اتجه النظام العالمي المؤسس ما بعد الحرب العالمية الثانية، إلى اعتماد الديمقراطية النيابية كوسيلة للحكم في العالم كله، باعتبارها طريقا للاستقرار والتنمية، وبعد محاولات لتعميم الديمقراطية في العالم انتبه النظام العالمي إلى أن “حرية الصحافة” ضمانة لا غنى عنها للتمثيل الديمقراطي، كما أنها خطوة ضرورية من خطوات عملية التحول الديمقراطي للشعوب الراغبة في الانتقال من الحكم الشمولي إلى الديمقراطية.
ويشار إلى مصطلح “حرية الصحافة” بأن الصحافة يجب أن تكون مستقلة وألا يجري عليها أي نوع من أنواع الضغوط أو الرقابة من جانب أجهزة الدولة المختلفة، وألا تكون لمؤسسات الدولة وصاية من أي شكل على المحتوى الصحفي سواء كانت تلك المؤسسات معينة أو حتى منتخبة بشكل ديمقراطي، فالصحافة مستقلة عن جميع أنواع السلطة.
ولضمان تحقيق حرية الصحافة يجب أن تضمن الدول والحكومات عبر تشريعاتها الدستورية والقانونية، الحق في تأسيس الصحف لضمان التعددية وتقييد الاحتكار لوسائل الإعلام، كما تضمن الدولة حماية الصحفيين من المخاطر الناتجة عن عملهم الصحفي وتضمن حرية تداول المعلومات لتسهيل حصولهم على البيانات اللازمة لعملهم الصحفي.
تحقيق استقلال فعلي للصحافة ووجود تعددية للمصادر الصحفية، هو الضمانة الحقيقية لحق المواطن في الحصول على معلومات يبني عليها قراراته السياسية والاقتصادية، وتحمي تلك القرارات من تلاعبات الساسة، لذلك فإن تحقيق “حرية الصحافة” ليست خطوة واحدة ولكنها مسار طويل من الخطوات التي تتخذها الدول والمجتمعات وأليات يتم تطويرها، وعملية تطوير مستمرة تبنى على تجارب الصحفيين والشعوب في ممارسة هذا الحق.
لذلك يجب أن تتمسك المؤسسات الصحفية باستقلاليتها مع الاستمرار في المطالبة بمزيد من الحرية في مواجهة الحكومات والمؤسسات التي تحاول أن تمارس قيودها، سواء التي تستمد قوتها من عملها مثل المؤسسات الأمنية أو المؤسسات الدينية وحتى المؤسسات الديمقراطية المنتخبة، فحرية الصحافة يجب أن تنتزع من سلطة الدولة والمجتمع معا.
وإذا كانت حرية الصحافة تعني استقلاليتها عن جميع المؤسسات ذات السلطة في الدولة، فان من حق تلك المؤسسات بالطبع أن تكون لها منصات إعلامية وصحفية خاصة بها، حتى وإن كانت منحازة -وهي بالطبع سوف تكون منحازة- لصالح المؤسسات المالكة لها.
حيث يعتبر العالم الصحافة “منفعة عامة” لخدمة المواطنين، وباعتبارها منفعة عامة فمن الطبيعي أن تمارس الدولة دورا في المؤسسات الصحفية إلى جانب المجتمع المدني، فوجود منصات صحفية تابعة للدولة لا يمكن أن يسبب خللا بمفهوم “حرية الصحافة” ولكن يشترط لتحقيق ذلك وجود مناخ ديمقراطي يسمح لتلك المنصات الإعلامية المملوكة للحكومات بألا تتحول إلى منصات بث موجهة، وأن تظل على حالها كمنفعة عامة للمواطنين تقدمها الدولة.
وتختلف أهمية امتلاك المؤسسات ذات السلطة لمنصات صحفية في الدول باختلاف شكل نظام الحكم فيها، فإذا اعتبرنا “حرية الصحافة” ضرورة في الأنظمة الديمقراطية كما أسلفنا، فإن وجود نظام ديمقراطي للحكم هو الوحيد القادر على تحقيق الحرية والاستقلالية المطلوبة، وإلا فإن إعلام الدولة سوف يمارس سلطة داخلية على المنصات الإعلامية الأخرى، سواء بشكل مباشر عبر استغلال أدوات السلطة للحصول على المعلومات ومنع المنافسين منها، أو عبر استخدام موارد الدولة لنشر معلومات مضللة بهدف التعبئة وليس نشر الوعي.
كنت أتمنى أن تكون هناك أولوية لملف حرية الصحافة والإعلام على مائدة الحوار الوطني، فقد عانت الصحافة خلال السنوات الماضية من متاعب لا تحصى، كان أبرزها حبس عدد كبير من الصحفيين بتهم تخص عملهم، وحجب عدد كبير من المواقع التابعة لمنصات إعلامية، بالإضافة إلى امتلاك مؤسسات تابعة للدولة لأغلب وسائل الإعلام العاملة، واستخدامها بغرض “التعبئة” وليس “الإعلام”.
ربما تتم مناقشة ملف الصحافة ضمن مناقشات لجنة “الحقوق والحريات العامة” التابعة للمحور السياسي بالحوار الوطني، ولكن الملف يحتاج إلى إرادة حقيقية من النظام في فتح مساحات للإعلام المستقل والتوقف عن مطاردة الصحفيين المستقلين، كما يستلزم الأمر مناقشة تعديل قانون الإعلام والصحافة الصادر عام 2018، وإلغاء القيود التي فرضها القانون لتأسيس صحيفة، وأهمها القيود المالية غير المبررة، فقد بررها القانون بأنها ضمان لسداد حقوق الصحفيين في حالة توقف الصحيفة، وهو مبدأ غريب لو أخذنا به لألزمنا كل مؤسسة أو شركة يتم إنشاؤها بضمانة مالية مماثلة، كما يجب تخفيف الصلاحيات الواسعة التي أعطاها القانون للمجلس الأعلى للصحافة والإعلام، وهو ما تسبب في تدخلات غير مقبولة من جانب المجلس في منع برامج وإعلاميين بلا داع.
كما أتمنى أن تتم مناقشة مقترحات لمشروع قانون “حرية تداول المعلومات”، وهو أحد الاستحقاقات الدستورية التي لم يتم تفعيلها رغم مرور ثماني سنوات منذ إقرار دستور 2014، فلن يكون هناك إعلام بلا مصادر أو معلومات، ولن تستطيع الصحف المستقلة منافسة المملوكة للدولة، طالما تحتكر الأخيرة سبل الوصول إلى المعلومات والنفاذ إلى المصادر الرسمية.
ننتظر الكثير من جلسات “الحوار الوطني” وتحديدا لجنة “الحقوق والحريات العامة”، ونحلم بأن تسفر المناقشات عن مخرجات تحقق ما نطالب به منذ سنوات ودفعنا في سبيل ذلك الكثير، فإذا جاءت المخرجات على قدر ما يحتاجه الوضع السياسي والحقوقي من إصلاحات، فأنا واثق أن جانبا كبيرا من تلك المخرجات سوف يجد طريقه إلى التحقيق.