مع نهاية شهر أغسطس الماضي، أعلن رسميًا عن فشل عملية طرح شركة غزل المحلة في البورصة كأول ناد مصري يحاول إدراج نفسه في البورصة المصرية، بعدما قدم المستثمرون من الأفراد طلبات تغطي بالكاد 18% فقط من الأسهم المطروحة، وبالرغم من أن الطرح الأول الذي وصل الإقبال فيه لحدود 9% فقط كان قد تأجل بسبب الإقبال الضعيف وانخفاض مؤشرات البورصة المصرية بشكل عام بسبب أزمات الأسواق الناشئة هذا العام، والتي تعاني من تخارج الأموال الساخنة وهروبها للولايات المتحدة الأمريكية بسبب سياسة رفع الفائدة هناك، إلا أن موعد الطرح الثاني لم يغير كثيرًا من موقف شركة غزل المحلة، لتكتب نهاية الطرح وإغلاق تلك الصفحة مؤقتًا.
ما يمثله نادي غزل المحلة من عراقة في كرة القدم المصرية، ووجود جماهير عاشقة له، ومساندة وزير قطاع الأعمال السابق لفكرة طرح شركة كرة القدم في البورصة على اعتبار أن غزل المحلة في الأساس شركة قطاع أعمال عام، لم يشفع هذا كله للنادي ولشركته في تنفيذ طرح ناجح يشجع الأندية المصرية على خطوة النفاذ للبورصة، بل قد يسبب حاجزا نفسيا وتخوفا لدى الأندية من هذه التجربة، وهو ما يستدعي منا أن نحاول فهم السبب، كيف ولماذا فشل طرح نادي غزل المحلة بالبورصة المصرية؟ وكيف تتجنب الأندية هذا المصير في الأعوام اللاحقة؟.
منذ إقرار قانون الرياضة والهيئات الشبابية الجديدة في عام 2017، والذي صرح للأندية بإنشاء شركات مساهمة لنشاط كرة القدم، والمعنيين بملف الرياضة والاستثمار الرياضي يتابعون عن كثب وترقب أول محاولة لإنشاء شركة كرة قدم وطرحها في البورصة، باعتبارها ستكون سابقة تاريخية في علاقة الأندية الرياضية المصرية بالاستثمار، بعد التعديل القانوني الذي تم، والذي يغير قليلًا من صفة النفع العام، وإن كانت هناك حاجة لدفع الأندية للتحول الرأسمالي الكامل، بدلًا من أن تكون النسبة المتاحة للاستثمار أقل من نصف حصة الملكية للأندية الأهلية بحسب القانون.
يمثل إذًا هذا التعديل الجزئي في علاقة الدولة بالأندية الرياضية وبالاستثمار الرياضي ما يمكن اعتباره مذكرة توضيحية لمشكلة تلك العلاقة ومكامن النقص فيها، فبرغم جماهيرية نادي غزل المحلة داخل مدينة المحلة، ووجود ذلك النادي ضمن القائمة القليلة المتوجة بلقب بطولة الدوري المحلي المصري، إلا أن وضع هذا النادي وشركته لا يمثل أي فرصة لتحقيق عوائد أو أرباح ممكنة، تستطيع جذب الأموال لهذا النادي.
فبداية يقع نادي غزل المحلة ضمن الأندية الثلاثة الأقل من حيث القيمة السوقية ضمن أندية الدوري المصري، حيث تبلغ قيمته السوقية 4.7 ملايين يورو فقط، بينما تبلغ القيمة السوقية للأهلي 33 مليون يورو، والزمالك بـ23 مليون يورو، بحسب تقديرات شبكة ترانسفير ماركت العالمية.
هذا الفارق الكبير والضخم في القيمة السوقية يعود جزء كبير منه لعدم وجود فريق قوي لدى النادي يستطيع أن يحقق أرباحًا من سوق الانتقالات أو من خلال المشاركة في البطولات القارية ذات عوائد البث وأرباح المشاركة الكبيرة، ولا يستطيع هذا الفريق أن يجذب علامات تجارية شهيرة وكبيرة تستطيع جلب الأرباح للنادي من خلال بنود الإعلانات أو الرعاية أو تحقيق أرباح من خلال بيع قمصان اللاعبين كما يحدث في أوروبا مثلًا.
