كتب – عبدالوهاب شعبان:
عبر تنسيق سياحي إثيوبي-مصري، وصل الأنبا يوسف، عضو المجمع المقدس بالكنيسة الإثيوبية، إلى القاهرة الأحد الماضي، على رأس وفد كنسي ضم 9 رؤساء أديرة، و4 شمامسة، و4 من سيدات الأعمال الإثيوبيين، في زيارة غابت عنها السياسة وحضر “ماء النيل”.
الزيارة التي تستغرق 10 أيام، بدأت بلقاء قداسة البابا تواضروس الثاني-بابا الإسكندرية، بطريرك الكرازة المرقسية، مساء الأحد، بالمقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية، تخللتها إشارات “بابوية” لأهمية “نهر النيل” لدى المصريين، وإنزاله منزلة “الأب”. بينما لم تغب الصلاة من أجل تحريك مفاوضات “سد النهضة”.
وتعد هذه الزيارة هي الأبرز بعد 7 سنوات من زيارة بطريرك الكنيسة الإثيوبية “الأب متياس الأول”-عام 2015- والتي لاقت احتفاءً رسميًا، والتقى خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتركت تفاؤلًا كبيرًا في العلاقة بين البلدين.
تاريخ العلاقة بين الكنيستين
تجمع الكنيستين “المصرية، والإثيوبية” علاقة تاريخية استمرت عبر القرون، رغم الانفصال الإداري منذ العام 1959. فقبل هذا التاريخ كانت كنيسة إثيوبيا تخضع لنظيرتها المصرية من ناحية رسامات الأساقفة، وغيرها من الطقوس الروحية الكهنوتية. وإلى الآن تشارك الكنيسة المصرية بالتصويت إبان انتخاب بطريرك إثيوبيا بممثل عن مجمعها المقدس.
بحسب تصريحات القمص عبد المسيح بسيط، كاهن كنيسة العذراء (مسطرد)، فإن العلاقة بين الكنيستين ترجع إلى القرن الرابع الميلادي. لافتًا إلى أن أول أسقف مصري في إثيوبيا عُرف باسم “الأنبا سلامة”. ومنذ ذلك التاريخ وحتى عام 1959 كانت الكنيسة القبطية ترسم المطران الأكبر لإثيوبيا. ذلك بحسب تقليد نشأ بين الكنيستين يقضي بسيامة “الكرسي المرقسي” في مصر مطرانًا لـ”إثيوبيا” من أبناء الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ويحصل المطران على الجنسية الإثيوبية بمجرد تجليسه إلى مقره.
استمر التقليد لسنوات، حتى وقعت إثيوبيا تحت الاحتلال الإيطالي. وفي عام 1935 سعى المحتل للفصل بين الكنيستين، وإعلان كنيسة إثيوبية مستقلة. وأسفرت مفاوضات مجمعية عن قرار المجمع المقدس عام 1949 بأن يكون المطران راهبًا إثيوبيًا خلفًا للمطران المصري الأنبا كيرلس.
وفي فترة البابا يوساب البطريرك رقم 115 بين بطاركة الكنيسة القبطية – حسبما يضيف بسيط لـ”مصر360″ – رسم أول أسقف إثيوبي “عام 1950” باسم “الأنبا باسيليوس”. وقد رُقي إلى درجة مطران مع السماح له بسيامة خمسة من الأساقفة الإثيوبيين. كما عقد اتفاق عرف بـ”بروتوكول 1959″، تضمن “ترفيع مطران إثيوبيا إلى مركز البطريرك – بطريرك جاثليق”، بما يعني متقدم الأساقفة. وحددت رسامته، وتنصيبه بواسطة بابا الإسكندرية، للتفرقة في الرتبة الكنسية بينه وبين بطريرك الإسكندرية.
