في بداية عام 2022، زار الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، نظيره المصري، عبد الفتاح السيسي، فيما بدا اختراقا يدشن لمرحلة “التفاهم” بين البلدين حول عدة ملفات إقليمية عربية. وبعد نحو 9 أشهر اختارت الجزائر القاهرة كي توجه إليها أولى الدعوات الرسمية لحضور قمة جامعة الدول العربية. التي تقام على أرضها، في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الدعوة استقبلت بترحيب واحتفاء من الرئيس المصري في رسالة إعلامية ربما يراد منها التأكيد على متانة العلاقات، وعدم إبراز خلافاتهما في العلن. لكن ما بين تلك الأشهر التسعة جرى كثير من مياه التقلبات والخلافات الصامتة بين البلدين حول عدة ملفات، تجسدت ذروتها في استقبال تبون، رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد -نهاية أغسطس/آب الماضي- بعد نحو أسبوعين من إعلان إثيوبيا اكتمال الملء الثالث لسد النهضة. وقد اتفقا على فتح خط جوي مباشر بين البلدين.
وكتب آبي أحمد علي في تغريدة على تويتر: “سعدت بلقاء الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون. تحادثنا حول العلاقات المتينة بين بلدينا. إثيوبيا والجزائر تربطهما علاقة تاريخية طويلة وهناك العديد من المجالات التي يمكن تعزيز تعاوننا فيها”.
الخطوة الجزائرية الإثيوبية لم تكن الأولى، بل جاءت بعد مرحلة من الزخم المتبادل استقبل فيها تبون نظيرته الإثيوبية، سهلورق زودي. كان ذلك خلال احتفالات ذكرى الاستقلال الستين، حين التقى وزيرا الصناعة والتجارة السفير الإثيوبي. والأهم لقاء وزير الري والموارد المائية الجزائري مع السفير (إبريل/ نيسان الماضي) في رسالة واضحة تشي بقوة العلاقات بين البلدين.
واللافت أن هذا الزخم بدأ مباشرة بعد لقاء جمع بين وزير الخارجية المغربي، ناصر بوريطة، ونظيره المصري، سامح شكري. ودعم فيه الأول الحقوق المائية لمصر في نزاعها مع إثيوبيا، في سياق تشتعل فيه الأزمة الدبلوماسية ما بين المغرب والجزائر. وهي أزمة تحاول مصر إدارتها بتوازن في علاقاتها مع البلدين دون الانحياز لأحدهما.
ما وراء الدفء الجزائري الإثيوبي
يرى عز الدين العياشي، أستاذ العلاقات الدولية والأفريقية في جامعة “سانت جونز” بنيويورك، أنه لا توجد خلافات كبيرة بين مصر والجزائر اللذين تربطهما علاقات جيدة بشكل عام ترجع إلى زمن نضال الجزائر ضد فرنسا الاستعمارية، عندما قدمت مصر دعما كبيرا لقضية التحرر الوطني في الجزائر.
“قد تكون بعض القضايا قد أزعجت البلدين خلال الفترة الأخيرة، مثل الملف الليبي وحالة جامعة الدول العربية في خضم عالم عربي منقسم. وربما كذلك القضية الفلسطينية”، يقول العياشي لـ”مصر 360″.
ويوضح أن أحد التفسيرات المحتملة هو اختلاف وجهات النظر حول الأزمة الليبية وحقيقة دعم الأطراف المتصارعة في ذلك الصراع. فـ”تداعيات الصراع الليبي هي نفس اهتمامات مصر والجزائر بسبب طول الحدود المشتركة بينهما”.
ويدعم كلا البلدين أطرافا متصارعة في الأزمة الليبية. إذ تقف الجزائر إلى جوار عبد الحميد دبيبة، رئيس حكومة “الوحدة”، بينما تقف مصر مع فتحي باشاغا، رئيس حكومة “الاستقرار”. وهما الطرفان اللذان خاضا صراعا مسلحا في العاصمة طرابلس، الأسبوع الماضي.
