كتبنا عشرات المرات، طوال السنوات الخمس الأخيرة، أن الشركات والمؤسسات الغربية الكبرى، والغرب بشكل عام، سيقومون بإعادة توزيع التوكيلات وحقوق الملكية الفكرية. ونبَّهنا في مقالات وملاحظات عديدة متفرقة إلى أن المنطقة العربية ستكون إحدى أهم وجهات وأهداف إعادة التوزيع هذه، وبالذات مصر التي يمكنها أن تستقبل الكثير منها. وذلك بديلا عن الصين التي سيتم سحب الكثير من التوكيلات والاستثمارات وحقوق الملكية منها لأسباب كثيرة، من بينها تصرفاتها السياسية والجيوسياسية المتطرفة عموما، وضبط بعض من مصالحها مع الطموحات الروسية، وتحركاتها حول تايوان، وموقفها من التكتلين الجديدين اللذين ظهرا مؤخرا في منطقة شرق آسيا والمحيط الهادي.
كانت هناك أمنيات وتوقعات بأن تفوز مصر باستثمارات شركات أمازون ومايكروسوفت. لكن من الواضح أن الإمارات وقطر وجنوب أفريقيا أكثر جاهزية واستعدادا من مصر التي يبدو أن لديها مشاكل حقيقية، ربما بسبب السياسات الاقتصادية وقوانين الاستثمار، وربما بسبب عدم جاهزية البنية التحتية، وربما بسبب الأدمغة التي تتصرف في العديد من قطاعات التكنولوجيا والاقتصاد المستقبلية.
لقد خططت شركة أمازون منذ فترة طويلة لإقامة (Data centers) في مجال تكنولوجيا المعلومات في الشرق الأوسط. وتفاءل البعض بشأن المفاوضات التي جرت بين ممثلي الشركة وبين الحكومة المصرية منذ عدة أشهر بشأن إمكانية إقامة مشاريع مستقبلية في مصر. لا أحد يعرف هل كانت المفاوضات حول هذه المراكز أم حول الحزم الضوئية للإنترنت أم بشأن مشروعات أخرى. ولكن من حيث المبدأ، فعندما تدور مفاوضات بين شركة بحجم أمازون أو مايكروسوف وبين الحكومة المصرية، فإننا هنا بصدد مشاريع استثمارية حقيقية بمليارات الدولارات وخلق عشرات الآلاف من فرص العمل، وتطوير البنية التحتية التقنية والرقمية.
وفجأة قررت أمازون استثمار 5 مليارات دولار في دولة الامارات العربية المتحدة لبناء أحد هذه المراكز التي ستوفر نحو 6 آلاف فرصة عمل. كما توجهت شركة مايكروسوفت لتستثمر ما يقرب من 19 مليار دولار في دولة قطر لبناء مركز بيانات آخر سيخلق حوالي 35 فرصة عمل. والحديث هنا لا يدور حول حجم الاستثمارات وفرص العمل فقط، بل يدور أيضا حول التطور التقني- الرقمي، وإعداد البنى التحتية وتجهيزها، وخلق فضاءات سكانية وأسواق وحلقات وسلاسل إنتاج وسطي لأنواع من الصناعات التحويلية وربط الاقتصاد والتكنولوجيا في البلاد بالمراكز المشابهة الأكبر في مختلف مناطق العالم.
هكذا تمت الصفقة المليارية- الرقمية بكل ما تحوي من منافع أخرى باختيار الإمارات وقطر وجنوب أفريقيا كواجهات لهذا النوع من الاستثمارات المستقبلية المهمة. وعلى الرغم من صعوبة المقارنة بين أنواع الاستثمارات من حيث الأفضلية، لأن هذا الأمر يخضع لظروف وشروط ومعايير واحتياجات وطلب اجتماعي واقتصادي، إلا أن السؤال يظل مطروحا: ماذا كان ينقص مصر لكي تفوز بهذا النوع من الاستثمارات، أو في أسوأ الأحوال تنضم إلى قافلة الدول التي تستقبلها؟!
البعض وضع مقابلة في منتهى الخطورة والحيوية، معتبرا أن هذا النوع من الاستثمارات المليارية- الرقمية هو المعنى الحرفي والحقيقي لـ “الاستثمارات” المفيدة والاستراتيجية التي تعمل على ضخ مليارات الدولارات في اقتصاد الدول، وخلق الآلاف من فرص العمل، وزيادة الناتج القومي الإجمالي، وإعطاء قيمة مضافة للاقتصاد الكلي. بينما بيع أصول الدولة أو الشركات شكل من أشكال الانتكاسات، وخاصة عندما يتم تسديد خدمات القروض من الأموال التي تم تحصيلها، وبالتالي لا يمكن للدولة بناء أو إنشاء أصول جديدة بما تقاضته من أموال مقابل بيع الأصول.
هل مصر بخير؟
يبدو أن “مصرنا” ليست بخير فعلا، ويبدو أن هناك من يدفعها دفعا، بقصد أو بدون قصد، إلى الهاوية والتخلف والتأخر. فبيع أصول الدولة يجري على قدم وساق، وتوسيع الفوارق الطبقية يجري بلا أي رحمة أو مسؤولية. ويجري أيضا تمكين عدد معين من الأسر (اتحاد ملاك مصر) من أراضي البلاد ومبانيها وثرواتها من دون أي رحمة أو شفقة أو ضمير. إضافة إلى تمكين نفس دول الخليج وشركاتها من الأصول المصرية وإطلاق يدها في مفاصل الدولة. فهل سينزح المبرمجون والمتخصصون المصريون في التكنولوجيا بالعشرات والمئات إلى دول الخليج للعمل هناك، أم سيذهب نظراؤهم الهنود والباكستانيون؟! يبدو فعلا أن مصر ليست بخير إطلاقا، ولم يعد لنا أمل في الحصول على ولو حصة من عالم التقنيات والرقميات والتكنولوجيا المتقدمة ولو حتى في شكل استثمارات أو توكيلات أو حقوق تجميع أو تصنيع أجزاء وعناصر منها.
قد يكون هناك أمل في أن نكون مستعدين وجاهزين للفوز بمناقصات مرور كابلات الألياف الضوئية أو “الحزم الضوئية” للإنترنت من أوروبا إلى شرق وجنوب آسيا عبر أراضينا. نتمنى أن نوسِّع وجودنا هذا المجال، لأن هذه الفرصة لا تتكرر كثيرا. ولكن هل البنية التحتية جاهزة وقادرة على ذلك؟! هل نحن قادرون على تطوير البنية التحتية حول قناة السويس لاستقبال الصفقات الجديدة لتمرير كابلات الألياف الضوئية.
في الحقيقة، هناك ما لا يقل عن 10 كابلات للألياف الضوئية على مدخل قناة السويس من البحرين الأبيض والأحمر. كما يتقاطع داخل مصر أيضا 15 كابلا تديرها الشركة المصرية للاتصالات، وتمتد من البحر المتوسط إلى سنغافورة. ولكن هناك لغط شديد حول احتكار مصر لرسوم المرور، وأيضا حول ارتفاع قيمة هذه الرسوم التي يقول الخبراء إنها أكثر من المعتاد بحوالي خمسين بالمئة. لكن المخاوف الحقيقية تدور حول حدوث أعطال أو صدور قرارات تعمل على إعاقة مسار ما يمر خلال الكابلات. الأمر الذي قد يوقف حركة الإنترنت في العالم، حسب الخبراء. وبالتالي، فبعض الشركات يبحث عن مسارات أخرى منافسة وليست بديلة.
