داخل محله العتيق لتجارة الأقمشة بحي الأزهر جلس محمد أحمد على مكتبه يراجع بعض الحسابات والأوراق قبل أن تظهر علامات الضيق على وجهه.
يقول لـ”مصر 360″ إن الأزمة الاقتصادية الحالية أثرت على مداخيله بشكل كبير. فمع تراجع حركة البيع والشراء وارتفاع تكلفة أسعار منتجاته بات يواجه صعوبة في شراء منتجات جديدة. “لولا العُمال اللي بياكلوا عيش واللي ملهمش ذنب في اللي بيحصل كان الواحد فكر يقفلها. بس أهو الرزق اللي بييجي على حس العُمال بيخلينا نمشي الدنيا” -يقول محمد.
والأزمة التي يواجهها تاجر الأقمشة يبدو أن أشخاصا آخرين غير قادرين على مواجهتها. فإبراهيم السيد الذي يملك “سوبر ماركت” في حي بولاق الشعبي يقول لـ”مصر 360″ إنه سيغلقه مع نهاية الشهر المقبل. وذلك نظرا لعدم قدرته على سداد التكاليف وشراء المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها بين 20% و30% بعد زيادة أسعار السولار. بحسب يحيي كاسب -الرئيس السابق لشعبة المواد الغذائية والبقالة بالغرفة التجارية بالجيزة.
لم تكن قصتا محمد وإبراهيم هي القصص الوحيدة لفئة من أصحاب الأعمال الحرة ممن ينتمون إلى الطبقة المتوسطة. فقصص أصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة الذين يغلقون أبوابهم مع ما يتبع ذلك من تسريح للعمال تطالعنا كثيرا هذه الأيام. نتيجة عدم القدرة على استيراد مدخلات الإنتاج وارتفاع أسعارها بالأساس مع تقييد حكومي لفتح “الاعتمادات المستندية” اللازمة للاستيراد خوفا من نقص الدولار.
والتآكل الذي أصاب الطبقة الوسطى في مصر لم يكن وليد الأزمة الراهنة. بل كان تآكلا مستمرا خلال السنوات الأخيرة وتحديدا منذ تطبيق برنامج “الإصلاح الاقتصادي”. الذي خفض الدعم عن الكثير من المواد الغذائية والطاقة وفرض ضرائب قيمة مضافة وقلل نسبة الإنفاق الاجتماعي. مما رفع نسبة الفقر لتصل إلى 1 تقريبا من كل 3 مصريين. وليصرح البنك الدولي بأن نصف المصريين إما فقراء أو معرضون للفقر.
اقرأ أيضا – كيف تُدخلنا “اللا مساواة” في دائرة لا متناهية من الأزمات؟
نحو اختفاء الطبقة الوسطى
تشير هذه التغيرات الاقتصادية إلى رسم طبقي جديد. فيه تهبط فئات واسعة عدة درجات من سلم الامتياز الطبقي والاجتماعي تحت ضغط الأزمات. بينما تصعد فئات أخرى لتشكل “طبقة حكم” جديدة في إطار شبكات المصالح الضيقة والمنتقاة بعناية والمصممة كوسيلة فرز سياسي.
السلطات والطبقات الاجتماعية
ففي مصر خلقت كل سلطة طبقاتها الاجتماعية. صعدت الطبقة الوسطى وتوسعت في عهد جمال عبد الناصر عبر سياسات الإصلاح الزراعي والصناعات الوطنية وخلق طبقة البيروقراطيين الحكوميين. ونذور تآكلها هلت مع عهد أنور السادات الذي أسهم في خلق طبقة جديدة من “رجال التوكيلات الأجنبية” إبان سياسة “الانفتاح الاقتصادي”. وهم الذين تم انتقاؤهم وفق تماهيهم مع توجهات الدولة الجديدة في أعقاب اتفاق السلام.
ثم في عهد حسني مبارك بدأت فعليا سياسات الإفقار الاجتماعي عبر سلسلة واسعة من التوجهات الاقتصادية النيوليبرالية. التي سعت للقضاء على القطاع العام تماما لصالح “خصخصة” يتزعمها نخبة من رجال الأعمال المسيسين فيما عُرف بـ”رأسمالية المحاسيب”. ومعها ظهرت تنبؤات اختفاء الطبقة الوسطى التي أصبحت واقعا الآن.
