تعلم السلطة في مصر درس التاريخ الذي لا يجب أن تنساه، وتلقي عليهم عظة الماضي الذي لا يجوز أن تتجاهلها.
كيف تعامل النظام مع معارضته المدنية؟، وكيف قدَّر الأخطار الحقيقية على السلطة؟، وهل نجح تكميم الأصوات وحبس القيادات في تحقيق أمن النظام؟ أم حقق عكس ما خططت له أجهزنه وعلى غير الصورة التي رسمتها أقبية أجهزته الأمنية التي ثبت أنها كانت تجهل حقيقة الخطر الذي يداهم السلطة والدولة والمجتمع وقتها.
واحدة من أكبر مشاكلنا المستعصية أننا لا نقرأ التاريخ، وإذا قرأناه لم نستوعبه، ولا ندرك دروسه، ولذلك كثيرًا ما تجدنا نكرر أخطاءنا بحذافيرها، درس التعامل مع المعارضة السياسية المدنية العلنية وقوى المجتمع المدني هو واحد من أهم دروس سبتمبر الباقية حتى يوم الناس هذا.