ما إن يشهد العالم العربي حوادث فوضي أو احتجاجات، أو يعرف تعثرا سياسيا، إلا ويردد البعض أن هذا دليل على إننا نعيش في مجتمعات لا تصلح فيها الديمقراطية وأن الحل في النظام أو الرجل القوي أو المخلص، وهي تعبيرات مختلفة تروج في جوهرها ضمنا أو صراحة للاستبداد وعدم إضاعة الوقت في رخاوة الديمقراطية، وعطلة (بفتح العين) الرأي والرأي الآخر، وثرثرة السياسيين.
وقد يكون ما يجري في العراق من مشاهد انقسام وعنف سياسي وسوء أداء سببا لكي بقول البعض لا يمكن حكم العراق إلا بصدام حسين جديد وأننا بلاد لا تصلح فيها الديمقراطية إنما فقط الديكتاتورية، وأن الوضع في عهد الرئيس صدام حسين كان أكثر أمنا وتقدما ورخاء من الوضع الحالي، وهو جزئيا صحيح، لكنه ينسى أو يتناسى، إنه دخل في حرب استمرت 7 سنوات مع إيران، وبمجرد انتهائها بشهور معدودة قرر أن يغزو الكويت ويشطبها من على خريطة العالم وكان هذا القرار سببا في قيام التحالف الدولي الذي قادته أمريكا وشاركت فيه دول عربية وبغطاء شرعي من الأمم المتحدة بالحرب على العراق وتحرير الكويت ثم حصار الأول لما يقرب من 10 سنوات ثم غزوه في 2003 على يد القوات الأمريكية ودون الاستناد إلي الشرعية الدولية.
ومنذ ذلك التاريخ أسقط الاحتلال الأمريكي الدولة العراقية وبني أخرى هشة خضعت لسطوة أحزاب المحاصصة الطائفية وظلت تتحكم في مصير البلاد لما يقرب من 20 عاما حتى وصلت هذه الصيغة إلي نهايتها، وشهدت البلاد انتفاضة عظيمة وملهمة، مع ذلك ونتيجة تعثر الحراك الشعبي في كسر المنظومة الطائفية بعد أن قمع بشدة طوال العامين الماضيين، بجانب حرص إيران على السيطرة على البلاد من خلال دعم الميليشيات الطائفية، أصبح المشهد الحالي مبررا للبعض أن يقول أن ديكتاتورية النظام السابق أفضل من الوضع الحالي.
والحقيقة أن مقارنة “الأفضليات” حتى لو صحيحة لا تقول إن الاستبداد هو الحل أو أن بلادنا لا تصلح فيها الديمقراطية لأن “أصل الداء” في مآسي العراق هو ديكتاتورية النظام السابق وغياب الحد الأدنى من النقاش حول قرارات مصيرية مثل الحروب والغزوات، فالديكتاتورية هي التي جعلت لا أحد قادرا على رفض قرار صدام حسين بغزو واحتلال الكويت, لأنه لا يوجد طالب (وليس بالضرورة باحث) في مجال العلاقات الدولية إلا وسيقول مستحيل سيسمح للعراق باحتلال بلد نفطي ثري في قلب المنظومة العالمية الأمريكية مثل الكويت، وأن نتائج هذه الخطوة ستكون كارثية على العراق بصرف النظر عن أي حجج ومبررات.
نفس هذا الأمر تكرر في ليبيا فالصراع المسلح بين فرقاء الساحة السياسية وضعف الدولة أو غيابها جعل البعض يقول أن الحل في العودة إلي الديكتاتورية والنظام الاستبدادي، وهي مقولة تتناسي أن بقاء القذافي 42 عاما في السلطة ودوره في إضعاف الدولة مسئول عن المشهد الحالي، فقد حول الجيش إلي كتائب وانهي التمييز بين مؤسسات الدولة والنظام السياسي واستهدف بالأفكار الشعوبية (الجماهيرية) مهنية أجهزة الدولة من شرطة وقضاء وجهاز اداري، فكان سقوط نظامه مساوي لسقوط تلقائي لأجهزة الدولة.
