إضافة إلى السحر الكامن في مشاهدة الأفلام من داخل قاعة السينما، وسط الظلام والمؤثرات الصوتية وأنفاس المتفرجين المبهورة، فإن ثمة سحرا آخر إضافيا في أن تشاهد الأفلام العالمية مبكرا فور إطلاقها، قبل أسابيع أو شهور من وصولها إلى بلادك، فضلا عن تلك التي قد لا تصل أبدا فلا يعود بإمكانك مشاهدتها إلا عبر الشاشات الصغيرة للمنصات الفنية، أو مقرصنة -ومنخفضة الجودة- عبر مواقع الإنترنت.
كان هذا ما دفعني منذ وصلت إلى هنا كمشارك في برنامج الكتابة الدولية في مدينة آيوا الأمريكية، إلى الالتزام بمشاهدة الأفلام في قاعات العرض السينمائية، بعد انقطاع طويل عن دخول تلك القاعات في مصر، لأسباب عديدة منها الكسل، وارتفاع أسعار تذاكر دور العرض مع انخفاض جودة القاعات، وأيضا -لنعترف- سوء سلوكيات المشاهدة لدى كثير من المتفرجين.
زادني حماسا، التخفيض الذي تمنحه دور السينما للطلاب هنا-ومنهم المشاركين من أمثالي في البرامج الجامعية- لمشاهدة الأفلام في دور السينما ليلة الجمعة بسعر مخفض للغاية (4 دولارات فقط)، بينما يبلغ سعر التذكرة “العادية” 12 دولار في المتوسط. أي ثلاثة أضعاف التذكرة المخفضة، لكنه يبقى بالطبع سعرا زهيدا للغاية بالنظر إلى متوسطات الدخول الأمريكية، يشابه أن تحضر فيلما جديدا في سينما مميزة فلا تدفع أكثر من 15 جنيها لا غير، أو 4 جنيهات لو كنت طالبا. وإذا كان ثمة ما يبرر انخفاض الأسعار بأننا نتكلم عن أميركا،أهم بلد في صناعة السينما. فإن مصر –يفترض أنها– بلد صناعة أيضا، وهي واحدة من الدول القلائل في العالم التي لديها صناعة سينما قائمة بذاتها وقادرة على تحقيق الأرباح من دون دعم الدولة، ومع ذلك فإن أسعار التذاكر صارت مشكلة إذا كنا نتكلم عن تذكرة فرد، وكارثة إذا كنا نتكلم عن رغبة أسرة كاملة في زيارة السينما، كنشاط ترفيهي مشروع، ومطلوب.
في الجمعة الأولى، ذهبنا إلى أحد دور السينما الصغيرة، الملحقة بمركز تجاري، لمشاهدة “Three thousand years of longing” للمخرج جورج ميلر، بطولة إدريس إلبا وتيلداسوينتون، الذي يدور في أجواء ملحمية فانتازية شبيهة كثيرا بعالم ألف ليلة وليلة،مستندا إلى قصة قصيرة لـ A. S. Byatt نشرت سنة 1994.
لكننا فوجئنا بعدم عرض الفيلم، نتيجة لمشكلة تقنية، مما أثار الضحك والنكات، حول “النحس” تارة، وحول المشكلات العالمية التي تواجه صناعة السينما ودور العرض تارة أخرى. وعرض علينا الشاب الصغير العامل في دور العرض، أن نشاهد أحد أفلام سلسلة “سبايدرمان” المعروض في قاعة أخرى، فضحكنا مجددا، ووعدناه بالعودة في الأسبوع القادم.
هكذا ذهبنا لحضور الفيلم المسلّي في الأسبوع التالي، وفي الأسبوع الذي يليه شاهدنا فيلم الرعب والإثارة “Nope”، أحدث أفلام المخرج جوردان بيل، ومن بطولة نجمه المفضل دانييل كالويا، بطل فيلم بيل الأول “Getout”، كان الفيلم عند حسن الظن به، مسليا ومثيرا، يحتفظ بلمسة الرعب غير العادية التي تميّز أعمال بيل، ويمزج في “خلطة مميزة” بين أجواء الغرب الأمريكي وعالم مسلسلات التلفزيون وحكايات الكائنات الفضائية.
كثير من محبي السينما، أو على الأخص، محبي الحضور في القاعات، يعرفون أن أحد أهم أجواء تلك التجربة هي مشاهدة فقرة إعلانات الأفلام التي ستعرض قريبا، أو التي تعرض حاليا في قاعات أخرى، بالطبع، كما لك أن تتوقع، كان هناك الكثير من الإعلانات لأن هناك الكثير من الأفلام، لكن بعد الإعلانات، وقبل بدء عرض الفيلم، كان هناك شيء آخر:
رسالة مسجلة، من أحد المنتجين المشاركين في فيلم “Three thousand years of longing”، ورسالة أخرى من مخرج الفيلم، وكذلك من أحد العاملين في الشركة المالكة لقاعة العرض التي شاهدنا فيها فيلم “Nope”، فماذا كانت تقول هذه الرسائل؟
كانت هذه الرسائل توجه الشكر للمشاهدين الحاضرين في القاعات، تؤكد لهم أنهم هم الذين ينقذون الصناعة، وأنهم بحرصهم على قطع التذاكر والذهاب إلى القاعات يبقون الصناعة حية، ويحافظون على قوتها في مواجهة التحديات، تحديات المنصات، والأزمات التي سببها الكوفيد، بالإضافة إلى المتاعب الاقتصادية المتراكمة.
رسائل رصينة، هادئة، لكنها مبهجة رغم ذلك، تعلن وتقر للمشاهد في القاعة أن دوره مهم ومقدّر، وأنه، تماما كالمخرج والممثل والمنتج، جميعا أجزاء من عملية الإنتاج والصناعة ثم الفرجة والمتعة والثقافة. رسائل مهمة، يعرف أصحابها أن الجمهور، والمبالغ التي يقتطعها من جيبه، صغرت أو كبرت، هي الأساس في عملية الصناعة التي إن تم إنقاذها –رغم أن مشكلاتها لا تقارن بمشكلاتها في بلادنا– فسوف يكون ذلك الإنقاذ بيد المتفرج.
انتهت الرسائل، لكن قبل عرض الفيلم كانت هناك رسالة صامتة على الشاشة، مكونة من ثلاث فقرات، تطلب من المشاهدين:
1- عدم التحدث.
2- عدم تصوير فيديوهات الـ تيك توك.
3- عدم استخدام الهاتف في كتابة الرسائل أثناء العرض.
لكن ما لم أتوقعه قبل دخولي القاعة التي حضرت فيها فيلم جورج ميلر، هو كم كانت صغيرة، ربما لا يزيد عدد مقاعدها عن العشرين، تحتل أربعة صفوف طولية، ورغم صغر حجم القاعة، كانت الكراسي فائقة الراحة والاتساع، حتى بذلك السعر المخفض للتذكرة، حتى أنني منعت نفسي عدة مرات من الغرق في النعاس داخل الكرسي الواسع، كانت القاعة الأخرى حيث حضرنا فيلم جوردان بيل أكثر اتساعا، بعدد أكبر من الكراسي، لكنها بقيت –في المتوسط– صغيرة، وبقيت كراسيها بنفس الوسع والراحة. كراس، وتجربة عرض، وجودة مؤثرات، يعرف القائمون عليها أن المشاهد، الخارج من بيته ليذهب إلى ضيافتهم في قاعة العرض، هو مفتاح حل أي أزمات، وأن المستهلك هو وسيلة الإنقاذ الأهم لأي صناعة.