يذكر تقرير لموقع “إندبندت عربية” أنه بحسبة بسيطة فإن أسرة مصرية من الطبقة الوسطى لديها طفلان تحتاج إلى شقة سكنية في منطقة معقولة لن يقل سعرها عن مليون ونصف المليون أو مليوني جنيه مصري. (بين 55 ألفا و82 ألف دولار أمريكي). وسيارة واحدة على الأقل لن تقل عن 300 ألف جنيه (نحو 16 ألف دولار أمريكي). وفاتورة غذاء وكساء وعلاج لا تقل عن خمسة آلاف جنيه شهريا (نحو 273 دولارا أمريكيا).
ناهيك بسداد مصروفات مدرسة خاصة لن تقل عن 50 ألف جنيه سنويا للطفل الواحد (نحو 2700 دولار أمريكي). إضافة إلى فواتير الكهرباء والماء والغاز والوقود والمواصلات والترفيه والرياضة. التي لن تقل عن خمسة آلاف جنيه (نحو 273 دولارا أمريكيا). “ما يعني أن دخل الأسرة الوسطى على الورق لا يصنع أسرة متوسطة في الواقع”.
حجم الطبقة الوسطى في مصر
يوضح مدير مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية -محمد فايز فرحات- في مقال عنوانه “هل تراجع حجم الطبقة الوسطى في مصر؟” (2021) أن قياس حجم وحالة الطبقة الوسطى لا يمكن اختزاله في متغير الدخل. إذ لا بد من الأخذ في الاعتبار مجموعة مركبة من المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للوقوف على تقدير حقيقي لحجم هذه الطبقة. وهو ما يجعل الوصول إلى هذا التقدير مسألة شديدة الصعوبة والتعقيد.
ويشير “فرحات” إلى أهمية وضع حجم طموحات شرائح هذه الطبقة في الحسبان. وهو ما يزيد من احتمالات شعورها بالإحباط وعدم الرضا. فالكلفة المادية للطموحات والتوقعات مثل تعليم الأبناء والرعاية الصحية والضمان الاجتماعي والترفيه تكون عادة أعلى من حجم دخل الأسرة. وهو ما يزيد شعورها بتدهور أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية.
اقرأ أيضا – زيادة أسعار المترو والقطارات: سياقات الخصخصة وأعباء القروض
خلق طبقات جديدة
في كتابه “الدولة المركزية في مصر” يسجل الباحث والمفكر المصري الراحل نزيه الأيوبي ملاحظة تستحق الوقوف لديها مليًا. ألا وهي أن الدولة المصرية من منظور الاقتصاد السياسي هي معكوس الدولة في أوروبا تقريبا. ذلك لأن الدولة تاريخيًا في مصر كانت تقوم عادة بـ”خلق طبقتها”. بينما قامت الطبقة على العكس في أوروبا والغرب بصياغة الدولة وفق متطلباتها ومصالحها.
وهنا تظهر العلاقة بين الطبقة والدولة في مصر. فالدولة المصرية تسعى في فترات معينة لخلق طبقتها الاجتماعية الخاصة. ثم تتحول هذه الطبقة إلى أشكال طبقية أخرى بعد انهيار النظام الذي أقامها. وهكذا دواليك في تكرار لحركة البندول المشار إليها -بحسب ما ينقل تقرير لموقع “إضاءات“.
وعادة صنعت الأنظمة المختلفة عملية هندسة طبقية كي تعطي لسياساتها الجديدة سندا اجتماعيا قادرا على التأثير وسط الساحة السياسية. ومنذ عام 2014 تسببت السياسات الاقتصادية والمالية التي تم انتهاجها في تفاقم الفقر ونقل الثروات من الطبقتَين الدنيا والوسطى إلى تلك النخب الجديدة.
وإلى جانب الطبيعة السلطوية للنظام فإن الدعم الدولي الذي يحصل عليه في شكل تدفقات مالية وقروض أسهمت في تعزيز جهوده الآيلة إلى إثراء طبقة النخبة في الأعمال والمؤسسات العسكرية على حساب المواطنين -بحسب ما يقول المحلل السياسي ماجد مندور.
دولة القروض وإثراء الأثرياء
يشير “مندور” في تحليله على “مركز كارنيجي الشرق الأوسط” إلى أن الحكومة تعتمد بشدّة على القروض. بدلاً من الضرائب لتمويل عملياتها والمشاريع الضخمة في البنى التحتية. أما الإيرادات الضريبية فتُستخدَم على نحوٍ غير متكافئ في تسديد القروض والفوائد. “ما يُفضي إلى نقل الثروات من الطبقتَين الدنيا والوسطى إلى الجهات الدائنة للنظام الخارجية والداخلية على السواء”.
