دراما عراقية متسلسلة لم تشهد فصولها النهائية بعد، كانت آخر تجلياتها وقائع اليوم المشهود في 29 أغسطس بعد أن تحولت بغداد إلى ساحة قتال عنيف بين أنصار رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وعناصر مما يسمى الحشد الشعبي التي تتبع رسميا الدولة العراقية، بينما قلوب قياداتها وجل عناصرها تدين بالولاء لإيران. صراع مسلح دام أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 23 شخصًا، قبل أن يحرك الصدر أصبع الإشارة بالانسحاب لأنصاره، فيعود الهدوء في لحظات إلى العاصمة، التي شهدت مرانًا مصغرًا لما يمكن أن يقود إليه صدام “شيعي – شيعي”، في بلد أصبحت فيه الميليشيات أقوى من الدولة، ولديها من السلاح الكثير والوفير.

تحررت بغداد من سيطرة الميليشيات واستعادت الحركة الطبيعية بعد يومين من التوتر بانسحاب -تم في دقائق معدودة- لأنصار الصدر، من المنطقة الخضراء (منطقة البرلمان والحكومة والسفارات في بغداد)، بعد دعوته إلى الانسحاب وإمهاله أنصاره 60 دقيقة لفض الاعتصام من الشوارع من كل أنحاء العراق، تحت تهديد “التبرؤ” منهم.

هذه الأزمة يستعرضها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات منذ بداياتها في ورقة بحثية جديدة بعنوان “العراق: من الانسداد السياسي إلى الاحتراب الأهلي”، صدرت ضمن سلسلة “تقدير موقف”، مركزًا على أحدث محطاتها التي أدت إلى تصعيد وصل في ذروته إلى اعتصام مفتوح نفذه أنصار الزعيم الشيعي الأبرز في البلاد، مقتدى الصدر. ذلك في أعقاب سلسلة من الأحداث انطلقت بعد الانتخابات النيابية المبكرة في أكتوبر/ تشرين الأول 2021. والتي تلت نجاح الاحتجاجات الشعبية في إسقاط حكومة عادل عبد المهدي نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، وتولي مصطفى الكاظمي في مايو/ أيار 2020 رئاسة الوزراء.

أنصار الصدر يرفعون صورته داخل البرلمان العراقي بعد اقتحام المبنى

تلفت الورقة البحثية إلى أن المواجهات المسلحة في 29 أغسطس/ آب 2022 وما تمثله مآلاتها المتوقعة للعراق دفعت إلى إطلاق مختلف الأطراف دعوات للعودة إلى طاولة الحوار، للاتفاق على ظروف إجراء “انتخابات مبكرة”، بحسب ما جاء في خطاب رئيس الجمهورية، برهم صالح، في اليوم التالي للمواجهات. لكنها تشير كذلك إلى أنه رغم ما قد تفضي إليه هذه الديناميكية من تشكيل حكومة مؤقتة تقود إلى إجراء الانتخابات، فإن هذا المخرج السياسي المؤقت -وإن قاد العراق إلى انتخابات وحكومة جديدتين- لا يحل الأزمة.

اقرأ أيضا: بئر العراق المشتعل: جذور الأزمة ومآلات المستقبل

في الانتخابات الأخيرة، فاز التيار الصدري بأكبر عدد من مقاعد مجلس النواب، بحصوله على 73 مقعدًا من أصل 328 مقعدًا. وسعى إلى تشكيل تحالف برلماني باسم “إنقاذ وطن” مع تحالف “السيادة” -يمثل المحافظات السنّية- الذي حصل على 37 مقعدًا، والحزب الديمقراطي الكردستاني الذي حصل على 31 مقعدًا.

في المقابل، ظهر تحالف الإطار التنسيقي. وهو تجمع برلماني تشكّل في مارس/ آذار 2021 من أجل تنسيق مواقف القوى الشيعية الموالية لإيران. وأهمها ائتلاف دولة القانون، وتحالف الفتح، وآخرون، بقوة برلمانية قوامها 58 نائبًا. وهو “ما يعني تراجع التأييد لإيران والميليشيات المسلحة في المحافظات الشيعية. ذلك لمصلحة قوى تؤكد على الدولة والوطنية العراقية”، وفق الورقة.