نقطة التحول في العلاقات
وبعد الإطاحة بالإمبراطور “هيلا سلاسي”، والذي حضر وضع حجر أساس الكاتدرائية المرقسية بالعباسية إبان فترة البابا كيرلس الرابع، في حضور الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، كدليل على العلاقة الوثيقة بين الجانبين على مستوى الدولة والكنيسة، سجن البطريرك الإثيوبي، وطُلب من البابا شنودة الثالث رسامة بطريرك جديد بدلًا من البطريرك السجين، فرفض البابا المصري، متذرعًا بأن البطريرك ما يزال على قيد الحياة، ولم تتم محاكمته، ولم تثبت إدانته.
هذه الواقعة كانت نقطة التحول التاريخي في العلاقة بين الكنيستين، نظير رفض الحكومة الإثيوبية آنذاك الأخذ برأي البابا شنودة الثالث، ورسمها “بطريركًا جديدًا”.
ودخلت العلاقة فترة تجميد امتدت ما يزيد عن 40 عامًا -على حد وصف بسيط- حتى جاءت وساطة بطريرك أرمينيا الكاثوليكوس آرام الأول، من أجل عودة العلاقات مرة أخرى. وبناءً على وساطته، عقد اجتماعًا ثلاثيًا بين البطاركة بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية في يوليو/ تموز 2007 وبعدها زار البطريرك الإثيوبي الراحل “الأب باولس” القاهرة في عام 2010.
سنوات القطيعة الكنسية تلك صاحبها على الناحية الأخرى انزواء مصري عن أفريقيا، منذ فترة الرئيس الراحل أنور السادات الذي توجه ناحية الغرب – حسب تصريحات الأنبا بيمن منسق العلاقة بين الكنيستين المصرية، والإثيوبية-. واكتملت القطيعة في فترة الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك بعد محاولة اغتياله في العاصمة “أديس أبابا” مطلع تسعينيات القرن الماضي، واتهامه الصريح لـ”إثيوبيا”.
عودة التطبيع الكنسي
تشير جولة الوفد الكنسي الإثيوبي القاهرة، والتي افتتحت بزيارة “أهرامات الجيزة”، والمتحف المصري، وكنائس مصر القديمة، إلى انفتاح ملموس في العلاقة بين الكنيستين. وهي الزيارة الأبرز للقاهرة بعد 7 سنوات من زيارة البطريرك الإثيوبي “الأب متياس”. وتستمد ثقلها بحسب تصريحات الأنبا بيمن- من تضمين الوفد الكنسي 9 رؤساء أديرة، بما لديهم من أعداد رهبان هائلة في أديس أبابا. حيث يضم الدير الواحد ما بين 700 إلى 800 راهب، وهو عدد أكبر بكثير من الرهبان في مصر.
اقرأ أيضًا: كيف يمكن جذب الأطراف الدولية لموقف مصر من أزمة سد النهضة؟
ورغم تركيز الوفد الإثيوبي – برئاسة الأنبا يوسف – على زيارة الأديرة ومحاولته حصر تساؤلاته عن أنظمة الحياة الديرية ومشروعات الرهبان والنظم واللوائح بالأديرة القبطية، لم تغب قضية “سد النهضة” عن لقاء الوفد البابا تواضروس الثاني داخل المقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية.
ورغم إغلاق “الأب متياس الأول” باب قدرة الكنيسة الإثيوبية على التواصل مع حكومتها لتحريك المفاوضات – خلال زيارته المقر البابوي عام 2015 – فإن البابا تواضروس حسبما أفاد – منسق العلاقة بين الكنيستين – لفت إلى أن “نهر النيل” يبدأ من الحبشة وينتهي في مصر. وهو على نسق جغرافي وتاريخي يشير إلى “الأبوة”، ومصر هي “الأم”.. وكررها ثلاثًا.
أوضح البابا – خلال لقائه – أن الكنيسة تصلي لأجل تحريك المفاوضات. وقد أعرب عن تقديره للتنمية في إثيوبيا، وفي مصر أيضًا بما يجمعهما من تاريخ مشترك، على حد قوله.
