نعتقد جميعًا أن الديانات السماوية الثلاثة “اليهودية والمسيحية والإسلام”، وحدها التي آمنت بالتوحيد، لكن على ضِفاف دجلة والفرات في العراق، عاش “الصابئة المندائيون”، وهم قوم اعتقدوا في وحدانية الإله، وفي وجود حياة بعد الموت، قبل أن تظهر الديانات الثلاثة إلى النور من الأصل، ليعتبرهم البعض أقدم الديانات التي دعت للتوحيد على وجه الأرض، مستنديين على أدلة نقلية من الكتب المقدسة، وأطروحات تاريخية اختص بها “الصابئون” دون غيرهم.
لقرون كان أهل الصابئة، جزء لا يتجزأ من المجتمع العراقي الذي تتعدد أعراقه، عاشوا في السهول وبالقرب من ضفاف الأنهار، لديهم تراثهم الخاص المتوارث جيلًا بعد جيل، يرتدون الأبيض دومًا، حتى أُطلق عليهم أهل “الدين الأبيض”، لكن مع الغزو الأمريكي للعراق، وتشظي البلاد ووقوعه في قبضة التطرف، أصبحت الأوضاع صعبة بالنسبة لهم، وبعدما كان يوجد منهم نحو 100 ألف في العراق، وبضع آلاف يتوزعون في منطقة الأحواز بإيران، فرق الإرهاب شملهم، واضطروا للنزوح والهجرة لدول أخرى خوفًا على حياتهم.
من هم الصابئة المندائيون؟، وما هو تاريخهم وقواعد ديانتهم وطقوسها؟، وهل هناك تقارب بينها وبين الديانات السماوية؟، هذا ما سنتعرف عليه في التقرير التالي:
ديانة غامضة
لا يوجد تأريخ أو توثيق صادق عن أصول ديانة الصابئة المندائية، لذا تبدو غامضة وكثيرون لا يعرفون عنها شيئًا، لكن بين أهلها تُعرف بأنها أقدم ديانة دعت للتوحيد في تاريخ الأديان، يؤمنون بأن الله واحد، ويؤمنون بالأنبياء: آدم وشيت وسان بن نوح، وإبراهيم عليهم السلام، أما آخر أنبيائهم فهو يحيي بن زكريا، أو “يوحنا المعمدان“.
كلمة “الصابئة”، التي تُطلق عليها فهي من الفعل الآرامي “صبا”، وتعني: تعمّد، أو غطس في الماء، حيث يعد العماد طقس هام جدًا في هذه الديانة، وهي تشبه في ذلك الديانة المسيحية، لكن في المسيحية يكون العماد مرة واحدة بعد الولادة، لكن لدى الصابئة يتكرر العماد مع الأعياد والطقوس المختلفة.
والصابئ في اللغة العربية يُعني: الخارج، بمعنى الشخص الذي خرج عن ملة قومه واتبع دينًا آخر، واعتدنا في الأفلام الدينية العربية أن نشاهد الكفار وهم يقولون لمن اتبع دين الإسلام: “أصبئت عن دين آلهتنا!”.
أما كلمة المندائيين المضافة إلى الصابئة، فهي صفة مشتقة من الكلمة الآرامية “مندأ”، وتُعني: العلم والعرفان، ومن هذا نرى أن لغتهم لهجة هي مزيج من الآرامية والبابلية إحدى لغات الحضارة العراقية القديمة.
تكتنف نشأة هذه الديانة الغموض، وهناك من يعتقد أنهم سكنوا حول نهري دجلة والفرات، وأخذوا الكثير عن المثيولوجيا البابلية، واحتكوا باليهود الذين كانوا جيرانهم بذات المنطقة، وكذلك بـ “النساطرة” المسيحيين، وهو ما يفسر تشابه الكثير من الطقوس والعبادات بين الصابئة المندائية وبين اليهودية والمسيحية.