الخروج على “المحاصصة”

وبعد فوز التيار الصدري، دعا زعيمه مقتدى الصدر، إلى تشكيل حكومة أغلبية سياسية. وقد عُدَّ هذا خروجًا على تقاليد “المحاصصة” التي تكرست منذ عام 2003. إذ يقوم نظام “المحاصصة” في العراق على مستويين؛ الأول: توزيع المناصب السياسية الرئيسة على المكونات الإثنية والدينية والطائفية، وفق معادلة ثابتة تقريبًا للمكونات الرئيسة أو الكبرى: العرب الشيعة 50%+1، والعرب والسنة 20 %، والأكراد 20%. مع “كوتا” للأقليات الأخرى.

أمّا المستوى الآخر، فهو توزيع المناصب التنفيذية داخل القوى السياسية الممثلة لكل مكوّن، بحسب حجمها الذي تفرزه الانتخابات.

تشير الورقة إلى أن الصدر حاول تشكيل حكومة أكثرية، مع قوى كردية وسنّية، من دون أن يسبق ذلك توافق شيعي. وهو الأمر الذي فجّر حالة الصراع القائم حاليًّا. إذ تداعت القوى الشيعية الأخرى -بالتحالف مع القوى التي لم تنخرط في الائتلاف الذي دعا إليه الصدر- ما أدى إلى منع انعقاد جلسة انتخابات رئيس الجمهورية، الذي يتولى تكليف مرشح الكتلة الكبرى بتشكيل الحكومة، وفقًا للمادة 76 من الدستور، وذلك بمنع اكتمال النصاب القانوني”.

اقرأ أيضًا: لماذا لا يحتاج العراق إلى انتخابات مبكرة أخرى؟

أدى الفشل في انتخاب رئيس جديد للعراق إلى تعطيل قدرة التيار الصدري وتحالفه على تشكيل حكومة جديدة. وبررت قوى الإطار موقفها هذا بأنّ مقترح التيار لتشكيل حكومة أغلبية يهدد النظام التوافقي القائم في العراق منذ عام 2003. بمعنى أنه يُخرجها من عملية اقتسام موارد الدولة التي ينظر إليها على نطاق واسع من القوى السياسية باعتبارها “غنيمة”.

في الواقع، لا يقتصر الانقسام بين القوى الشيعية في العراق على تشكيل الحكومة. بل يتعداها إلى طريقة إدارة الدولة ووجود الميليشيات وطبيعة العلاقة مع إيران.

ومن المهم، وفق الورقة البحثية، تذكّر أن “الحراك الثوري الذي شهده العراق منذ عام 2019 كان عنوانه ربط الفساد الإداري والمالي، بالمحاصصة الحزبية الطائفية. هذه المحاصصة التي لم تكتفِ باقتسام المناصب العليا. بل امتدت أيضًا إلى وظائف الدولة كلها، على حساب الكفاءة والمهنية وحسن الأداء”.

حسابات الصدر

في ضوء إفشال رؤية التيار الصدري المتصلة بتشكيل حكومة أغلبية سياسية، والعمل من داخل مجلس النواب، قرر نواب الصدر الاستقالة في 12 يونيو/ حزيران 2022، امتثالًا لقرار زعيمهم. وقد برر انسحابه بـ “عدم رغبته في المشاركة مع الساسة الفاسدين في إدارة شؤون البلاد”.

هنا، تذكر الورقة البحثية أن هذه الخطوة “بدت مقدمةً لانتقال الصراع من الإطار المؤسسي إلى الشارع”. ففي 27 يوليو/ تموز 2022، اقتحم عشرات الآلاف من أتباع الصدر مبنى مجلس النواب العراقي. كما دخلوا في اعتصام مفتوح في مبنى المجلس ومحيطه. ثم اقتحموا مقر مجلس القضاء الأعلى في بغداد، واعتصموا أمامه في 23 أغسطس/ آب 2022.

عبّر أنصار التيار الصدري بتحركهم هذا عن رفض ترشيح الإطار التنسيقي -الذي أصبح الكتلة الأكبر في مجلس النواب- بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، محمد شياع السوداني، لرئاسة الحكومة الجديدة.

