بعد يومين من إعلان المنسق العام لمبادرة الحوار الوطني تشكيل أمانات اللجان السياسية والاقتصادية والاجتماعية كان موقع مدى مصر يعلن استدعاء النيابة لأربع زميلات صحفيات للتحقيق بعد معهن بعد عشرات البلاغات التي قدمها حزب مستقبل وطن اتهمهم فيها بالسب والتشهير.

الواقعة على وضوحها كاشفة بدرجة كبيرة لمساحة حرية الصحافة التي تقلصت حتى كادت تتلاشى.

منذ 2016 ضاقت حرية الصحافة بما رحبت وسيطرت وتضاءلت مساحات النشر والكتابة وتحولت الصحف ووسائل الإعلام لنشرات رسمية تردد خطاب السلطة وتدافع عنها وتصفق وتهلل لكل كبيرة وصغيرة.

اقرأ أيضا.. لماذا لا تتحدث الحكومة عن الأزمة الاقتصادية وخطط مواجهتها؟

الملفت في واقعة مدى مصر أن الحصار القاسي المفروض على وسائل الإعلام قد تجاوز رفض النقد الذي توجهه هذه الوسائل لكبار المسئولين ليصل إلى عقاب الصحفيين وإحالتهم للمساءلة القضائية لمجرد انتقاد حزب سياسي!

واقع أسود للصحافة وحريتها ضرب المهنة في مقتل وسلمها بالكامل لأعدائها ولكل من يرغب في الانتقام منها!

في نفس اللحظة التي تتغنى فيها السلطة الحالية بالحوار السياسي وبالتبشير بالجمهورية الجديدة تضاءلت حرية الصحافة لدرجة غير مسبوقة حتى وصلت لعقاب صحفيين لمجرد نشرهم خبراً عن حزب سياسي من بين عشرات الأحزاب الموجودة على الساحة.

المؤكد أنه على مدار السبع سنوات الفائتة تعرضت الصحافة لحصار “غاشم” وغير طبيعي، دهس المهنة بقسوة فحولها إلى مجرد أشلاء، بعد أن أفقدها التهليل والتطبيل كل تقدير كان يكنه لها المواطن الذي اعتبرها دائما صوته وعينه التي تراقب السلطة، وتكشف كل صور الظلم الفساد والانحراف.

في السنوات السابقة على ثورة يناير 2011 خاض الصحفيون المصريون نضالاً طويلاً ونبيلاً من أجل ترسيخ حق الصحافة في نقد المسئولين وفقاً للقانون، بداية من رئيس الجمهورية وحتى أصغر مسئول أو موظف عام، ونجح الصحفيون في اكتساب مساحات جيدة من الحرية مكنت الصحافة من القيام بدورها في كشف العديد من صور الفساد، فقد كانت الصحافة وبحق تعمل لدى المواطن وليس لدى المسئولين أو الحكام، وشهدت الصحافة منذ عام 2004 ميلاد جيل جديد من الصحفيين، وتجارب صحفية جديدة وشابة، تفاعلت مع العالم وما يموج فيه من حريات، وتأثرت بهذا العالم الذي يحترم الصحافة وحريتها فقدمت تجارب ناجحة ومؤثرة سيخلدها تاريخ الصحافة بكل تأكيد.

بعد عام 2016 قررت السلطة الحالية حصار الصحافة بشكل كامل، وكتم كل الأنفاس التي ما زالت تتعامل مع الصحافة باعتبارها مهنة مستقلة لا تخضع لأحد ولا تتبع أحداً غير قارئها والقانون.

وقفة احتجاجية لصحفيين مصريين

المؤكد أنه لا تقدم ولا تطور يمكن أن يحدث في غياب الصحافة الحرة، هذه قاعدة مؤكدة لا يمكن التقليل منها.

