“الواد الأسود أبو بربور “و”البت التخينة “و”ابن دادة سعدية”.. تلك هي الألقاب التي منحها مدرس الفصل للبعض منا في أول حصة لأول يوم دراسي في المدرسة الابتدائية.
لا أدري هل كان يقصد التنمر أم أن ذلك كانت طريقته في التعرف على أكثر من ٨٠ طفلًا اصطفوا في المقاعد مرتدين مرايل صفراء من قماش رخيص اقتطع ثمنها أهلهم من قوت يومهم، والبعض ورثها من أخوه الأكبر سنا.
أم أنها كانت طريقته لإرهاب هؤلاء الملاعين أبناء الافاعي – كما يراهم – وإثبات نفوذه وقدرته على تحويل حياتهم إلى جحيم بمنحهم تلك الألقاب التي ستستمر معهم مدة كفيلة بالقضاء على مستقبلهم وإصابتهم بكل الاضطرابات النفسية التي ستصاحبهم بقية عمرهم.
سواء كان يقصد أو لا يقصد، فقد نجح في تعليمنا درسه الأول في التنمر، وفي زرع الخوف داخلنا من الاختلاف فكونك مختلف يعني أنك ستمنح لقب من هذه الالقاب، وستكون مصدر للسخرية والاستهزاء والإيذاء.
إياك والاختلاف، كن مع القطيع، وحتى يرضى عنك القطيع وتكسب ثقته لابد أن تشاركهم في التنمر على المختلفين لتثبت ولاء ك للقطيع، لا تأخذك رحمة بالمختلفين فالتنوع جريمة.
بمرور الوقت أصبحنا قطيع في التنمر يعلو صوته بالضحك كلما نادى المدرس على “الواد الأسود أبو بربور “و”البت التخينة “و”ابن دادة سعدية ” وألقاب كثيرة تزداد مع كل يوم دراسي.
واختفت من قلوبنا مشاعر التضامن والتعاطف والمواساة، لتحل محلها قسوة وبلادة جعلتنا نتفوق على معلمنا في التنمر، لنكمل مسيرته فلا يفوتنا فرصة لتحويل حياة طفل أو طفلة منا إلى الجحيم إلا وتسابقنا في ذلك، لتتسع رقعة ضحايانا لتشمل المختلفين: في المظهر، أو الخلفية الثقافية والدينية، أو الحالة الاجتماعية، أو ممن لديهم مشاكل صحية أو إعاقات، المتفوقين والموهوبين بشكل استثنائي، أو من يحصلون على اهتمام كبير، المنطوين والخجولين اجتماعيًا الذين هم لا يميلون للتحدث بصوت عالٍ ويعتبرون ضحايا أسهل للتنمر، الوافدين الجدد: مثل الطفل الجديد بالمدرسة أو الفريق , المسالمين ، الكل أصبح في مرمي نيران التنمر .
الآن كبرنا وأصبح المتنمرين الصغار طائفيين وعنصريين ومتطرفين وذكوريين وهوموفوبيك “رهاب المثلية”، وإرهابيين وقتلة وسفاحين في بعض الاحيان، نعانى إرهاب الاختلاف والتنوع، لا نحترم إلا ثقافة القطيع، وأوامر القطيع، خشية أن يتنمر علينا القطيع ويخرجنا من جنته إلى نار الاختلاف والتنوع.
هذه الذكريات تتداعي أمامي بعدما وافق مجلس الوزراء، على مشروع قانون بتعديل بعض أحكام قانون العقوبات، بإضافة مادة جديدة لقانون العقوبات، برقم (309 مكرراً ب)، والتي أوردت تعريفاً للتنمر بقولها: يعد تنمرًا كل استعراض قوة أو سيطرة للجاني، أو استغلال ضعف للمجني عليه، أو لحالة يعتقد الجاني أنها تسئ للمجني عليه، كالجنس أو العرق أو الدين أو الأوصاف البدنية، أو الحالة الصحية أو العقلية أو المستوى الاجتماعي، بقصد تخويفه أو وضعه موضع السخرية، أو الحط من شأنه أو إقصائه عن محيطه الاجتماعي.