وقد ظهرت بوادر الخلافات بين البلدين -بعد شهر فقط من محاولات تجاوزها خلال زيارة تبون للقاهرة- عندما تقابل الرئيس الجزائري مع الدبيبة في الكويت في فبراير/شباط الماضي، ليغادر السيسي بعدها الكويت دون عقد القمة المنتظرة مع تبون. ثم تبعها خطوة جزائرية أخرى توجست منها القاهرة، وهي تدشين مجموعة الأربعة الإفريقية مع إثيوبيا وجنوب إفريقيا ونيجيريا.
أما على الجانب الإثيوبي، فإن آبي أحمد يسعى من تلك الزيارة إلى تحسين سمعته الدولية “الملطخة” بسبب حربه “التي لا ترحم” ضد التيجراي. وربما كذلك -بحسب العياشي- بحث مساعدة الجزائر في قبول مصر لرغبة إثيوبيا المتعلقة بشروط تدفق المياه التي تسعى لتقديمها للقاهرة والخرطوم.
المنظور الجزائري لسد النهضة
لكن من وجهة نظر أستاذ العلوم السياسية الجزائري، فإن السبب الأهم للخلاف يكمن في تفضيل الجزائر لحل تفاوضي للأزمة التي خلقها بناء إثيوبيا لسد النهضة دون اتفاق مسبق مع مصر والسودان.
ويشير: “الوساطة الجزائرية الناجحة في الأزمة الإريترية الإثيوبية يمكن أن تساعد في جلب الطرفين -يقصد مصر وإثيوبيا- إلى طاولة المفاوضات حيث يمكن معالجة وتسوية المخاوف المصرية بشأن السد ومخاوف إثيوبيا بشأن اتفاق ملزم. هذا هو الأمل على الأقل”.
وقد حاولت الجزائر في أغسطس/آب من العام الماضي التوسط بين إثيوبيا من جهة ومصر والسودان من جهة أخرى. إلا أن جهودها لم تنجح في التوصل إلى اتفاق بين البلدان الثلاثة في حينها.
ورغم تفهم الجزائر للمطالبات والحقوق المصرية، فإنها تفضل الوقوف إلى جانب “حل تفاوضي” -دون اتفاق ملزم- بدلا من دعم مطالبات أحد أطراف النزاع.
ويُضفي الباحث مزيدا من التوضيح للعوامل التي تقف خلف الموقف الجزائري “تمتد هذه القضية إلى كل من العالم العربي وإفريقيا حيث تسعى الجزائر للحفاظ على علاقات جيدة مع إثيوبيا في سعيها لبسط نفوذها في إفريقيا جنوب الصحراء. ويجب أن تكون الجزائر منتبهة لاحتياجات ومخاوف شركائها الأفارقة، بينما تفرض عضويتها الفعلية في العالم العربي عليها ضرورة أن تظل ذات صلة بهذا الجزء من العالم كذلك”.
يشير تحليل لمركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، إلى الرغبة الجزائرية في تعزيزأدوارها في منطقة الساحل الإفريقي وجنوب الصحراء باعتبارها إحدى البوابات الرئيسية، والأكثر أمنا للقارة الأفريقية، كونها الدولة الوحيدة التي تربط دول شمال المتوسط، بعمق القارة. وهو ما دفعها للعب دور سياسي وأمني هام في دولة مثل مالي.
الجزائر كوسيط في الأزمة
تهدف الجزائر إلى رعاية علاقاتها الإفريقية، خاصة في ظل التنافس مع الهجوم الدبلوماسي والاقتصادي الشامل للمغرب في منطقة جنوب الصحراء -بحسب الباحث المختص بالعلاقات الإفريقية- لكن هذا لا يعني الوقوف ضد مصر أو إعاقة سعي مصر لتحقيق مصالحها الوطنية. “مصر دولة إفريقية أيضا، وعلى هذا النحو، على الجزائر أن تظل حذرة بشأن الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول الأفريقية”.
لذا بسبب خبرة الجزائر المؤكدة في التوسط في النزاعات والتوترات، “فقد يكون من الجيد أن توافق مصر على عرض الجزائر للتوسط في النزاع”.
