رغم سيادة وجهة النظر التي تقول إن مصر ليست مهتمة برأي الخارج فيها وأنها غير معنية البتة بانتقادات هذا الخارج لحالة الديمقراطية فيها، أو بالصورة الذهنية السلبية السائدة عن أوضاع حقوق الإنسان في مصر فإن كل الحقائق- وهذا ليس عيبا- تشهد بالعكس تماما.
وتشير هذه الحقائق إلى أن المحور الرئيسي والشغل الشاغل غير المعلن للسياسة الخارجية المصرية حتى نهاية هذا العام وبداية العام المقبل بما في ذلك جزئيًا استضافتها لمؤتمر المناخ الدولي في نوفمبر القادم هو تحسين صورة مصر في هذا الملف باعتباره ضرورة لابد منها لإحداث انفراجة حاسمة في الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد.
ورغم أن الخطاب الإعلامي الداخلي يتجنب الحديث عن أن الحوار الوطني له علاقة مباشرة بهذا الشغل الشاغل للسياسة المصرية، مؤكدا أنه يتعلق فقط وحصريا بالسعي إلى توافق وطني على مضمون الجمهورية الجديدة، فإن كل الشواهد تقول أن الدعوة للحوار موجهة للخارج كما هي موجهة للداخل بالضبط.
تمر مصر بأزمة اقتصادية حادة متكررة دون أدنى اتعاظ «الرابعة خلال أربعين سنة»، ويرجع السبب الهيكلي والمنشئ لها إلى أنها تنتهج منذ 1974 سياسات اقتصادية غير إنتاجية -تراجع فيها باستمرار نصيب الصناعة والزراعة في الدخل القومي لصالح قطاع الخدمات- مما أدى إلى انخفاض الصادرات وزيادة الواردات وجعل مصر تلجأ باستمرار إلى الاقتراض لسد الفجوة الدولارية خاصة وأن معظم مصادر الدخل المصري الأساسية من العملات الحرة باتت مع ضعف الهيكل الإنتاجي تأتي من مصادر ريعية وهي «تحويلات المصريين في الخارج والسياحة والبترول والغاز وقناة السويس»، وهي مصادر كما هو معلوم تتأرجح صعودا وهبوطا مع كل اهتزاز في الاقتصاد العالمي.
باختصار أصبح اقتصاد مصر منكشفا ومرهونا بطريقة كبيرة وسلبية بالمتغيرات الخارجية التي تحدث في العالم سواء بسبب الحروب أو الأزمات المالية والاقتصادية الدولية، وهو ما يتكرر حدوثه، وتواجهه مصر الآن بعد وباء كورونا ثم بعد اندلاع الحرب الأوكرانية كأسباب كاشفة وليس منشئة.
وفي كل مرة تواجه مصر هذه الأزمات تلجأ لنفس الحلول المسكنة، إلا وهي الاستعانة بالخارج. وهذا الخارج يشمل مسارين أساسيين، المسار الأول: عربي، وبالتحديد عربي خليجي، فمنذ انتهاج أنور السادات سياسة الانفتاح الاقتصادي، فعند حدوث أزمة مماثلة يقوم كل رئيس مصري أما بزيارة دول الخليج أو باستقبال قادتها في مصر بهدف الحصول على دعم مالي لسد الفجوة الدولارية سواء في صورة مساعدات أو ودائع دولارية لدى البنك المركزي، أو في صورة استثمارات في مشروعات عامة تطرحها الدولة للبيع في برنامج للخصخصة مختلف عليه وطنيا.
هذا المسار أقل تعقيدا من حيث أنه لا يربط التقدم لمساعدة مصر في مثل هذه المواقف الصعبة بأحوال الديمقراطية وحقوق الإنسان.
أما المسار الثاني الذي تتوجه إليه مصر لحل أزمتها: هو الغرب المسيطر على المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهذا المسار يتأثر بقوة بالموقف المعلن للإدارة الامريكية “الحزب الديمقراطي” في ربط سياستها الخارجية بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وقد ربطت الإدارة الديمقراطية الحالية نفسها بهذا الموقف بطريقة صريحة سواء نكاية في سلوك الإدارة الترامبية السابقة التي وضعت هذا الموضوع خلف ظهرها، أو إرضاء للجناح اليساري في الحزب الديمقراطي الذي يضغط بقوة لاتباع نهج مبدئي في السياسة الخارجية الأمريكية.
