وصل الدولار الأمريكي لأول مرة منذ 20 عامًا إلى التعادل مع اليورو. حيث زاد بداية العام بنسبة 11%. ما يعني، انخفاض عدد هائل من العملات الرئيسية مقابل الدولار، وهو ما كانت له تداعيات كبيرة على الدول النامية، حاول أستاذ الاقتصاد البرازيلي مارسيلو إستيفاو استعراضها في تقرير نُشر على مدونة البنك الدولي.
لماذا يرتفع سعر الدولار؟
يرتفع الدولار في المقام الأول بسبب وجود طلب قوي عليه كعملة.
تشير التوقعات الاقتصادية عالميًا، إلى تباطؤ اقتصادي كبير. وذلك بناءً على المخاطر الجيوسياسية الهائلة والتقلبات التي صاحبت الأسواق بعد الحرب على أوكرانيا. علاوة على ذلك، يدفع التضخم التاريخي، مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع أسعار الفائدة بقوة.
يقول إستيفاو -الذي شغل منصب نائب وزير الشؤون الدولية السابق بوزارة المالية في البرازيل- إن كل هذه العوامل تجعل المستثمرين يهربون من مراكزهم في أوروبا والأسواق الناشئة وأماكن أخرى ويبحثون عن ملاذ آمن في الأصول بالولايات المتحدة، والتي تتطلب دولارات لشرائها.
ولا يزال السوق يتوقع زيادات سريعة في معدل الاحتياطي الفيدرالي. ففي حالات مماثلة من الزيادات السريعة في المعدلات في الماضي، واجهت الدول النامية أزمات كبرى. حدث ذلك في ثمانينيات القرن الماضي في أمريكا اللاتينية، مع أزمة “العقد المفقود”، عندما وصلت دول أمريكا اللاتينية إلى نقطة تجاوزت فيها ديونها الخارجية قدرتها على الكسب، فلم تكن قادرة على سدادها.
وفي التسعينيات واجهت المكسيك أزمة “تيكيلا”، عندما تم تخفيض قيمة البيزو المكسيكي. ما أدى إلى أزمة عملة عالمية واستلزم إنقاذا لاقتصاد البلاد المتعثر بقرض من صندوق النقد الدولي بلغت قيمته 50 مليار دولار. وهي أزمة امتدت إلى روسيا وشرق آسيا.
كيف يضر ارتفاع الدولار بالدول الفقيرة؟
وفق إستيفاو أستاذ الاقتصاد، فإنه رغم كون فضاء الديون السيادية مضطرب بالفعل، إلا أن هناك توقعا بمزيد من الضغط، لا تستطيع معه العديد من البلدان -خاصة الأفقر- الاقتراض بعملتها الحكومية الرسمية. إذ لا يرغب المقرضون في تحمل مخاطر السداد بعملات المقترضين غير المستقرة أمام الدولار.
هذه الدول تقترض عادةً بالدولار، وتتعهد بسداد ديونها بالدولار -بغض النظر عن سعر الصرف-. وبالتالي، عندما يصبح الدولار أقوى مقارنة بعملاتها، تصبح المدفوعات أكثر تكلفة من حيث العملة المحلية.
لحل هذه المعضلة يعرض “إستيفاو” تجربة البرازيل. يقول إنها استفادت في الشهور الأخيرة من حيازات البنك المركزي الكبيرة بالدولار. بينما تمكن القطاع الخاص داخلها من حماية نفسه جيدًا ضد تقلبات العملة، عن طريق صادرات السلع الأساسية.
مخاوف النمو
مع قيام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي برفع أسعار الفائدة، يتعين على البنوك المركزية في العالم أن تتعامل بالمثل، لتظل قادرة على المنافسة والدفاع عن عملتها. بعبارة أخرى، يجب إعطاء المستثمرين سببًا للبقاء. مثل العوائد الأعلى للاستثمار في الأسواق الناشئة، لتجنب تحويل أموالهم إلى أصول أمريكية أقل خطورة.
هذا يمثل معضلة من ناحية، إن البنوك المركزية تريد حماية الاستثمار الأجنبي في الاقتصاد المحلي. ولكن، من ناحية أخرى، فإن رفع أسعار الفائدة يزيد من تكلفة الاقتراض المحلي ويؤثر على النمو أيضًا.
صحيفة “فاينانشيال تايمز” نقلت مؤخرًا عن بيانات معهد التمويل الدولي، أن “المستثمرين الأجانب واصلوا سحب الأموال من الأسواق الناشئة في آخر خمسة شهور مضت وبشكل متتال، في أطول سلسلة عمليات سحب مسجلة”. سيؤدي التباطؤ المحلي في وقت ما إلى إضرار الإيرادات الحكومية. وبالتالي يمكن أن يؤدي إلى تفاقم مشاكل الديون.
مشاكل التجارة
على المدى القصير، يمكن أن يؤثر الدولار أيضًا على حركة التجارة. إذ يهيمن على المعاملات الدولية، وتستخدمه الشركات العاملة في الاقتصادات غير الدولارية لتسعير الصفقات وتسويتها. وسوق النفط أكبر مثال على ذلك.
العديد من الاقتصادات النامية تتحمل التغيير في صرف الدولار، لأن سياساتها وإجراءاتها لا تؤثر على الأسواق العالمية. ولكنها تستورد الكثير مما تحتاجه. ما يؤدي إلى تسرب التضخم المستورد إليها.
مع زيادة قوة الدولار، تصبح الواردات باهظة الثمن مقارنة بالعملة المحلية. ما يجبر الشركات على تقليل استثماراتها أو زيادة الإنفاق على الواردات المهمة فحسب.
رغم ذلك، تبدو صورة التجارة أكثر تفاؤلًا بالنسبة للبعض على المدى طويل الأجل، ولكن بصورة غير متكافئة. إذ إن الواردات أغلى وسط قوة الدولار، بينما الصادرات أرخص نسبيًا للمشترين الأجانب.
قد تكون الاقتصادات التي يقودها التصدير، قادرة على الاستفادة من ارتفاع الدولار، لأن التصدير يعزز نمو الناتج المحلي الإجمالي والاحتياطيات الأجنبية، مثل حالة دول الخليج المصدرة للنفط.
كيف يمكن تخفيف وطأة الدولار؟
ينبغي للبلدان أن تعمل على تعزيز وضعها المالي والانخراط في الاقتراض المستدام. والذي يستهدف الحصول على قروض وتوجيهها لأنشطة إنتاجية تغطي تكاليف الاقتراض، وتدر عائدا تنمويا على المدى البعيد.
حتى في الأوقات الصعبة، يمكن لواضعي السياسات إيجاد فرص لتشجيع الاستثمار وتحفيز النمو الاقتصادي، مع تقليل الضغوط المالية.
كما يجب على المجتمع الدولي أن يبذل المزيد من الجهد لتسريع إعادة هيكلة الديون، وقطع شوط طويل لإعادة البلدان إلى مسار مالي أكثر استدامة.