ويحفل رصيد الجزائر بتجارب غنية في مجال حل النزاعات الدولية سلميا، إذ نجحت الدبلوماسية الجزائرية على مدى عقود في نزع فتيل عدد من الأزمات، لعل أبرزها الدور المحوري الذي لعبته في إنهاء النزاع العراقي – الإيراني وتوقيع اتفاقية الجزائر عام 1975 وهو الدور الذي لعبه الرئيس الراحل هواري بومدين ووزير خارجيته وقتها عبد العزيز بوتفليقة.
كما لعبت دورا هاما من أجل التوصل إلى إبرام اتفاق للسلم والمصالحة بين الفرقاء في مالي وغيرها من الملفات الإفريقية الشائكة. ويرى خبراء ومراقبون أن مهمة وزير الخارجية، رمطان لعمامرة، تتمثل في “إحياء دور الجزائر كوسيط في الأزمات الدولية” خاصةً في محيطها المباشر.
وكان لعمامرة منسقا للسلم والأمن في منظمة الاتحاد الإفريقي، و”بالتالي لديه نزوع نحو إفريقيا ومشكلاتها”، بحسب توفيق بوقاعدة، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الجزائر.
جامعة الدول العربية والغاز كمدخل للتفاهم
يشير التنسيق الجزائري رفيع المستوى مع القاهرة بشأن قمة جامعة الدول العربية المقبلة، إلى مدى حاجة الجزائر للثقل المصري من أجل إنجاح قمتها. ورغم اتفاقهما فيما يتعلق بدعوة النظام السوري لحضور القمة إلا أنه باعتباره ملفا شائكا هدد نجاح القمة العربية وأدى لتأجيلها ثلاث مرات -خاصة في ظل الرفض المشدد من السعودية وقطر- فقد تجاوزت الجزائر تلك النقطة.
ويقول مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق والخبير في العلاقات الدولية، حسين هريدي، إن الخطوة الجزائرية جاءت بعد الإعلان عن توصل الحكومتين الجزائرية والسورية إلى اتفاق تم بموجبه عدم إدراج بند إعادة شغل سوريا لمقعدها في مجلس الجامعة العربية، وبذلك تم تجميد عقبة أمام انعقاد القمة العربية الدورية.
وزير الخارجية السوري فيصل المقداد أعلن قبل أيام، عن عدم رغبة بلاده في طرح استئناف عضوية دمشق في الجامعة العربية، خلال القمة العربية المقبلة، حرصا منها على المساهمة في توحيد الكلمة والصف العربي في مواجهة التحديات التي تفرضها الأوضاع الراهنة على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ووفق هريدي فإن الجزائر منذ فترة طويلة تهتم للغاية بإنجاح هذه القمة، معتبرًا إياها بأنها ستكون “قمة إثبات الموقف العربي بالتغير النوعي تجاه التعاطي مع العديد من القضايا والأزمات العربية”. وشدد على أن إرسال الجزائر لدعوات رسمية يؤكد أن عقد القمة في موعدها أصبح أمرًا واقعًا أكثر من أي وقت مضى.
على جانب آخر، يُمثل ملف الغاز نقطة التقاء بين البلدين –بحسب تقرير سابق لـ”مصر 360″– وهو ما جعل رئيس الوزراء الجزائري، أيمن بن عبدالرحمن، يخصه بحديثه خلال استقباله نظيره المصري، مصطفى مدبولي، في يوليو/تموز الماضي.
إذ قال إنه “على اعتبار أن البلدين من الدول المنتجة للغاز ولهما قدرات في تسييله وتصدير الغاز المُسال. فأحرى أن يكون بينهما تشاور وتنسيق بما يضمن تعظيم استغلالهما هذه المادة الحيوية والدفاع عن مصالحهما في ضوء التطورات العالمية. والتي جعلت من الطاقة أحد الرهانات الأساسية في العلاقات بين الدول”.
إذا تطفو الخلافات بين البلدين على السطح أحيانا، وتختفي أحيانا أخرى. لكن تشابه بنية الحكم وأركانه، وعلاقتهما المتشابكة مع الأطراف الدولية الفاعلة، والحاجة لإبقاء حبل الوصال مع الدول الإفريقية؛ تدفعهما لإبقاء التوترات مكتومة وإبراز علنية الترحيبات.