في وضع كهذا فإن حصول مصر على موافقة صندوق النقد الدولي علي منحها قرضا كبيرا مرهون بضوء أخضر من إدارة بايدن.
هذه الإدارة الأمريكية الحالية الضعيفة داخليا والتي تعرف قيمة مصر كحليف استراتيجي لا يمكن تركه يواجه خطر الإفلاس تحتاج من القاهرة إلى «مساعدة» سياسية ومعنوية لكي تستطيع أن تمنح هذا الضوء للصندوق، ودون أن تضطر للدخول في معركة شرسة أقوى منها وقد تخسرها مع الصحافة الأمريكية والكونجرس بمجلسيه “النواب والشيوخ” ومنظمات حقوقية أغلبها لديه موقف سلبي للغاية من الوضع السياسي والحقوقي المصري الراهن.
هذه المساعدة التي تحتاجها واشنطن من القاهرة تمثلت في صورة الدعوة المصرية للحوار الوطني وعمليات الإفراج المحدودة عن بعض سجناء الرأي .
الإدراك السياسي لصانع القرار المصري لعلاقة دعوة الحوار وبدء أعمال مجلس أمنائه بتطوير صورة إيجابية لدى الخارج عن الوضع الداخلي بدت واضحة في إجابة الرئيس عبد الفتاح السيسي في أثناء زيارته الأخيرة لألمانيا على أسئلة الصحفيين الغربيين الناقدة لحالة حقوق الإنسان، إذ أشار إلى الحوار وجلساته كمؤشر عن انفتاح سياسي في مصر ودليل نفي للانتقادات الغربية المتكررة والتي تقول إن مصر تعاني ديمقراطيا، ودعا الصحفيين والمهتمين بهذا الملف لزيارة مصر ومتابعة الحوار بدلا من الحكم على التجربة من الخارج .
وفي برلين تلى هذا الاستشهاد بالحوار الوطني دعوة صريحة من الرئيس إلى الدول الغربية بمساندة مصر في مفاوضاتها مع المؤسسات المالية الدولية للحصول على القروض التي تعتبرها القاهرة مسألة مصيرية في مواجهة الأزمة الاقتصادية .
بعبارة أخرى تعرف القاهرة أن تدشين الحوار الوطني وإشاعة مناخ عام أقل انغلاقا هو شرط سياسي لا يقل أهمية عن الحصول على القروض الدولية ضمن صيغة تتضمن كذلك شروطا اقتصادية عليها أن تستجيب لها أيضا مثل خفض قيمة الجنيه وبيع الأصول العامة وتعزيز دور القطاع الخاص وطرح مؤسسات عامة رابحة بعضها تابع للقوات المسلحة في البورصة المصرية للقطاع الخاص .
وهذه الشروط الاقتصادية الخارجية للصندوق في حال تطبيقها ستؤدي إلى زيادات حكومية وغير حكومية هائلة في الأسعار وارتفاع في معدلات البطالة واتساع نطاق الفقر، ومن ثم فإن السخط الشعبي سوف يتزايد ويهدد بعواقب وخيمة على الاستقرار السياسي.
وهنا تحتاج الحكومة الحوار مرة أخرى كمظلة سياسية، إذ تأمل الحكومة أن ينجح الحوار الوطني في تخفيف الاحتقان السياسي مع المعارضة وعدم الجمع بينه وبين الاحتقان الاقتصادي، إذ أن اجتماعهما معا سيكون وصفة مؤكدة لاحتجاجات اجتماعية.