وفق الورقة البحثية، فإن انسحاب نواب الكتلة الصدرية “يشكّل جزءًا من استراتيجية يعتمد فيها زعيمها -الذي يستمد جزءًا مهمًّا من قوته من كونه سليل عائلة سياسية ودينية عراقية مؤثّرة- على قدرته على الحشد والتعبئة داخل الشارع الشيعي”. وهو يستند إلى الاستياء العام في الشارع العراقي، الناجم عن فشل الحكومات المتعاقبة في التصدي للأزمات السياسية والاقتصادية المتفاقمة.

واستعمل الصدر هذه الاستراتيجية في احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عندما طلب من أنصاره دعم الاحتجاجات ومطالبها بتغيير “الطبقة السياسية الفاسدة”، والعمل على تشكيل حكومة جديدة. قبل أن يعود ويطلب من مؤيديه الانسحاب من ساحات التظاهر في ساحة التحرير والساحات الأخرى في المحافظات العراقية، لدعم مقترحه “تجديد الثورة الإصلاحية السلمية”.

لذلك، يُعتقَد أن الصدر ربما يسعى إلى إطاحة النظام السياسي الذي تأسس عام 2003. ومن هنا، أطلق التيار على حراكه الاحتجاجي الجديد اسم “ثورة عاشوراء”.

يُعتقَد أن الصدر ربما يسعى إلى إطاحة النظام السياسي الذي تأسس عام 2003

شارع مقابل شارع

في كل الأحوال، لا يبدو واردًا أن الصدر سيترك الفراغ ليملأه خصومه في قوى الإطار التنسيقي. فعلى الرغم من إعلانه الانسحاب من العملية السياسية في يونيو/ حزيران 2022، أراد -عبر جولة الاحتجاجات الأخيرة- أن يعلن عودته بقوة إلى العملية السياسية من خلال الشارع هذه المرة.

تشير الورقة البحثية كذلك إلى أن أسبابًا عدة دفعت الصدر إلى حسم موقفه في اتجاه الانسحاب والتوجه إلى الشارع. ففضلًا عن رغبته في تعزيز شرعيته، فإنه يسعى إلى إظهار مكانته داخل النظام السياسي. وكذا إظهار أنّ له قاعدة جماهيرية متماسكة، وأنه قادر على حشدها وتعبئتها أنّى يشاء. وأنه قادر على إفشال مساعي خصومه السياسيين في تشكيل حكومة جديدة بعيدة عنه.

اقرأ أيضا: لماذا لا يحتاج العراق إلى انتخابات مبكرة أخرى؟

في المقابل، عوّلت قوى الإطار على سياسة “شارع مقابل شارع”. فقد قابل الإطار السياسة التي اعتمدها الصدر، بإطلاق اعتصامًا -أيضًا- في حدود المنطقة الخضراء وسط بغداد. إذ أعلنت قوى أنصار الإطار، في 12 أغسطس/ آب 2022، بَدْء اعتصام مفتوح على أبواب المنطقة الخضراء في بغداد “وإن بدت قدرتها على الحشد محدودة مقارنةً بقدرة الصدر”.

وعلى نحوٍ موازٍ، حاولت قوى الإطار احتواء الصدر، من خلال الدعوة إلى الدخول في حوار، بدلًا من التعبئة الشعبية.

أيّد هذا التوجه جلّ زعماء الإطار التنسيقي، بمن فيهم نوري المالكي، الذي تنازل عن قيادة الحوار مع الصدر لمصلحة زعيم كتلة الفتح، هادي العامري، وذلك في اجتماع قوى الإطار، في 3 أغسطس/ آب 2022.

“يبدو أن الهدف من هذه الحركة كان إقناع الصدر بالحوار مع أطراف أكثر مقبولية لديه داخل قوى الإطار. أخذًا في الحسبان الخصومة الشخصية الشديدة التي تميّز علاقة الصدر بالمالكي”. هكذا تختتم الورقة البحثية. بينما تشير إلى أنه في المقابل، وضعت قوى الإطار التنسيقي شروطًا للحوار مع مقتدى الصدر والقبول بمبادرته، من أبرزها حلّ مجلس النواب والذهاب إلى انتخابات مبكرة، وإقالة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. بالإضافة إلى تشكيل حكومة مؤقتة، يعيَّن رئيسها بالتوافق ما بين التيار والإطار، وأن تكون مهمتها إجراء انتخابات مبكرة في موعد لا يتجاوز سبتمبر/ أيلول 2023. على أن يجرى ذلك داخل قاعة مجلس النواب.