هذا الوضع لم يحدث إلا في ليبيا ولم تعرفه مصر وتونس اللتان حدثت فيهما ثورة شعبية أسقطت نظام مبارك وبن على دون ان تسقط الدولة، لان في مصر كان هناك فارق بين نظام الحكم ومؤسسات الدولة التي عرفت حيادا نسبيا أو على الأقل لم تكن مؤسساتها ملحقه بالنظام القائم، كما عرفت تونس تقاليد دولة وطنية راسخة ومؤسسة عسكرية محايدة في الصراع السياسي فكل ذلك جعل سقوط النظام لا يؤدي إلي سقوط تلقائي للدولة.
ومع ذلك فلازال البعض في كلا البلدين ومع أي مشاهد فوضي وأزمة سياسية يردد الجملة السطحية أن مجتمعنا لا تصلح معه إلا الديكتاتورية آخذا ما يجري في العراق وليبيا وما سبق وجري في مصر عقب ثورة يناير وفي تونس طوال السنوات العشرة الماضية حجة لتبرير الاستبداد وغياب الديمقراطية وهو نوع من الإجابات السهلة المبسطة لمشاكل كان يمكن حلها بخيارات سياسية مختلفة، إدارة مختلفة كانت ستؤدي لنتائج مختلفة.
فالمؤكد ان تونس لم تنتقل على يد الرئيس قيس سعيد من الديمقراطية إلى الديكتاتورية، إنما من منظومة نظام سياسي هجين فشل في تحقيق التنمية الاقتصادية والسياسية إلي نظام مأزوم أيضا ولكن لا يمكن وصفه بالنظام الديكتاتوري ولا الديمقراطي، إنما هو نظام يطلق علية “التعددية المقيدة” حيث هناك سماح بالتعدد بين الفاعلين السياسيين والنقابيين وفي القوي المعارضة ويمكن من خلال تنظيمهم المتاح بناء نظام رئاسي ديمقراطي.
فتونس لن تنقذها من أزمتها الديكتاتورية إنما نظام ينقل البلاد من حالة ديمقراطية الثرثرة والدستور شبه البرلماني الهجين الذي دافعت عنه حركة النهضة وحلفائها إلى “ديمقراطية الإنجاز” وهذا لن يحققه إلا النظام الرئاسي الديمقراطي.
أما مصر فالمؤكد أن مشاهد الفوضى والمواجهات المجتمعية ومشروع الإخوان في التمكين الأبدي من السلطة جعل تيارا واسعا من الناس يعتبر أن الديمقراطية الوليدة عقب ثورة يناير هي التي أوصلت البلاد إلي هذه الحالة من الفشل وأن الحل في المستبد العادل للتخلص من كل هذه المشاهد.
ولو كانت البلاد لم تعرف خطاب التطرف الثوري وأجندة الإخوان السرية وقبلت النخب المدنية بتعديل دستور 71 وانتخاب رئيس إصلاحي من النظام القديم وسارت البلاد بشكل متدرج في اتجاه عملية الانتقال الديمقراطي وبناء دولة القانون لما كان الناس تصوروا أن الحل في التخلص من بناء الديمقراطية الوليدة والرهان على النظام القوي غير الديمقراطي.
والمؤكد إنه بعد ما يقرب من عشر سنوات ومع تزايد الأزمة الاقتصادية والسياسية أصبحت هناك قناعة متزايدة في مصر أنه لا يمكن تحقيق أي تقدم اقتصادي أو تنمية حقيقية، دون مشاركة الرأي العام والخبراء والفنيين والنخب السياسية بمعناها الواسع، وإن مصر لازال أمامها فرصة من خلال دستورها الحالي أن تقدم على إصلاحات جراحية حقيقية تبدأ بإعادة تنظيم المجال الاقتصادي والسياسي وإعطاء مساحة حقيقية للقوى المجتمعية المختلفة، المعبران عن المجال الاقتصادي/ التنموي والمجال السياسي/النقابي أو الفئوي، وباتت هذه القناعة تشمل عدم اعتبار خطط التنمية وأولوياتها من الأسرار التي لا يجب مناقشتها وتعديلها.
الترويج للاستبداد في العالم العربي يتعامل مع القشور ويأخذ اللقطة والصورة فيؤثر في بعض البسطاء في حين أن الواقع يقول إنه لا توجد أزمة شرعية في ظل أي نظام عربي إلا وكان أداء النظام الديكتاتوري سببا فيها وحتى حالة الفوضى والصراع الأهلي لم يكن النظام الديكتاتوري القديم إلا أحد أسبابها الرئيسية.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا