تصرخ إحداهن في وجه الآخر “أنا اللي عملتك. لولا وجودي ما كنت أنت”. تلك العبارة بمثابة الحجر الذي تنكسر عليه علاقات كثيرة. عبارة تحمل معاني كثيرة. لعل أكثرها وضوحًا صفة الخسة أو قلة الأصل في الآخر الذي يتم توجيه الجملة له. فماذا إن قال لك أحدهم إنك قليل الأصل؟ هل ستكمل علاقتك به؟ وهل فعلًا هناك إنسان يصنع آخر؟
نظرية العامل المساعد
من يعرفون المعادلات الكيميائية والتجارب المعملية يعرفون العامل المساعد. وهو المادة أو الظروف التي تهيئ المواد المتفاعلة للوصول إلى النتيجة المطلوبة. وهناك معادلة شهيرة جدًا وهي ماغنسيوم + أكسجين في وجود حرارة يعطي ثاني أكسيد المغنسيوم. فالحرارة هنا هي العامل المساعد لتعطي النتيجة في الوقت المطلوب. لكن ماذا إن لم تكن الحرارة موجودة؟ من المحتمل أن ينتج ثاني أكسيد المغنسيوم ولكن خلال زمن أطول. أو يتكون مركّب آخر لكنه من المؤكد سيتكون من مدخلات التجربة.
البعض قد يعتقد أن الكلام عن العامل المساعد بعيد كل البعد عن موضوعنا. ولكن إن فكرنا أن أدوارنا في حياة بعضنا مثل فكرة العامل المساعد فإن العديد من المشكلات سوف تختفي.
الجملة الشهيرة “أنا اللي عملتك” أكثر الناطقين بها يكون من النساء. خاصة المتزوجات. حيث تعتبر بعضهن أنه لولا وجودها ما كان زوجها. أو أنه لن يصل إلى شيء. وهذه الفكرة هي النار التي تلتهم العلاقة وتفسدها.
تفسد العلاقة من جانبين. الأول لأن هناك طرفا يشعر باستحقاق مطلق وامتلاك للطرف الثاني الذي هو صنيعته من وجهة نظره. أما الطرف الثاني فيرى أن أحدهم ينتزع ملكيته لنجاحه. ويجرده من أي صفة تؤدي للنجاح. فالآخر لا يرى فيه سوى منفذا لخطواته. ومن ثم فهو دونه لا شيء. وهذا يعني أنه بلا قيمة وحده. ولا يوجد إنسان دون قيمة وحده سواء تضاءلت أو كبرت القيمة.
سوء تقدير الذات
التقدير هو نوع من تقييم شيء. سواء التقييم السلبي أو الإيجابي. وسوء التقدير يأتي من المبالغة في التقدير. بأن يعطي شخص أهمية مبالغة لنفسه بشكل عام وأهميته في حياة من حوله.
وفي المقابل تكون هناك حالة من التقليل من الذات وانعدام الثقة الذي قد يتبعه انسحاق للفرد مقابل غيره. في الحالتين هناك سوء تقدير ينتج عنه إما غرور أو انسحاق. وكلتا الحالتين تؤدي لعذاب صاحبها وفشله في إدارة علاقاته.
عندما يشعر الفرد بقيمة أعلى لنفسه فإنه يرى فيها محور ارتكاز للحياة وكل شيء يجري لأنه موجود ولأنه يخطط ويدفع من حوله كلا في طريقه. وتكون النتائج أن هناك سلطة أبوية تنمو داخل الفرد فيرى أن أي فرد يخرج من دائرته هو بمثابة خيانة وحالة من نكران الجميل. وتنطلق اللعنات والاتهامات بقلة الأصل والنذالة وما يعقبها من توصيفات في المسار نفسه.
التجلي الأكبر لمثل هذه الحالة في الزواج. فالزوجة تدعم زوجها وتُسانده وتتخلى عن مشروعها الشخصي لصالح المشروع العائلي. لكنّ تغيرا آخر ينتج إذا كان الطرف صاحب المشروع الذي تم دعمه -الزوج- فإنه بعد تحقق الهدف يجد كثير من الأزواج أنفسهم منجذبين خارج العلاقة الزوجية. إما أن الرجل يكون بحاجة إلى امرأة أخرى تتعامل معه انطلاقًا من قيمته الحالية دون الخوض في طريق الصعود ونضاله الفردي أو المشترك مع امرأة أخرى. وإما أن الرجل يتوجه نحو امرأة أخرى نظرًا للدافع القوي الذي تقوم به امرأته من حالة المعايرة والتذكير بأنه كان صغيرا أو قليل الشأن وأنه نسي أصله.