في عام 2018 ارتكبت السلطة الحالية خطأ فادحاً بتمرير القوانين التي تنظم عمل الهيئة الوطنية للصحافة والمجلس الأعلى للإعلام. قوانين سيئة السمعة أرادت بها مزيداً من إخضاع الصحافة والسيطرة عليها، وقتها كنت عضواً منتخباً في مجلس إدارة نقابة الصحفيين، وحذرت مع عدد من الزملاء المحترمين أعضاء المجلس من آثار هذه القوانين على الصحافة وحريتها، وأكدنا أنها جاءت لتزيد من القيود والتضييق والحصار على الصحافة، وأنها قوانين تنتمي لعصور مضت ولا يمكن أن تواكب المستجدات الهائلة التي طرأت على العالم، والتي أصبح فيها حصار الكلمة أشبه بالمستحيل، وللأسف لم يستمع أحد- كالعادة- لكل التحذيرات، ومضت القوانين في مسارها الذي وُضعت من أجله، أي مزيداً من القيود على الصحافة، وحصار كامل وشامل لكل الأصوات المزعجة التي لا تعجب السلطة، والتي تتمنى أن تسكتها حتى لو بقوانين مشبوهة فصلتها أجهزة معروفة للجميع وسط ظلام دامس.

المؤكد أن استمرار الصحافة بهذا الوضع المزري أمر لا يمكن السكوت عليه، فتدمير مهنة بكاملها كانت حتى وقت قريب إحدى علامات قوى مصر الناعمة جريمة مكتملة الأركان، ولعل أحداً يمكن أن يراجع المسار المؤسف الذي سار عليه المجتمع طوال الفترة الماضية بعد أن دخلت الصحافة إلى بيت الطاعة قسراً وجبراً.

المؤكد لدي أن البداية لابد أن تأتي من الإرادة السياسية، أي الرغبة الحقيقية والجادة والصادقة لاحترام مهنة الصحافة، ورفع القيود التي تحاصرها، ومنحها الفرصة للقيام بدورها الطبيعي والقانوني في إعلان الحقائق للمجتمع، وكشف كل صور الفساد، ونقد المسئولين في حالة وجود تهاون أو تقصير، والمشاركة الجادة في الجدل العام حول قضايا البلد الرئيسية والمهمة.

إذا صدقت النوايا وكانت هناك إرادة سياسية لرفع القيود عن الصحافة ومنحها حقها الطبيعي في العمل بحرية فإن الخطوة التالية تبدأ بتعديل كل القوانين التي تنظم العمل الصحفي، وإلغاء كل النصوص التي تجيز الحبس في قضايا النشر، وتعديل النصوص التي تمنح المجلس الأعلى للإعلام الحق في وقف المواقع الصحفية أو حجبها، ومنع كل المؤسسات والأجهزة التي لا ترتبط بمهنة الصحافة من التحكم في مصيرها أو وضع أچندتها، وتأكيد دور نقابة الصحفيين في محاسبة أعضائها من الصحفيين عن كل الأخطاء المهنية، للتحول القاعدة من المثول أمام النيابة إلى المثول أمام النقابة.

خلال الأعوام التي مضت تأكدنا جميعاً أن مصر ليست بها صحافة حرة ولكنها بالتأكيد تملك صحفيين أحراراً، حاولوا واجتهدوا وثابروا رغم مساحات الإحباط الواسعة التي تحيط بهم من كل الاتجاهات، حصل بعضهم على جوائز مصرية وعربية، وحاول بعضهم استغلال المساحات الصغيرة المتاحة في تقديم صحافة جادة، وهو أمر يبشر أن الصحفيين المصريين بخير، وأن المهنة تنتظر فقط مناخاً جديداً ومختلفاً حتى تعود إلى سابق عهدها، وتزدهر لتثمر كتابات جادة ومؤثرة تعود بالفائدة أولاً وأخيرا على البلد وأهله، هؤلاء الصحفيين “الأحرار” ينتظرون لحظة آتية لا محالة مهما حاول الاستبداد تأخيرها وابتعادها عن محطة الوصول.

هامش أخير: حرية الصحافة ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعيشة الكريمة للصحفيين، فبلا صحافة حرة لا قراء ولا إعلانات ولا مرتبات عادلة.