حافظ المصريون على مدار تاريخهم، على علاقة “متفردة” مع الدين، فاستطاعوا “تمصير” كل الأديان التي آمنوا بها، وجعلوها جميعًا ذات طبيعة خاصة بهم، لا ينازعهم فيها أحد، بعيدًا عن سطوة النصوص، ووساطة الجماعات المتشددة، فلم تصبح مصر “إيران الشيعية” أو “السعودية الوهابية”، لكن السنوات العشر الماضية، شهدت تغيرًا كبيرًا في “تدين المصريين”، ظهروا به أكثر تشددًا وعنفًا، ووقعوا فريسة للجماعات المتشددة.
التدين الشعبي
في العهود الحديثة، بُنيت علاقة المصريين بالدين على محددات خاصة ومبادئ عامة، أقرب إلى التصوف، بطبيعته السمحة وقبوله الآخر بعيدًا عن العصبية والعنجهية المذهبية، استنادًا إلى طبيعة الشعب البسيطة، ورؤيته المرنة للأمور والقضايا، وبعده عن كل ما يحرض أو يدعوا إلى التشدد والعنف، فكانت كلمات كـ”ربك رب قلوب، ويا عم صلي على النبي في قلبك، وإنما الأعمال بالنيات”، مبادئ يؤمن ويعمل بها المصريين.
أستاذ علم الاجتماع بجامعة الفيوم الدكتور شحاتة صيام، عرف الدين الشعبي، في كتابه “الدين الشعبي في مصر”، بأنه “إسلام الطبقات الشعبية الضعيفة، التي تبتعد عن الإطار الرسمي والحياة اليومية، وتنغمس فى الحياة الروحية”، مشيرًا إلى أنه تدين خارج إطار المؤسسات، متحرر من أي وصاية، وأنه منتج شعبي يهدف إلى مقاومة كل سلطة دينية.
وذكر أستاذ علم الاجتماع، أن الدين الشعبي يُعتبر أداة من أدوات العوام وغيرهم لحل مشكلاتهم بطريقة ذاتية، مبينًا أنه جاء كرد فعل للتعامل مع المشكلات الصعبة التي تقف حائلًا أمام إشباع الاحتياجات الاجتماعية، وأنه نوع من الهروب إلى الدين باعتباره ملاذًا لتحقيق الاحتياجات الاجتماعية.
وأشار شحاته، إلى أن نمو التيارات السلفية في المجتمع المصري، ليس دليلًا على أنها تمثل “تدينًا شعبيًا”، لأن التدين الشعبي قائم على التحرر من السلطة الدينية وسطوة النصوص، وهو الأمر الذي لا تقدمه السلفية أو تيار الاسلام السياسي الذي يسعى إلى فرض سلطة على المجتمع، على عكس الحركة الصوفية.
طه حسين
سوزان طه حسين، زوجة عميد الأدب العربي، فسرت “التدين الشعبي” بصورة غير مباشرة في كتابها “معك”، والذي يرصد رحلتها مع زوجها، وأحوال المجتمع المصري في بدايات القرن العشرين، إذ تقول: “تعرفت على حمويّ وكانا يعيشان في كوم أمبو قريبًا من أسوان، واللذان استقبلاني بحرارة، وبعد تبادل التحيات التقليدية مع الزائرين المجاملين الفضولين، قال عمي لابنه سأخرج مع زوجتك فلا تنشغل بنا وتناول زراعي وقمنا معًا بجولة في البلدة”.
“لن يبدو أمرًا خارقًا لشباب اليوم أن يتنزه شيخ وقور معمر مع امرأة شابة سافرة أجنبية ومسيحية تعتمر القبعة، لكنه كان كذلك في تلك الحقبة، ولم أنسى هذه اللفتة على الإطلاق، عندما يتحدثون عن التعصب الإسلامي لا أملك نفسي عن الابتسام أو الغضب”، هكذا رأت موقف العجوز الذي لن يخشى على نفسه من هجوم متشدد يتهمه بـ”الدياثة“.
سوزان، وصفت والد زوجها بأنه كان ذا مهنة بسيطة، ويحب القراءة والحوار مع الوجهاء، مشيرة إلى أنه لم يجعلها تدهش للاحترام الذي كان يلقاه في القرية.
الموقف الأكثر مرونة ويبرز طبيعة المصريين في تلك الفترة، كان لوالدة طه حسين، والتي تقول الكاتبة فيه، إنها لم يكن بوسعها أن تتخيل أن حماتها، المسلمة المتدينة يمكن أن تسأل طه عن أي نوع من النبيذ يجب شرائه من أجلي، ورغم أنها أجابت بأنها لا تشرب الخمر، إلا أنها بدت متأثرة من الاهتمام الودي الذي أحاطت به، رغم اختلافها الديني، والمظهري عن أولئك البسطاء في أقصى جنوب مصر.
الإخوان والسلفيين
الغزو على التدين الشعبي، بدأ قبل أكثر من 80 عامًا، وتحديدًا مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين، والتي بدأت “نخبوية” إلى حد بعيد داخل الجامعة وعبر الكتب التي تمرر أفكار مرشدهم حسن البنا إلى الطلاب والشباب، بل وأسست تيارًا فكريًا على يد سيد قطب.
في تلك الفترة لم يكن الكثير من المصريين نالوا حظهم من التعليم، مما جعل هناك حاجزًا بين انتشار أفكار الإخوان لدى عموم الشعب بكل طوائفه، ثم جاءت فترة الخمول “القسري” مع سجن الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر، أعضاء الجماعة بتهم مختلفة، حتى قرر الرئيس محمد أنور السادات، وفتح الباب للإسلاميين على مصرعيه بحجة مواجهة الشيوعيين.