إذًا لا توجد مصادر واضحة تمكن النادي من تحقيق الأرباح، وتمثل جاذبية للاستثمار والطرح في البورصة، وهي النقاط الهامة التي يهتم بها المستثمرون في المقام الأول قبل أي شيء، وهي لغة الاحتراف البعيدة عن أداء الهواة.
قد تنجح تلك التجربة لاحقًا مع أندية الأهلي والزمالك وقد يتحقق طفرات في البورصة المصرية من خلال طرح الناديين الكبيرين داخل البورصة، نظرًا للقيمة السوقية المرتفعة لديهما، وبرغم العجز والفارق بين ما تحققه تلك الأندية من أرباح وما تنفقه على سوق الانتقالات السنوي، بواقع خسائر 227 مليون جنيه لميزانية النادي الأهلي في العام الماضي و267 مليون جنيه خسائر للزمالك في ميزانية العام الماضي، إلا أن هناك ما يضمن عند تحقيق الحوكمة الإدارية والاستثمارية تحقيق طفرات للناديين الكبيرين، لاسيما مع دخولهما المسابقة القارية الجديدة “السوبر الأفريقي” والذي يحقق أرباحًا ضخمة من بداية المشاركة وحتى التتويج بالبطولة، وهو ما لا يتوفر لدى معظم الأندية المصرية، ولاسيما الجماهيرية والتي تعاني بشدة من تراجع الإيرادات وتراكم الخسائر والعجز.
إذا وجهنا أنظارنا تجاه إنجلترا، سنجد أن وضع الأندية الرياضية هناك قبل التحول الرأسمالي الكامل كان يشبه لحد ما الوضع داخل الرياضة المصرية حاليًا، حيث يتولى رئاسة الأندية رجال أعمال أثرياء يديرون النوادي بعقليات الهواة، ينفقون الأموال على الانتقالات واستقطاب اللاعبين اللامعين، لتحقيق الوجاهة الاجتماعية داخل مدنهم ومجتمعاتهم، من خلال ذلك النشاط، حتى استطاع مارتن إدواردز الرئيس التاريخي لنادي مانشستر يونايتد من تغيير تلك القاعدة مع بدأ المرحلة النيوليبرالية في بريطانيا التي أطلقتها رئيسة الوزراء التاريخية مارجريت تاتشر.
تمكن إدواردز من استقطاب العديد من الشركات والرعاة لوضع إعلانات بمبالغ مهولة على قميص الفريق مثل شركة شارب اليابانية التي كانت تمتلك مصنعًا ضخمًا في مدينة مانشستر، وأصبحت عملية التفاوض على الإعلانات وقيمتها من اختصاصات الإدارة المحترفة والمتخصصة في الاستثمار، وليست أمر متروك للمدربين والرياضيين، كما تعاقد مع شركات لتصنيع ملابس الفريق، بدأت متواضعة بعقد قيمته 15 ألف جنيه استرليني مع شركة أدميرال، حتى أصبح هذا البند يحقق ربحًا قدره 300 مليون جنيه استرليني عام 2000 مع شركة نايك الأمريكية.
قررت الإدارة المحترفة لمانشستر أن تستغل العوائد في أصول وأنشطة تدر أرباحًا على النادي بشكل مستدام بدلًا من إهدارها في مكافئات للاعبين والمدربين، طرحت الإدارة النادي في البورصة، واستطاعت تحقيق عوائد ضخمة، مكنتها من تجديد ملعب النادي وزيادة مقاعده، واستغلاله في إقامة الحفلات وتأجيره للأثرياء لتحقيق مزيد من العوائد والأرباح، ما جعل أرباح النادي في منتصف التسعينيات أكبر من رأسمال ناديي ليفربول وأرسنال مجتمعين، رغم تفوق الأخيرين على مانشستر في عدد البطولات والألقاب المحققة.