ونحو نفوذ الكنيسة القبطية كقوة ناعمة، أبدى الأنبا بيمن احتفاء كهنة كنيسة الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي في الإسكندرية بالوفد الإثيوبي. وأشار إلى أن الكاهن “إنجيلوس النقادي” نقل للوفد الإثيوبي أنها أول كنيسة باسم القديس الإثيوبي. كما أنها تحمل رفاته بعد أن استقدمه الأنبا باخوميوس مطران البحيرة عام 1971 من كنيسة بربارة – مصر القديمة – عقب إحضار عدد من الإثيوبيين أجزاءً منه.
وعلى خط التواصل، أكد “المطران الإثيوبي” على أن دير القديس الأنبا تكلا هيمانوت الحبشي هو الدير رقم واحد في “إثيوبيا”، وطقوسه مستلمة من الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، ولم تتغير حتى الآن. ومن بينها على سبيل المثال “طقس القنديل”.
دور الكنيسة في أزمة “السد”
لم تتطرق لقاءات الوفد الكنسي الإثيوبي داخل الأديرة والكنائس لشأن سياسي يمس المفاوضات بين الجانبين المصري والإثيوبي في مسألة “سد النهضة”. لكن زيارات الجانبين دائمًا ما تستحوذ فيها “مياه النيل” وأهميتها على النصيب الأكبر، على حد قول منسق العلاقة بين الكنيستين.
“الأنبا بيمن” الذي يعد تقريرًا حاليًا عن الزيارة – من المتوقع أن يتسلمه البابا تواضروس الثاني خلال الأيام المقبلة – لفت أيضًا إلى أن الأنبا يوسف لم يحمل أي رسائل من بطريرك إثيوبيا لنظيره المصري. ذلك لأن الأخير يمر بوعكة صحية، ويتلقى العلاج بالولايات المتحدة الأمريكية. مشيرًا إلى أن الكنيسة المصرية تمارس دورها كـ”قوة ناعمة”، وتبذل طاقتها بشكل غير مباشر لتهيئة الأجواء أمام المسئولين، من أجل استكمال المفاوضات.
وأضاف الأنبا بيمن، لـ”مصر360″، أن العلاقات بين الكنيستين في أفضل حالاتها، معربًا عن تفاؤله بتواصل أكثر إيجابية خلال الفترة المقبلة. واستطرد بالقول: “كنيستنا تصلي إلى الله لأجل عودة المفاوضات بشأن سد النهضة”.
“دير السلطان”.. خارج النقاش
كذلك، لم يتطرق الحديث بين الوفد والبابا تواضروس، إلى أزمة “دير السلطان” بالقدس القائمة حاليًا بين الكنيستين. إذ لم تطرح على مائدة النقاش “الإثيوبي-المصري” بالمقر البابوي بالقاهرة. يقول “الأنبا بيمن”: “كنا مستعدين لذلك. لكن البابا تواضروس لم يتطرق إليها، والأفضل أن نطرحها عليهم في بلادهم. وليس خلال زيارة سياحية لمصر”.
الزيارة التي تقرب مسافات الحوار بين الكنيستين الإثيوبية والمصرية ستكون ذات أصداء لدى عودة الوفد الكنسي إلى “أديس أبابا”. ينطلق ذلك – حسب قول بيمن – من حرص رؤساء الأديرة التسع على الحديث عن التجربة الرهبانية في مصر، ونقل الخبرات.
وعلى صعيد متصل، يستعد الأنبا بيمن منسق العلاقة بين الكنيستين للسفر إلى إثيوبيا مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، في زيارة رعوية، تستهدف الاطمئنان على صحة البطريرك الإثيوبي. وكذا الوقوف على رد فعل زيارة الوفد الإثيوبي، وأجوائها داخل الأديرة الإثيوبية. ذلك إلى جانب آداء بعض المهام الكنسية حسب تكليف البابا تواضروس الثاني.
يشار إلى أن البابا تواضروس الثاني زار الكنيسة الإثيوبية بدعوة من البطريرك الإثيوبي “الأب متياس” عام 2015. كما زار البطريرك الإثيوبي القاهرة في العام ذاته. وتعد الزيارات المتبادلة خطوة باتجاه الإبقاء على الرصيد المشترك بين الكنيستين.