هذه الأهداف المتوخاة للحوار من قبل الحكومة المصرية ليست سهلة التحقيق وتواجهها تحديات صعبة تتمثل في:
- لإحداث انفراجة مقنعة في المجال السياسي كفيلة بتغيير الصورة الذهنية الغربية عن مصر، كانت مصر بحاجة إلى خطوات أسرع وأكثر جرأة في تحسين المناخ العام، ولكن الجهات التي تحاول أن تبطئ حركة الإرادة السياسية والتي تضع الأمن فوق السياسة وتتغافل عن أن حصول مصر على الدعم الخارجي في إطار السياسة الاقتصادية الراهنة مسألة تكاد تكون وجودية، قامت بحجز قوة الدفع الكبيرة التي حظيت بها دعوة الحوار في البداية بإبطإئها لعملية الإفراج عن السجناء إلى حالة تشبه أسلوب «الري بالتنقيط». واستمرت في حجب بعض المواقع الصحفية وقامت أيضا بإبطاء انفتاح الإعلام وإبداء قدر واضح من الضيق ببعض الآراء المخالفة التي بدأ البعض في طرحها، لدرجة أن المؤتمر الصحفي الذي كان مجلس أمناء الحوار يعقده بعد كل جلسة تم الغاؤه وتم الاكتفاء بإصدار بيان صحفي لا يشفي غليل الرأي العام .
- من ناحيتها أضعفت الحكومة وجود -الحاضنة الشعبية- للحوار وزرعت حالة من محدودية الثقة فيه، وذلك بسبب قيامها باستباق تفاعلات الحكم والمعارضة المفترضة فيه في صورة تسرع مقلق ورفعت أسعار الوقود إنفاذا لشروط الصندوق ، وسيتبع ذلك دورة جهنمية لغلاء الأسعار لتشمل جميع السلع والخدمات في ظل سوق احتكاري منفلت الأسعار لا علاقة له بقوانين العرض والطلب الحقيقية، إذ يسيطر عليه رجال أعمال وتجار جشعون أمنوا العقاب.
ويبدو أن قطاعا لا يستهان به من الشعب لم يعد متفائلا بالحوار، ويرى أنه إذا كان هذا هو الحوار وهذه هي مخرجاته فإنه وكما يقول المثل السائر «الله الغني».
- تمت الإشارة، إلى أن الشروط المطلوبة من الصندوق بالغة القسوة وليس من المتوقع أن تغير واشنطن وباقي العواصم الغربية من سلوك الخذلان الذي ذاق مرارته السادات 1976 ومبارك 1986 في رفض التعاطف مع مطالب مصر باستثنائها من بعض الشروط التي قد تثير ضيق قسما واسعا من الرأي العام المصري ويؤدي ما يجري من تطبيقها إلى زيادة منسوب السخط الاجتماعي وزيادة فرص تهديد الاستقرار السياسي باحتجاجات اجتماعية من هوامش المدن والحواضر.
- الأخطر من ذلك كله أنه -حسب بعض التقارير الدولية- وبفرض أن كل التدفقات الدولارية المستهدفة سيتم الحصول عليها، فإن مصر التي تحتاج إلى نحو 60 مليار دولار هذا العام المالي لن تكون قادرة على سد الفجوة بين احتياجات مصر من العملات الحرة ومواردها منها، وسيظل هناك ثقب أسود كبير تقدره بعض التقارير الدولية بـ 22 مليار دولار، أي أن هناك احتمالا أن تخاطر مصر بالاستجابة لشروط الصندوق بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر على استقرارها السياسي ومواجهة اضطرابات اجتماعية وفي الوقت نفسه تتعثر لا قدر الله في سداد أقساط وفوائد الديون.
هذه التوقعات المقلقة للغاية لعلها تدفع الحكومة أن تستعين بالحوار الوطني، أي تستعين بـ«الداخل على الخارج»، وتجرب مبادرات أكثر شجاعة في السياسة مثل الإفراج الشامل عن سجناء الرأي وفتح المجال للإعلام. وأن تجرب سياسات أكثر شجاعة في الاقتصاد مثل تقليل الواردات بصورة جوهرية وتعبئة الموارد الذاتية «استرداد متأخرات ضريبية وتهرب ضريبي متراكمة سنة بعد أخرى وتقدر بحوالي 70 مليار جنيه معظمها لدى كبار الممولين»، وتطبيق مادة الضرائب التصاعدية المنصوص عليها في الدستور والتي لا يعارضها الصندوق، بالإضافة إلى إعطاء الأولوية للصناعة والزراعة، وتأجيل المشروعات في المرافق العامة التي لا تدر عائدا يساوي أعباء و فوائد القروض الباهظة.
للاطلاع على مقالات أخرى للكاتب.. اضغط هنا