ومع الوقت أصبح نموذج مانشستر يونايتد في التحول الرأسمالي الكامل هو المسار الذي اتخذته الأندية الأوروبية وتحديدًا في الدوريات الكبرى لتحويل الرياضة لصناعة تجارية ترفيهية تحقق عوائد وأرباحا استثمارية فضلًا عن قيمتها الترفيهية، وأصبح تعاقد الأندية مع الشركات المصنعة للملابس الرياضية مثل نايكي وبوما وأديداس هو أحد أهم بنود الاستثمار داخل النادي، والتي تحقق عوائد كبيرة للنادي وللشركات المتعاقدة معه بالطبع.
ليفربول على سبيل المثال متعاقد حاليًا مع شركة نايكي الأمريكية لتصنيع ملابس الفريق، وهو ما يحقق له 200 مليون دولار سنويًا خلال سنوات التعاقد الخمسة فضلًا عن نسبة 20% من المبيعات -وليس الأرباح- وهي النسبة الأكبر لأي نادي في العالم، حيث يبلغ المتوسط نسبة من 7.5% إلى15% من الأرباح لكنه خاضع أيضًا في قدرات النادي على التسويق وحسن التفاوض وجذب العقود المميزة، لا سيما وأن الأندية تحقق بالفعل ملايين المبيعات لقمصان اللاعبين سنويًا كما توضح الصورة القادمة.
عوائد البث للمباريات أيضًا تساهم في فهم الفارق الكبير بين فوائد التحول الرأسمالي الكامل على الاستثمار الرياضي وبين العوائد والأرباح المحققة في الحالة المصرية، فمثلًا هذا الانفوجراف يوضح حجم عوائد بث الدوري الإنجليزي والأرباح التي تحققها الأندية من خلال البث التلفزيوني في عام 2018 – 2019، والتي تصدرها مانشستر سيتي بواقع 148 مليون جنيه استرليني.
بينما هذه أرقام عوائد البث من النسخة الماضية للدوري المصري:
هذا الفارق الضخم بالإضافة لحجم الانتشار والشهرة حول العالم يفسر سبب جاذبية الأندية الإنجليزية خصيصًا والأوروبية بشكل عام لصناديق الاستثمار العربية التي تضخ أموالًا طائلة في تلك الأندية رغم قواعد اللعب المالي النظيف التي تقيد لحد ما تلك النفقات وتربطها بالأرباح وعوائد النادي، صناديق الاستثمار السعودية والإماراتية والقطرية تتنافس بشدة على شراء الحصص الحاكمة من الأندية الكبيرة في أوروبا مثل مانشستر سيتي وباريس سان جيرمان ونيوكاسل يونايتد وغيرها، فضلا عن الأفراد ورجال الأعمال من الجنسيات المختلفة الساعين لنفس التواجد، منهم مثلًا رجل الأعمال المصري ناصف ساويرس والذي يمتلك نادي أستون فيلا ويحقق أرباحًا كبيرة من خلال عوائد بيع اللاعبين في سوق الانتقالات.
مجرد طرح الأندية في البورصة دون تحول رأسمالي حقيقي في قواعد الملكية وفي ترتيب مداخيل الأندية وإيجاد موارد حقيقية من تصنيع الملابس الرياضية وقمصان الفرق وحماية العلامات التجارية وتمكين الأندية من عوائد المباريات، وغيرها من الأدوات الاستثمارية، هي ما ستمثل نجاحًا للأندية في دخول البورصة وإنهاء علاقتها المتناقضة بالدولة، وتضع حدًا للنفقات الضخمة على عقود اللاعبين بدون عوائد مضمونة، فهم القضية بشكل جيد هو ما سيمنع من تكرار فشل شركة غزل المحلة ويضع الاستثمار الرياضي داخل مصر في المكان الذي يستحقه.