هذا بينما تواصل الحكومة خفض الدعم والإنفاق الاجتماعي. ويستمر العمل بالضريبة التنازلية التي تلقي بالعبء الضريبي على كاهل الطبقتَين الوسطى والدنيا. وفي الوقت نفسه تستمر الحكومة في العمل على تنفيذ مشاريع ضخمة في البنى التحتية بقيادة الجيش. “ما يُشكّل أداةً للاستحواذ على الأموال العامة. لا أداةً لتطبيق برامج الإنفاق الاجتماعي والحد من الفقر”.
كان من نتاج ذلك أن الجهات التي تملك أموالا كافية لإقراض الحكومة -أي مالكي الدين الداخلي- تُحقّق منافع مباشرة من هذه العملية. كما أتاحت هذه السياسة إعفاء الأعمال والشركات -لا سيما تلك الخاضعة لسيطرة الجيش- من الضريبة أو الاكتفاء بفرض ضرائب منخفضة عليها. فضلاً عن إفادة الأثرياء من ضرائب منخفضة على مداخيلهم الشخصية. وهكذا فإن الاعتماد على المديونية يُمكّن النظام من حرمان المواطنين من إحدى الإيجابيات الأساسية للضرائب. وهي إعادة توزيع الثروات المملوكة من الأكثر ثراء.
من هي “الطبقات الجديدة”؟
يلفت عمرو عادلي -الباحث في الاقتصادي السياسي وعلم الاجتماع الاقتصادي- إلى ظهور شبكة جديدة من رجال الأعمال بعد تجاهل القديمة التي كانت في عهد مبارك. ويقول إن النظام (منذ عام 2014) لم يحبّذ عودة أصحاب الشركات الخاصة الكُبرى إلى الاضطلاع بدور سياسي مباشر كالذي كانوا يمارسونه خلال العقد الأخير من حكم مبارك.
فالنظام الجديد عازمٌ على الحؤول دون إعادة تشكيل علاقات المحاباة والمحسوبية القديمة مع رجال الأعمال النافذين -بحسب عادلي- بيد أن هذا لا يعني أن ممارسات المحسوبية باتت اليوم أقل. فقد تم بناء شبكات جديدة مع رجال أعمال يعوِّل عليهم أكثر ويعتبرهم جديرين بالثقة. وتربطهم على وجه الخصوص علاقات وثيقة بالجيش.
وتعتبر شانا مارشال -مديرة مساعدة لمعهد دراسات الشرق الأوسط في كلية إليوت للشئون الدولية- أن ضباط المؤسسة العسكرية هم الطبقة الحاكمة الناشئة. وتُعتبر التعيينات في مجالس إدارة الشركات والمناصب الإدارية في الشركات الكبرى والتكليف بمهام استشارية للجهات العامة والشركات الخاصة والتواصل مع الشركات الدولية في المشاريع الكبرى من مزايا الطبقة الحاكمة وتشكل أساس نفوذها.
الطبقات الحاكمة
“(هي) طبقة حاكمة نموذجية. حيث تشكّل السيطرة على رأس المال -بما في ذلك الوصول إلى أموال الدولة وعمالة المجندين والأصول الأساسية والأراضي والاستثمار الأجنبي والمساعدات العسكرية الرسمية-الأساس للتراكم المستمر. وفيما تعتمد الطبقات الحاكمة في الدول الأخرى غالبًا على النفاذ إلى الأسواق الخارجية أو خلق فرص جديدة لتراكم رأس المال. إلا أن المصدر الأساسي لإثراء الطبقة الحاكمة في مصر هي الدولة المصرية” -وفق مارشال.
وترى الباحثة في شئون الشرق الأوسط أن “شبكات الامتياز التكافلية هذه سمة أساسية من سمات الطبقة الحاكمة التي استغلت الإنفاق العالي على الدفاع والمليارات من المساعدات العسكرية الأجنبية ومجموعة الامتيازات المؤسساتية التي تمنحها لها الدولة”.
يقودنا الباحث في العلاقات المدنية العسكرية -يزيد صايغ- إلى خريطة موضحة لأهم المناصب والمراكز التي تحتلها “الطبقة الجديدة”. فالركيزة الأساسية لهذه الشبكات التي تعيد إنتاج نفسها تتألف من مئات ضباط القوات المسلحة المتقاعدين الذين يتبوّؤون مناصب رؤساء أو أعضاء مجالس إدارة ومدراء عموم في هيئات الدولة التي تدير الأصول الاقتصادية وفي الشركات العاملة في قطاع الأعمال العام. حيث يتولّون مهام الإنتاج والتجارة والخدمات أو منح العقود في هذه المجالات. ويسيطرون على جزء كبير من الإطار السياساتي والتنظيمي الذي يسيّر عمل القطاعَين العام والخاص.
