يعد الفليسوف جون استيورت ميل من أوائل من نادوا بحرية التعبير عن أي رأي مهما كان هذا الرأي في نظر البعض حيث قال «إذا كان كل البشر يمتلكون رأيا واحدا وكان هناك شخص واحد فقط يملك رأيا مخالفا فان إسكات هذا الشخص الوحيد لا يختلف عن قيام هذا الشخص الوحيد بإسكات كل بني البشر إذا توفرت له القوة» وكان الحد الوحيد الذي وضعه ميل لحدود التعبير هو ما أطلق عليه «إلحاق الضرر» بشخص آخر ولا يزال هناك حتى اليوم جدل عن ماهية الضرر، فقد يختلف ما يعتبره الإنسان ضررا أُلحق به من مجتمع إلى آخر.
وكان جون ستيوارت ميل من الداعين للنظرية الفلسفية التي تنص على أن العواقب الجيدة لأكبر عدد من الناس هي الفيصل في تحديد اعتبار عمل أو فكرة معينة أخلاقيا أم لا، وكانت هذه الأفكار مناقضة للمدرسة الفلسفية التي تعتبر العمل اللاأخلاقي سيئا حتى ولو عمت فائدة من القيام به، واستندت هذه المدرسة لتصنيف الأعمال إلى مقبولة أو مسيئة، ولتوضيح هذا الاختلاف فإن جون ستيوارت ميل يعتبر الكذب على سبيل المثال مقبولا إذا كان فيه فائدة لأكبر عدد من الأشخاص في مجموعة معينة، على عكس المدرسة المعاكسة التي تعتبر الكذب تصرفا سيئا حتى ولو كانت عواقبه جيدة.
اقرأ أيضا.. انتخابات نقابة المحامين والتدخل القضائي
وقد لا يكون لأي رأي مهما كانت قوته قيمة فعالة إذا لم تستطع إيصاله عن طريق التداول من خلال وسائل التواصل المختلفة، كما أنه ستكون قيمة الرأي محدودة إذا ما كانت وسائل الإعلام تحت سيطرة مجموعة من الرجال الأغنياء أو الشركات أو الجماعات، كما ستكون محدودة أيضا إذا لم تتمكن من الوصول إلى معلومات كافية أو إلى قدر وافر من التعليم يمكنك من تفسير هذه المعلومات أو صياغة آرائك في صورة مفهومة، وبمعنى آخر، فإن حقيقة حرية التعبير تعتمد على القوة بقدر ما تعتمد على القانون فلكي يكون لك حرية رأي مؤثرة، يجب أن تتمتع بالقدرة كما يجب أن يكون لك الحق، ولا تكمن الصعوبة الحقيقية فقط في الحرية النظرية للإدلاء بالرأي، ولكن في تحديد احتياجاتك الحقيقية لتكون قادرا على تلقي وتوصيل معلومات وأفكار. والأكثر صعوبة هو تحقيق ذلك.
وبتاريخ السبت الموافق 3 أغسطس لسنة 2022، نشرت الجريدة الرسمية في عددها رقم 30 مكرر(د) قرار رئيس مجلس الوزراء رقم 2720 لسنة 2022 بشأن قواعد التصوير الشخصي في الأماكن العامة، والمتضمن حظر التصوير الشخصي إلا بعد الحصول على موافقة مسبقة من الجهات المعنية، وذلك للأراضي والمباني والمنشآت والمعدات التابعة لوزارات الدفاع والإنتاج الحربي والداخلية وغيرها من الجهات السيادية والأمنية والقضائية والمجالس النيابية، كما تضمن كذلك حظر تصوير مباني الوزارات ومنشآتها والمصالح الحكومية، كما تضمن في مادته الخامسة: حظر تصوير أو نشر المشاهد المسيئة للبلاد أو المواطنين أو المخلة بالآداب العامة، أو تصوير الأطفال، وكذلك تصوير ونشر صور المواطنين دون موافقة كتابية منهم.
وبخلاف ما أتت عليه المواثيق الدولية المعنية بحقوق الإنسان، وأهمها في هذا النطاق العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وما جاء في المادة التاسعة عشر منها والتي أباحت وكفلت حرية الرأي والتعبير بشتى الطرق بما فيها التصوير، فقد نصت المادة 65 من الدستور المصري لسنة 2014 على أن: حرية الفكر والرأي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه بالقول أو بالكتابة أو بالتصوير، أو غير ذلك من وسائل التعبير المختلفة، كما نص قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018 في المادة الثانية منه على أن تكفل الدولة حرية الصحافة والإعلام والنشر الورقي والمسموع والمرئي والإلكتروني، كما أن المحكمة الدستورية العليا قد ذهبت في أكثر من حكم لها إلى إقرار ذلك، وتمثيلاً ما جاء في الحكم رقم 47 لسنة 3 من تأكيد لحسن ممارسة تلك الحقوق بقولها “إن حرية الرأي والاختيار هما من الحريات والحقوق العامة التي تعد ركيزة كل صرح ديمقراطي سليم، وقد حرص الدستور على النص في بابه الثالث على أن حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون”.
وتعبير “في حدود القانون” لا يعني بأي حال من الأحوال سوى تنظيم كيفية ممارسة ذلك الحق، ولا يعني أبدا التضييق على ممارسته، أو منعها أو الحد منها، وإلا اعتبر ذلك مصادرة للحق في صورته الكلية، وهو الأمر الذي يأبى على الدساتير أن تتوجه إليه أو تقصده.
وكنت أرى أن هناك داعيا أو سببا لمنع تصوير الأماكن أو المنشآت العسكرية، وأن الحظر هنا يرتبط بحماية أمن قومي يتعلق بمصلحة عليا للبلاد، لا أن يمتد الأمر إلى التضييق على تصوير أماكن عامة في المطلق، دونما الحصول على ترخيص بذلك من الجهات المعنية، كما أعتقد أن هناك علة لمنع تصوير المناظر أو الصور المخلة بالآداب العامة، لكن أن يمتد الأمر بحسب نص القرار إلى تصوير المواطنين في الأماكن العامة إلا بموافقة كتابية، أو تصوير الأطفال، إنما يمتد ذلك إلى طائفة من القوانين والقرارات التي أتت مؤخرا لتصب في خانة التضييق من ممارسة حريات التعبير عن الآراء في صورها المختلفة، ويضاف بشكل رئيسي إلى ماء جاء في المادة 25 من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات، والتي أتت بتجريم الاعتداء على القيم الأسرية المصرية، والذي جاء بألفاظ يصعب ضبطها من الناحية القانونية، وهو الأمر الذي يوسع من دوائر التجريم.
وإن كنا نؤكد على أن المجتمع الدولي قد أقر أن هناك ضوابط للتضيق أو الحد من ممارسة حرية الرأي في مجملها، فإن تلك القيود هي كما وردت في المادة 19 / 3 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، بما يجب أن تكون ضرورية ومتناسبة، وقد ذهبت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان سنة 2006 في قضية (فالاكا أوغلو وساجيلي ضد تركيا) إلى أن أي تدخل في حرية التعبير لشخص ما يجب أن يكون ضروريا ومتناسبا في أي مجتمع ديمقراطي، بما في ذلك حماية النظام العام ومنع الجريمة والإرهاب.
ومن هنا، فإن أي تقييد غير ضروري أو لازم لممارسة حرية الرأي والتعبير بكافة أشكالها، يعد تصرفا غير دستوري، ولا يسعى لخلق مجتمع ديمقراطي حر.