وأكثر الأنبياء ارتباطًا بهذه الديانة هم آدم وإبراهيم، ويقولون إنه ورد في كتابهم المقدس “كنز ربا” وتعني الكنز الكبير، صحف آدم أول الأنبياء، كما احتفظوا بصحف النبي إبراهيم، ومارسوا الطقوس التي سنها، بل وذُكر أن جزء منهم رحلوا معه إلى مدينة حران في بلاد الشام، سوريا حاليًا.
وهناك اعتقاد آخر، بأن الصابئة المندائيين من سكان منطقة البحر الميت، والتي تمتد من فلسطين إلى شرق الأردن، وأنهم كانوا يتعمدون في البحر الميت قبل نزوحهم إلى جنوب العراق.
الله واحد حي مهيمن
يؤمن المندائيون، بوحدانية الله، ويطلقون عليه الكثير من الأسماء منها: الحي، الأزلي، المزكي، المهيمن، الرحيم، الغفور، الحي، العظيم، والتعميد أحد الطقوس الرئيسية لدى الصابئة، ولديهم أيضًا صلاة خاصة، ويصومون ويتصدقون.
وتقول ديانة الصابئة، إن الله الحي العظيم انبعث من ذاته، وبأمره وكلمته تكونت جميع المخلوقات والملائكة التي تمجده وتسبحه في عالمها النوراني، وبأمره أيضًا خُلق آدم وحواء من الصلصال، عارفين بتعاليم الدين الصابئي، أمر الله آدم بتعليم هذا الدين لذريته ليقوموا بنشره من بعده.
طقوس المندائية
أما طقوس المندائية، فموجودة في أكثر من كتاب وهي على ثلاث مجموعات: واحدة مقتبسة من كتاب “كنزا ربا ” المقدس، والمعروف أيضا بـ “سِدرا إِدْ آدم” بمعنى صحف آدم، ويجمع بين طياته صحف الأنبياء الذين يؤمنون بهم: شيت بن آدم وأنوش بن شيت وإدريس ونوح وإبنه سام وإبراهيم وزكريا ويحيي آخر أنبياء الصابئيين، وينقسم إلى جزئين الأول يحمل التعاليم والتحذيرات والوصايا وقصة الخلق والنشوء، ومستوحى من صحف آدم وشتيل بن آدم “شيث” ونبي الله إدريس، والثاني يتناول قصص خاصة بالحياة قبل وبعض الموت.
وضمن المجموعة الأولى كتب أخرى هي: “دراشا إد يهيا “، بمعنى دروس النبي يحيي، وديوان “أباثر” و”آلما ريشايا ربا” و”آلما ريشايا زوطا”، وهي كتب تتناول أحوال الدنيا والحياة بعد الموت، هذا بخلاف بعض الدواوين الصغيرة.
أما المجموعة الثانية فتتضمن العبادات والطقوس الدينية الخاصة بالمندائية، ومنها: “سيدرا إد نشماثا” بمعنى كتاب الأنفس ، ويختص بطقوس العماد، ومراسم الزواج، وكتاب “القلستا” وفيه الأدعية والتراتيل الخاصة بهم، وكتاب ” قداها ربا” بمعنى الصلاة العظيمة وكتاب “ألف وتريسار شيّاله” ويتضمن الأخطاء التي يرتكبها رجل الدين، والتقويم المندائي السنوي.
وتختص كتب المجموعة الثالثة بالمعرفة والتاريخ وهي: “كتاب تحديد أوقات الشر للناس والمدن”؛ و”حران كويثا” الذي يستعرض هجرة الناصورائيين، وبعض التواريخ للأحداث الفلكية السابقة واللاحقة.
مزيج من الديانات
لا تخفى أوجه التشابع بين الصابئة المندائية، والأديان السماوية الثلاث، فهي تتحدث عن التوحيد والحياة بعد الموت، وتحرم السرقة والزنا والكبائر، ولا يجوز لديهم الزواج من شخص يؤمن بدين آخر، وحتى الصلاة والصيام موجودين، لكن تؤدى بطريقة مختلفة.