ووضعت عقاب للمتنمر بالحبس مدة لا تقل عن 6 أشهر، وبغرامة لا تقل عن 10 آلاف جنيه، ولا تزيد على 30 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
مع تشديد العقوبة إذا توافر أحد ظرفين، أحدهما وقوع الجريمة من شخصين أو أكثر، والآخر إذا كان الفاعل من أصول المجني عليه أو من المتولين تربيته أو ملاحظته أو ممن لهم سلطة عليه
وتشدد العقوبة أيضًا إذا كان مسلماً إليه بمقتضى القانون أو بموجب حكم قضائي أو كان خادماً لدى الجاني، لتكون العقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن 20 ألف جنيه، ولا تزيد على 100 ألف جنيه، أو بإحدى هاتين العقوبتين.
ومضاعفة الحد الأدنى للعقوبة حال اجتماع الظرفين وفي حالة العود تضاعف العقوبة في حديها الأدنى والأقصى.
تلك الخطوة الهامة والضرورية والتي جاءت متأخرة، اتمنى أن يصاحبها إجراءات تنفيذية تتخذها وزارة التربية والتعليم لمواجهة هذه الظاهرة المتكررة، والتي أحيانا تؤدي إلى انتحار الضحية، كما حدث للطالبة إيمان في نوفمبر 2018 ، حيث لقيت مصرعها إثر سقوطها من الطابق الرابع بمبنى للطالبات تابع للمعهد الفني الصحي بالإسكندرية بسبب تعرضها للتنمر من المسؤولين بالمعهد الفني الصحي بمجمع “بشاير الخير” بمنطقة محرم بك، لتلقى مصرعها على الفور، فيما أكد زميلاتها أنها قررت الانتحار بسبب تعرضها للتنمر من بعض المشرفات بالمعهد وسخريتهن منها، وكشفت التحقيقات وأقوال زميلات الطالبة إيمان، البالغة من العمر 22 عاماً ، أنها قررت الانتحار لتعرضها لإهانات مستمرة من بعض المشرفات بالمعهد، وسخريتهن من لون بشرتها، واتهامهن لها بأنها تشبه الذكور، فضلاً عن إساءتهن الدائمة لها، فيما اتهمت أمينة عبدالعزيز، والدة الطالبة، 3 مشرفات بالمعهد بالتسبب في انتحار ابنتها.
والواقعة الأكثر شهرة في دمياط، حيث “تنمر معلم بتلميذة ذات بشرة سوداء ” بإحدى مدارس دمياط وجرى التحقيق في الواقعة وصلت القضية إلى أبواب النيابة الإدارية وجرى التحقيق مع المعلم تبعها النيابة العامة التي فتحت تحقيق معه واستمعت لأقوال التلميذة ووالدتها ووالدها ومدير المدرسة، ثم أصدرت النيابة العامة قرارا بحبس المعلم المتهم 4 أيام على ذمة التحقيق، لتنقلب الأحداث رأسا على عقب ويتضامن جموع المعلمين مع المدرس!
والأسوأ من ذلك أنه سرعان ما أعلنت نقابة المحامين في دمياط تضامنها ومساندتها للمعلم! وحرصها على حضور التحقيقات معه والدفاع عنه مجانا، مبررة ذلك بأنه لم يرتكب جرما يستحق كل ما حدث خاصة وأنه جرى معاقبته إداريًا فضلًا عن نقله لمدرسة أخرى.
تلك الواقعة التي تؤكد أن التجريم فقط غير كافي، فللأسف التنمر له “لوبي” اجتماعي يدافع عنه، ويعمل على إفلات المتنمرين من العقاب واستمرار معاناة الضحايا.