إن عدم الاستقرار وعدم القدرة على التنبؤ يثيران مخاوف الشركات الكبرى. وفي الحقيقة، من الممكن أن تفقد مصر صفقة مستقبلية بشأن مشروع شركة “جول” لبناء كابل للألياف الضوئية يصل بين إيطاليا والهند. وعلى الرغم من أن تكلفته لا تتجاوز نصف المليار دولار، إلا أنه في غاية الأهمية بالنسبة لمصر لعدة أسباب تتعلق بالجدوى الاقتصادية، والفائدة التقنية، والأهمية الاستراتيجية لمصر نفسها. هذا الكابل لم يتم تحديد مساره بعد. لكن التوقعات تشير إلى أنه يمكن أن يمر من “جنوه” الإيطالية إلى إسرائيل بحريا، ومنها عبر كابل أرضى إلى “العقبة” الأردنية، ثم في البحر الأحمر من السعودية عبر عُمان إلى المحيط الهندي، ثم إلى بومباي في الهند، متفاديا قناة السويس! وبالطبع فشركة “جوجل” تستهدف الربح عموما، وعدم دفع كل تلك الرسوم الباهظة على وجه الخصوص. ومن الممكن أن تحقق أهدافها بالفعل. وهو الأمر الذي يمكنه من جهة أخرى إحداث تغييرات جيوسياسية وجيواقتصادية مؤثرة في المنطقة، وعلى مصر بالذات. ولقد كانت عمليات التطبيع السياسي بين إسرائيل ودول الخليج مهمة للغاية في هذا الشأن. إضافة إلى أن مشروع “نيوم” سيكون سياقا واسعا يضم العديد من البدائل ومن القدرات التنافسية لتحديد دور مصر في هذا المجال، إذا لم يكن تهميشه.
في يناير 2022، صرح رئيس هيئة قناة السويس بأنه من المتوقع إتمام مشروع توسيع القناة في يوليو 2023. هل المشروع سيقتصر على تهيئة الأجواء لإنشاء المناطق الاقتصادية للتجارة الحرة فقط، أم توسيع وتعميق القناة والتفريعة الجديدة، أم إنشاء تفريعة جديدة، أم إنشاء بنية تحتية “مغرية” لجذب الاستثمارات المليارية- الرقمية، وعلى رأسها صفقة مرور كابلات الألياف الضوئية؟! إن توسيع قناة السويس، وإضافة تفريعات لها، وإنشاء بنية تحتية حديثة وواعدة على جانبي القناة، تدخل جميعها تحت بند “قناة السويس مشروع قومي مصري”. وهو ما نتحدث عنه منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين. وذلك بعد أن نشطت دول وأطراف في محاولات ليس بالضبط لمنافسة قناة السويس، وإنما لسحب البساط من تحت أقدام هذا “المشروع القومي المصري” الاقتصادي والإنساني العام الذي لا يزال يقدم خدمات مهمة لحركة النقل في العالم كله. وليس خافيا على أحد محاولات روسيا تحديدا لتهميش قناة السويس كممر مائي عالمي حيوي لصالح مشروع “ممر الشمال” الروسي الذي يعتبره الكرملين “مشروعا قوميا روسيا” يجب العمل عليه تحت أي ظروف.
إن تحديث قناة السويس وتوسيعها وإضافة تفريعات لها، وتجهيز وإعداد بنيتها التحتية لاستقبال ما يمكن أن يستجد من مشروعات دولية واعدة ومهمة واستراتيجية بالمعنيين التقني والاقتصادي، سيسمح لنا بأن نكون على رأس قائمة الدول التي يمكن أن تفوز بصفقة تمرير الألياف الضوئية إلى نصف العالم الآخر- نحو دول شرق وجنوب شرق آسيا والمحيط الهادي. والمطروح كمنافس لنا هما إسرائيل وتركيا. ولكن فرصة مصر هي الأكبر لوجود قناة السويس من جهة، ولإمكانية مرور خطوط الألياف الضوئية إما من تحت قاع القناة أو من اليابسة حولها. ولكن الفوز بحاجة إلى قوانين اقتصادية واستثمارية محترفة ومهنية والحفاظ على قدرات تنافسية لا إظهار قدرات احتكارية، وإلى مناخ من الاستقرار السياسي والاجتماعي لضمان استقرار واستمرار رؤوس الأموال الضخمة والحفاظ على مكانة استراتيجية.