وتتشابه المندائية مع الإسلام في أن بها 5 أركان للإيمان هي: التوحيد والاعتراف بأن الخالق واحد لا شريك له، والتعميد، والصلاة، والصلاة لديهم تُقام 3 مرات يوميًا في الصباح والظهر والعصر، والزكاة تقوم محلها عندهم الصدقة ويُشترط كتمانها وإخراجها في السر، والصوم، ومدته 36 يومًا تمتد طول العام، يمتنعون فيها عن أكل وذبح الحيوانات.
وورد ذكر الصابئة في القرآن الكريم، في آيات منها:
قوله تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ”، سورة البقرة آية 62.
وفي قوله تعالى “إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ”، سورة الحج آية 17.
وورد ذكر النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتاب “كنزا ربا” في موضعين: الأول ضمن أحاديث النبي آدم، عندما تحدث عن نهاية العالم، وما يحدث من دمار وصراعات وانقسامات، والثاني على لسان النبي يحيي الذي ذكر أنه سيكون من أحفاد النبي إسماعيل بن إبراهيم نبي سيحكم العرب ويدعوهم للإيمان والسجود.
أما المسيحية فتتشابه مع المندائية، في طقس التعميد، ورفض الطلاق، إلا بشروط منها: ثبوت الزنا والخيانة والخروج من الملة والموت”، إضافة إلى الصيام حيث يجوز تناول الأكل، ما عدا الحيوانات والأسماك.
ويعتبر الصابئة، أن اليهود انشقوا عنهم، ويطلقون عليهم “يهوطايي” وتعني “الخاطئون”، وبحسب ما ورد في كتبهم، حاول النبي يحيي دعوتهم للتوبة والرجوع للتعاليم، لكنهم قاموا بتحريف كتباهم المقدس وبدلًا من “كنزا ربا” أصبح التوراة.
وتتفق المندائية مع اليهودية في الصلاة 3 مرات باليوم، واعتبار الرجل غير متزوج ليس مكتملًا دينيًا وروحيًا، وأن من يعيش بلا زوجة لا يدخل الجنة.
والديانتين أيضًا غير تبشيريتين، حيث حرمت الصابئة التبشير إثر تعرضهم للاضطهاد من قبل السلطة الزمنية المتمثلة بالحكم الروماني المستعمر لفلسطين آنذاك.
اضطهاد وتهميش
لسنوات طويلة تعرض المندائيون للاضطهاد، منذ العصر الروماني حتى الآن، فلا يوجد اعتراف بهذه الديانة إلا في العراق، وحتى فيها لم يسلموا من التهميش، لكن خلال عهد الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، لم يتعرضوا لأية تهديدات أو اضطهاد ديني، وبعد الغزو الأمريكي للعراق، لم تتغير أوضاعهم كثيرًا، فلا يوجد أي مندائي تولى منصب حكومي، ولم يحصلوا إلا على مقعد واحد بالبرلمان العراقي.
البعض يتهمهم بأنهم من عبدة الكواكب والنجم الأعظم، وأنهم وثنيون، ويقومون بخنق الموتى عند احتضارهم، رغم عقيدتهم التي تؤمن بالتوحيد وبعض الأنبياء، ويصفهم البعض بالأنجاس، ويرفضون مصافحتهم.
ويقول الشيخ جبار ستار حلو، زعيم الطائفة المندائية في العراق، إنه مع انتشار التطرف والعنف في العراق في 2003، بدأت عملية إفراغ بلاد الرافدين من قوميات وديانات عاشت فيها منذ آلاف السنين، وهو ما أدى لانخفاض أعداد المندائيين فيها من 100 ألف إلى 7 آلاف.
وبحسب حسام هشام العيداني، أحد أبناء الطائفة، لم يعاني المندائيون من الاضهاد إلا بعد الغزو الأمريكي للعراق، وانتشار الجماعات المتطرفة، التي اضطرتهم للهجرة من أماكن وجودهم التاريخية على ضفاف نهري دجلة والفرات، ومنهم من ترك البلاد بالكامل، بينما نزح البعض إلى إيران وتحديدًا منطقة الأحواز.