خطوة السادات، تزامنت مع نجاح الثورة الإيرانية، وإشعاع أصدائها في المنطقة، وصعود تيار الصحوة في السعودية، ليقع الشباب المصري الذي يعاني من الفقر بسبب الغلاء الذي صنعه الانفتاح الاقتصادي، وتحول الدين إلى ما يشبه مسكن أو كما يقول كارل ماركس “أفيونا للشعوب”، فمن لم ينل حظه بالدنيا سيفوز بالجنة.
اللجوء إلى بلاد النفط، بدأ يغير شكل المصريين إلى حد بعيد، فأصبحت الحواجب الكثيفة والذقن الطليقة والجلباب الأبيض والزبيبة التي تغطي منتصف الجبهة، الصورة النمطية للمتدين، ليفقد معها الإسلام سماحته ويصبح أكثر غلظة، ليبدأ المظهر الجديد يستشري في البلاد وبخاصة في القرى النائية والنجوع الفقيرة حيث الجهل والفقر والمعاناة.
ومع حلول الألفية الثالثة، وظهور القنوات الفضائية، وقرار الدولة بغض الطرف عن الجماعات السلفية، وجد السلفيين منبرًا جديدًا لأنفسهم يمكنهم من غزو عقول المصريين بشكل أكبر وأقرب، محاولين القيام بتغيير العلاقة الشعبية “النمطية” مع الدين، وإصدار الفتاوى والمواعظ من أصحاب المذاهب المتشددة، والتي أخذت شكلا هجوميا مع الصوت العالي والصراخ والتهديد بالنار والويل والثبور وفساد الإسلام.
المواقف السابقة صنعت نوعًا جديدًا من الإرهاب هو الإهاب الفكري، خصوصًا في ظل صعوبة الوصول إلى المعلومة ومناقشتها بالشكل الموجود حاليًا، وعمد شيوخ الرحمة والناس واقرأ وغيرها في تكريس أنفسهم للجمهور، مدعيين بأنهم حامليين لواء “الدين الصحيح”، في الوقت الذي خفت فيه نجم المؤسسات الدينية، وأصبحوا يواجهون اتهامات بـ”التميع”، وإفساد الدين من أجل الحاكم.
الموقف بدأ يسوء بشكل أكبر مع نجاح ثورة 25 يناير عام 2011، وتصدر الإخوان والسلفيين مقدمة المشهد السياسي، ومن ثم بدأو في فرض وصياتهم الخاصة على المجتمع، والدخول في نزاع على “دين الشعب”، ولكن تغير المشهد وسقوط الإخوان من كرسي الحكم، أعاد المتشددين إلى مقاعدهم القديمة، لكن بعد أن تمكنوا من تغيير “التدين الشعبي”، والذي أصبح أكثر عنفًا وتطرفًا عن ذي قبل، ليحتاج الشعب إلى من يخلصه من الفيروسات التي أفسدت عقله وقلبه.
السياسة والدين
ورأت أستاذ علم الاجتماع الدكتورة نبيلة سامي، أن الخلط بين السياسة والدين في السنوات الماضية أدى إلى خروج كل منهم من منظومته إلى إطار آخر، ليفسد كل منهما الآخر، منوهة إلى أنه من المعروف أن الشعب المصري عاطفي، إلى درجة كبيرة، لذلك تم التأثير عليه من خلال الدين، ما أدى إلى وقوع فئات عديدة فريسة في يد التيارات المتشددة.
وأشارت سامي، إلى أن اللعب على منظور الجنة والنار والثواب والعقاب كان الطريق الأسهل للوصول إلى الناس، ومن ثم تم مدهم بأفكار دينية خاطئة للوصول إلى منظومة سياسية أكثر خطأ؛ خصوصا في السنوات العشر الماضية، لافتة إلى أن انشغال الأسر وتركيزهم على الناحية الاقتصادية، وابتعادهم عن توعية أبنائهم أدى في النهاية انتشار العنف الديني.
وشددت أستاذ علم الاجتماع، على ضرورة عمل إعادة صياغة لتفكير الإنسان بداية من الأسرة والمدرسة والمعلم والإعلام، لمواجهة ظاهرة “العنف” سواء اللفظي أو الجسدي، مؤكدة أنه لا بدة أن تتضافر الجهود في هذا الإطار لتخليص المجتمع من السلبيات التي لحقت به من كل المؤسسات في مقدمتها “الأزهر والتعليم والإعلام”، لتكون تنشأة الطفل مختلفة، وإخفاء ظاهرة العنف، منعا لسيطرة أحد على المجتمع عموما والشباب خصوصا من جديد.
تأثير محدود
الباحث في شؤون الحركات الإسلامية سامح عيد، أوضح في تصريحات، أن الفكر المتشدد يتراجع بنسبة كبيرة في المجتمع، وأن الشعب المصري أصبح رافضًا لهذا الفكر، مشيرًا إلى أن قدرة تلك التيارات على جذب الشباب إلى صفوفها أصبحت محدودة في ظل “العولمة”، وعدم اعتداد الشباب بالآراء التي تُحرم الموسيقى والتصوير مثلًا، بسبب طبيعتهم المختلفة في العصر الحالي.
وشدد عيد، على أنه يجب على الدولة اتخاذ خطوات جادة لتطوير التعليم، قائلًا: “قناعاتي أن الدولة مُقصرة، فالخلافة الإسلامية تُدرس للصف الثاني الإعدادي، ما يجعل الشباب ينشأ على تلك الفكرة”، مؤكدًا على ضرورة بذل جهد على مستوى التعليم والإعلام لبيان الحقيقة للناس، والرد على الأفكار المتشددة لتخلصيهم منها، وتحويلهم إلى اتجاه التنوير.