خريطة وشبكات المناصب
تتّخذ سيطرة المتقاعدين العسكريين في قطاعات مثل الإسكان والمواصلات شكل إقطاعيات يعملون على الحفاظ عليها وتجديدها باستمرار. علاوةً على ذلك يتناوب بعض كبار الضباط على مناصب بيروقراطية مختارة. ولا سيما في المؤسسات القطاعية المحورية مثل الهيئة العامة للتنمية الصناعية.
وكشف مسح أجراه الباحث أن متقاعدي القوات المسلحة كانوا يتولّون في عام 2018 مناصب الرئاسة أو نيابة الرئاسة أو العضوية في مجالس إدارة 56% من أصل 72 هيئة اقتصادية عامة مسئولة عن الأصول الاقتصادية وقرارات الاستثمار والتطوير والتنفيذ في القطاعات الاقتصادية الأكثر أهمية. ومنها قناة السويس والنفط والتوريد والتجارة والتأمين الاجتماعي والصحي والمرافق العامة.
واستحوذوا أيضًا على نسبة مشابهة من المناصب في ما يُسمّى بالهيئات الوطنية المكلّفة بالإشراف على الاتصالات وسكك الحديد والتأمين والمعاشات التقاعدية والخدمات البريدية. وتولّوا مناصب في المجالس والمراكز الوطنية التي تُعنى بالتخطيط أو إعداد السياسات العامة في مجال استخدام الأراضي. وفي الطاقة (بما فيها الطاقة النووية). وفي الإشراف والتنظيم والتدقيق المحاسبي وفي الإحصاءات.
وتولّى المتقاعدون أيضًا رئاسة مجالس الإدارة -أو شغلوا مقاعد العضوية فيها- في 128 من أصل 374 شركة تابعة للقطاع العام (35%) خلال العام نفسه. ويتجلّى ذلك بصورة خاصة في البنى التحتية للنقل (البري والبحري والجوي) والخدمات المتصلة بها، وفي الإسكان والمجتمعات العمرانية واستصلاح الأراضي، والمياه والصرف الصحي، والتعدين والمحاجر، والبترول، والسياحة، والاتصالات، والإعلام، والأوقاف الدينية (التي تملك مساحات عقارية شاسعة في مواقع مرغوبة).
معاقل المتقاعدين من العسكريين
وهكذا -بحسب صايغ- يفرض متقاعدو سلاح الجو سيطرتهم على شركات الطيران. وعلى أغلبية فروعها والمطارات الإقليمية وشركات الخدمات المتصلة بها. ويُحكم متقاعدو سلاح البحرية سيطرتهم على هيئة قناة السويس والأجهزة والشركات التابعة لها. وشركات الشحن والتخليص البحرية، وعلى معظم هيئات المواني المصرية البالغ عددها 43.
فيما يتركّز متقاعدو القوات البرية والهيئات المتخصّصة. على غرار الهيئة الهندسية للقوات المسلحة وإدارة المياه. في الهيئات والشركات العامة المرتبطة بالمؤسسة العسكرية في مجالات النقل البري والبنية التحتية والإسكان والمياه والصرف الصحي والبناء والمقاولات.
وينتقل متقاعدو سلاح الإشارة إلى العمل في مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات (كما يشغل رئيس السلاح مقعدًا في مجلس إدارة الشركة المصرية للاتصالات). ونظراؤهم من إدارة النوادي والفنادق وإدارة الشئون المعنوية التابعتَين للقوات المسلحة إلى العمل في المرافق السياحية المملوكة للقطاع العام وفي الهيئة الوطنية للإعلام (ماسبيرو) وغيرها من الشركات الإعلامية.
ويمثّل الحكم المحلّي أحد أهم المعاقل. وهو يتفرّع إلى مجالس مُنتخبة لا تتمتع بأي دور أو صلاحية تنفيذية (بما في ذلك وضع الميزانيات أو إنفاقها). وإلى هيكلية تنفيذية تمسك زمام السلطة الحقيقية وتضمّ في جميع مستوياتها آلاف العسكريين المتقاعدين الذين يتمّ تعيينهم بالكامل.
فبدءًا من أعلى الهرم التنفيذي يعيّن رئيس الجمهورية المحافظين الذين يرأسون محافظات مصر الـ27 ويتبعون له. وتنقسم المحافظات بدورها إلى 166 “مركزا” (أو مجموعة مدن) و200 منطقة حضرية. فضلا عن المئات من الأحياء المدينية وما لا يقل عن 920 مجلسًا قرويًا. “إذًا يُعتبر الحكم المحلّي بالدرجة الأولى وسيلةً لتأكيد السيطرة الرئاسية والأمنية” بتعبير صايغ.