المعايرة بصغر المكانة أو التذكير بالماضي وقلة الشأن هما خنجر ينغرس في قلب العلاقة. شرخ لا يتم مداواته. لأن هذا التذكير يتبعه تقليل أو يتضمنه. كما أنه ينزع عن الشخص أي جهد أو حلم في سبيل تحققه.
وللأسف كثير من النساء يعمدن إلى هذه الطريقة مع شركائهن لإضفاء الاستحقاق على ما وصل إليه الشريك. أو لتأكيد قلة أصل الطرف الآخر. فالمعايرة لا تتوقف عند حدود علاقة الزواج. بل قد تتسع لتشمل دائرة الأصدقاء خاصة في علاقات النساء بالنساء وهذا الأكثر شيوعًا.
غياب المشروع الشخصي
غالبيتنا يتعلم في المدارس وينسى ما تعلمه. قلة من يجدون رابطا بين التعليم والحياة. ويجدون فيما تعلموه طريقة في حياتهم. فلو راجعنا فكرة العامل المساعد وعرف كل إنسان أن دوره في حياة غيره هو بمثابة العامل المساعد ربما يزيد بأن يكون دوره اكتشاف موهبة وتطوير مهارة. لكن القاعدة الأساسية أن الإنسان الذي وصل إلى مكانة قد وصل إليها بأدوات يملكها. نحتاج أن يساعدنا أحدهم لكن المساعدة لا تعطي صك استحقاق وملكية.
هؤلاء الذين يجدون في أنفسهم استحقاقا وأهمية في مشروع الطرف الآخر -استحقاق أكبر من استحقاق صاحبه- يعاني أكثرهم من غياب المشروع الشخصي. الغياب الذي يجعلهم يختارون أن يبنوا في مشروع غيرهم. ويجدون أي تحقق أو نجاح هو ملكهم بالدرجة الأولى. ولذا تتصاعد نبرة الاستحقاق والمظلومية. فلماذا يختار أحدهم أن يتجاهل أحلامه ويدعم شريكه سواء كان الشريك صديقا أو حبيبا ثم يلومه بعد ذلك. السؤال الأهم دومًا: “لماذا نطالب الآخرين بدفع ثمن اختياراتنا؟”.
النساء هن الأكثر تخليا عن مشروعهن الشخصي وذلك لدعم مشروع الزوج أو الحبيب. ولا أفهم: “لماذا كي ينجح طرف ويظهر نوره يتطلب الأمر أن ينطفئ الطرف الآخر ويختفي؟ لماذا لا يتجاور المشروعان أو يسيران كل في طريقه وإن اختلفت درجة التقدم والنمو؟”
ما لا يراه صاحب مقولة “أنا اللي عملتك” أن هذه الجملة كفيلة بهدم العلاقة. تصبح حروفها أصابع ديناميت موزعة في الأيام والذكرى. تنفجر تباعًا مع تكرار الجملة وقرارات الاستحقاق ونزع الأهلية عن الطرف الآخر.
جميعنا يلعب دور العامل المساعد في حياة بعضنا. نختار أن نتخلى عن أحلامنا لصالح الآخر. أو يمكن للآخر أن يبتزنا عاطفيًا أو يدفعنا للتخلي. ففي كل الحالات فإن الذي يتخلى عن مشروعه ويختار أن يبني في مشروع طرف آخر هو فقط شريك وليس مالكا. عندما نُفكر بمنطق الشراكة يمكننا أن نفهم أننا من نختار وعلينا أن ندفع ثمن اختياراتنا. ونستطيع أن نرى أن الآخر أيضًا بذل جهدا في النجاح. فنقدر جهده هذا التقدير الذي يقابله تقدير. هذا بالطبع لدى الأسوياء.
عندما تختار ادفع ثمن ما تختاره حتى لو كان الخسارة.